المشي، كالتنفس، شيءٌ نقوم به دون تفكير، ونشاط مبتذل إلى حد أن لفظة ماشٍ في الإنجليزية [pedestrian] تحمل معان أخرى مثل عاديّ، ممل، وثقيل. ومهما يكن من أمر، فإن الأفلام تتناول هذا الفعل فوق ما يحتمل معناه المتمثل في الذهاب من مكان إلى آخر، ويضحى المشي فيها لغةً تُنقش على الشاشة.
ثمة متعة فريدة في تَتَبُعِ تلك اللقطات المتنقلة التي تَتْبَعُ الممثل الراجل، وفي تسارع الكاميرا للحاق بخطى المتنزِّه، لتجعل العالم كله في مستوى نظر الرائي. وهذه اللقطات -التي تحاكي حياتنا اليومية- هي السينما في أشد لحظاتها إنسانيةً وهي الإنسان في أكثر صوره سينمائيةً، فهي تحمل في طياتها ظلال دراسات "حركة الحيوان"1 لإدوارد مويبرديدج، الذي كان أول من حَلَّ لغزَ (كيف نتحرك؟) وذلك بإظهار ما يعرفه الجسد ويخفى على العين.
لكلٍ مشيته الخاصة، مثلها مثل البصمة. ونجوم الأفلام لا يغيّرون من مشيتهم بغض النظر عن الدور الذي يلعبونه. فذا (جان غابين) يخطو متأرجحًا قليلا من جانب إلى آخر كبحّار على أرض يباس. وذاك (توشيرو ميفوني) يمرّ مرَّ الساموراي دائمًا. أما (روبرت ميشتوم) -الماضي مضيَ النمر- فلا تعلو في السينما مشيته مشية، ورغم أنه يضمر اهتمامه البالغ بمهنته أكثر مما يبدي، إلا أنه كشف ذات لقاءٍ أن سرا من أسرار التمثيل يكمن في "ضبط وتيرة الأفلام"، وكطريقة سيناترا في الغناء، فهو يتحرك ويتكلم وفق إيقاع محدد، وهذه الوتيرة المتئدة مقصودة، إذ يدّعي قائلًا إنك كلما تحركتَ أبطأ من الفعل الذي حولك تكون مسيطرًا عليه.
وهناك آخرون يسيرون وفق إيقاعات مختلفة، فـ (جيمس كاغني) يمشي بسرعةِ وحماسةِ (أليغرو يخدع