«فرانكنشتاين» نسخة ديل تورو: طموحٌ جامحٌ لم يأتِ بجديد

بدأ المخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو (مواليد 1964) مسيرته في تسعينيات القرن الماضي. وقد عُرف ببصمةٍ فريدةٍ ميَّزته عن غيره من المخرجين، حيث مزج الدراما العميقة بالخيال، والرعبَ بالرومانسية، وعوالمَ الأساطير والوحوش بالبعدِ المأساوي، وأحيانًا، قدَّم كل ذلك ضمن سياقٍ درامي معاصر وأحداثٍ تدور في العصر الحديث، وإن ظلَّت عوالمُ العصر القوطي هي الأثيرةَ لديه على الدوام. كما حرص كل الحرص على الاهتمام بجماليات الصورة في أفلامه. ومن هنا، يُلاحظ في أعماله مدى بهاء ورونق أغلب كادرات أفلامه التي تتميَّز بألوانها المبهرة، وديكوراتها الفخمة، وتوظيفها لمؤثراتٍ بصريةٍ فريدة وموسيقى رائعة. إجمالًا، يمكننا القول إن شغف واهتمام المخرج البالغ بأدق التفاصيل ينعكس بوضوحٍ في أغلب اللقطات، سواء تلك الموجودة في عمق الكادر أو على أطرافه.

الجدير بالذكر أن غييرمو ديل تورو نافسَ من قبل في "مهرجان البندقيّة السينمائي" عام 2017 بفيلمه البديع «شكل الماء» (The Shape of Water)، الذي نال عنه جائزة ”الأسد الذهبي“، ثم جائزة ”أوسكار أفضل مخرج“، إلى جانب جوائز أخرى مستحقة. وها هو يعود في دورة المهرجان لهذا العام للمنافسة على ”الأسد الذهبي“ للمرة الثانية بفيلم «فرانكنشتاين» (Frankenstein)، وهو من نوع أفلام الخيال العلمي القوطي الأثيرة لديه. الفيلمُ مستوحى من الرواية الشهيرة ”فرانكنشتاين“ الصادرة عام 1818، للكاتبة البريطانية ماري شيلي، والتي تتناول قصة العالم فيكتور فرانكنشتاين الذي يصنع كائنًا من أجزاءَ بشريةٍ ميتة، ليواجه لاحقًا تداعيات مخلوقِه الذي يخرج عن السيطرة.

وكما هو معروف، فقد جرى اقتباس رواية "فرانكنشتاين" للكاتبة ماري شيلي إلى السينما عشرات المرات، وذلك منذ عصر السينما الصامتة. مما جعل الرواية واحدة من أكثر الأعمال الأدبية اقتباسًا في تاريخ السينما، إلى حدٍّ يكاد يجعلها مُستهلكةً تقريبًا. ومع ذلك، يبدو أن الرواية لا تزال مصدرَ إلهامٍ وإغواءٍ للكثير من المخرجين الواقعين تحت تأثيرها، وسحر شخصياتها، وأحداثها الفريدة، ويأتي ديل تورو آخر هؤلاء المخرجين، إذ ظلَّ هذا الفيلم حلمًا يراوده منذ سنواتٍ بعيدةٍ، ولم ييأس أو يتكاسل أو يهدأ حتى خرجت نسخته إلى النور. وقد جاء هذا الإصرار الكبير تأكيدًا على أن المخرج يملك فعلًا ما يود قوله والتعبير عنه فنيًا عبر فيلم «فرانكنشتاين»، سواء عبر طرحٍ جديدٍ لم يتناوله في أفلامه الماضية، أو عبر تجسيدٍ مختلفٍ رأى فيه ما لم يُطرح من قبل في نُسخ «فرانكنشتاين» السابقة. وعلى غرار إخراجه لنسختِه من «بينوكيو» (Guillermo del Toro's Pinocchio)، التي نفذها كفيلمِ رسومٍ متحركةٍ في عام 2022، فقد أراد إخراج نسخةٍ خاصةٍ من هذا الفيلم، نسخةٍ يقدِّمُ عبرها فلسفته ورؤاه وفهمه الخاص لرواية البريطانية ماري شيلي.

مقارنةً بالرواية الأصلية، التي تناولت مواضيعَ عديدةً عن الإنسان والطبيعة والعلم والأخلاق، يمكنُ القول إن غييرمو ديل تورو بذلَ جهده في كتابة سيناريو يعالج هذه المواضيع جميعها. وكان في أغلب أحداث الفيلم شديدَ الأمانة والالتزام بالنص الأصلي. غير أننا لم نلمس، في النهاية، رؤيته السينمائية الخاصة التي كنا نأملها - مع الأسف الشديد - باستثناء خاتمة الفيلم التي حملت بعض التغيير، لخلقِ نهاية سعيدة، لكن، يا ليته لم يفعل، فلم يأت هذا التغيير بأي قيمة تذكر. مما يثير الكثير من التساؤلات حول هذا الهاجس أو الهوس بتنفيذ نسخةٍ مثل هذه، بالكاد تقدم جديدًا أو طرحًا مغايرًا، وحول سبب اختياره لهذه الرواية تحديدا.

تتناول الأحداثُ قصةَ العالم فيكتور فرانكنشتاين (أوسكار آيزاك)، العبقري المُبَالِغ في تقدير نفسه، المُعتقدِ بأفضلِيته وأهميته، المُتجاهل لمشاعر الآخرين واحتياجاتهم، والمهووس فوق كل هذا بفكرة الخلق. بعد دراسته للتفاعلات الكيميائية، وعمليّة تحلّل الكائنات الحية، وغيرها من التجارب، يتوصّل إلى فهمٍ عميقٍ لكيفية تجميع أطرافٍ وأعضاءَ من جثث مختلفة ليصنع كائنًا حيًّا. لكن، بمجرد أن يُبصر مخلوقَه وقد دبَّت فيه الحياة حتى يشعر بالرعب منه، ويهجره، ثم يسعى للتخلص منه. من ناحية أخرى، نعاين ردة فعل هذا المخلوق، المنبوذ والمتروك وحيدًا، على هذا السلوك، ونرى كيف يثور على خالقه فيكتور، ويسعى إلى الانتقام منه لعدم استجابته لطلبه بخلق مخلوقٍ آخر مثله يُخفِّف عنه ما يكابده من شعورٍ أليم بالوحدة والعزلة والنبذ.

حبكة الفيلم والرواية، تستدعي إلى الذهن وبقوة أسطورة "بجماليون" المناقضةِ لها تمامًا، إذ تخبرنا  الأسطورة بأننا متى أحببنا شيئًا من صميم قلوبنا فثمة قدرة على بث الحياة فيه وتحويله إلى شيء عظيم. صحيح أن فيكتور أوجد مخلوقَه، لكنه لم يبث فيه الحياة والروح، ولم يحوّله إلى شيء عظيم، ولم يصنعه أصلا بدافع الحب. إذ لم ينظر فيكتور إلى ما هو أبعد من ذاته، وتحقيق انتصاره الخاص ومجده الشخصي.

من هنا، ربما جاء اهتمام المخرج بتنفيذ الفيلم في وقت تتزايد فيه الاهتمامات بقضايا الأخلاق في مجال العلم وداخل المختبرات العلمية. لا سيما في ظل التطورات غير المسبوقة في مجالات الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي. ومن ثم فإن إثارة التساؤلات العميقة حول حدود العلم ومسؤولية المبدع تجاه ما يبدعه أو يبتكره أو ”يخلقه“، تبدو جلية للغاية في الفيلم.

في سرده للأحداث، يُقسِّم المخرج الفيلمَ إلى قسمين يسردان الأحداث بطريقة استرجاعية، أو بتقنية الفلاش باك، انطلاقًا من الراهن، حيث تَعلَقُ سفينةٌ دانماركيةٌ وسط الجليد، ويصرُّ قائدها أندرسون (لارس ميكلسن) على حماية فيكتور من المخلوق، ومعرفة القصة الحقيقة. في الحكاية الأولى، بعنوان ”فيكتور“، التي يرويها فيكتور بصوته لقائد السفينة، نتعرَّفُ على طفولته وصباه، ثم نضجه، مرورًا بخلقه لمخلوقه العجيب، وانتهاءً بمحاولته التخلُّصَ منه. بعد ذلك، نتابع الحكاية الثانية، المعنونة ”المخلوق“، والتي نعاين فيها بصوت المخلوق أحداث قصته الخاصة منذ أن دبَّت فيه الحياة، وفراره من فيكتور، ثم تعقبه له ومحاولته الانتقام منه، حتى وصوله إلى ظهر السفينة، وسرده حكايته لقائدها، في حضرة فيكتور الراقد على فراش الموت.

ثمَّة إشاراتٌ جلية لا تترك أي مجال للّبس في أن ديل تورو يود الإحالة إلى أمور آنية تؤرقه شخصيًا. فالتأكيدُ على أن فيكتور أغفلَ وضع الروح في المخلوق الذي بثَّ فيه الحياة، إشارةٌ دالةٌ على أن الإنسان، مهما تقدم وارتقى وبلغ، فلن يستطيع أبدًا الإمساك بالروح البشرية ومعرفة هويتها ومكنوناتها وطبيعتها أصلا. من ناحية أخرى، وبعيدًا عن الكثير من الجُمل والتفاصيل الصغيرة، فإن المخرج من خلال السياق العام يُحذِّر بجلاء من الغباء البشري والأنانية ومن المصير المظلم الذي يمضي إليه الإنسان بتكبره وتعجرُفه. وكيف أن انتفاء الأخلاقيات في مجال العلم، الذي يبدو أنه على بعد خطوات من صناعة أو استنساخ مخلوقات هي في الحقيقة مجرَّد مسوخ، سيُؤدي، في النهاية، إلى انقلاب السحر على صانعه، وتدميره، وإفساد حياته، وكل ما أبدعه. وكيف أن هذه المخلوقات لن تكون رحيمة كما هو متوقع.

المثير للدهشة أن هذه الصرخة التحذيرية سرعان ما ينقضها المخرج بجعل المخلوق يسامحُ صانعه فيكتور فرانكنشتاين، ويرأف بحاله قبيل وفاته، بل ويجعله يهب لنجدة ومساعدة ”البشر“، الذين كانوا على سطح السفينة، وينجح في إنقاذهم من هلاك أكيد.

لا شك أن المخلوق في فيلم «فرانكنشتاين» يستدعي إلى الأذهان، وبقوة، الكائنَ الغريب في فيلم «شكل الماء»، الذي اتسم بالكثير من العنف والقسوة والحدَّة، ليتحول تدريجيًا على يدي “إلايزا” إلى مخلوقٍ مسالم جدًا. يتعلم منها شيئًا فشيئًا بعض الكلمات، عن طريق لغة الإشارة. وتنشأ بينهما علاقة تودد وصداقة، ويأنس أحدهما للآخر. علاقة تتكرر بحذافيرها، تقريبًا، في «فرانكنشتاين»، بين المخلوق وإليزابيث (ميا جوث)، خطيبة ويليام فرانكنشتاين شقيق فيكتور. ومن ثم، نجد أننا إزاء إصرارٍ واضحٍ من جانب المخرج على التأكيد أن الرحمة والمغفرة والحب، والتمسّك بإنسانيتنا، هو السبيل الوحيد لنا كي لا نتحوّل إلى وحوشٍ أو مسوخ. لكنها، مع الأسف، علاقةٌ لم يمض المخرج في تعميقها على نحو مقنعٍ ومؤثرٍ كما في «شكل الماء».

بعيدًا عن حبكة الفيلم، ثمة تساؤلاتٌ أخرى متعلقةٌ بالطرح السينمائي أو الجمالي الذي انطلقَ منه ديل تورو لتنفيذ فيلمه. أغلب الإجابات عن هذه التساؤلات لن تصب في صالح الفيلم، ولا المخرج. خاصة، مع تنفيذ جييرمو ديل تورو لبعض المشاهد الضعيفة أو حتى الركيكة، غير المعهودة في سينماه، رغم استعانته بأحدث تقنيات الجرافيك وخلافه. من بين ذلك مثلا مشاهدُ هجوم الذئاب على أغنام العائلة المقيمة في الجبال. ولاحقًا، مهاجمتها - الذئاب - للمخلوق نفسه، وقضائه عليها. صحيحٌ أن الفيلم لا يخلو من ملامح الأسلوب المبهر للمخرج، وتجلياته المتعددة، كما أن هناك سخاءً ملحوظًا للغاية في تنفيذ الفيلم، وديكوراته، إلى درجة تجعلُ الأمر يبدو زائدًا عن الحاجة أحيانًا. لكن ثمَّةَ شعور بالغ بالأسف لأن جمهور الفيلم لن يلامس جمال وسحر الكثير من مشاهده، إذ سيعرض على شبكة البث الشهيرة ”نيتفلكس“، ولأن نسخة الفيلم ستظل أسيرة الشاشات الصغير، ولن تعرض على الشاشات الكبيرة، الضروريةِ جدًا لفيلمٍ مثل فيلم ديل تورو. 

وبطبيعة الحال، يصعبُ القول إن غييرمو ديل تورو قد جاء في فيلمه، الذي يمتد عرضه إلى 149 دقيقة، بأي جديدٍ مدهشٍ أو مُختلفٍ عن المعتاد، سواء على مستوى القصة وتطوّرها أو الشخصيات وتفاصيلها أو حتى جماليات الصورة، بما يُتيح لنا القولَ إنه قد أحدث قطيعةً أو نقلةً نوعية مقارنة بما سبقه من أفلام تناولت العلاقة بين البشر وغيرهم من المخلوقات والكائنات الخرافية، أو بما قدمته النسخ السابقة من فيلم «فرانكنشتاين» أو حتى قياسًا بأفلامه السابقة ذاتها.

نُشرت هذه المقالة بدعم من مبادرة «سينماء» لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى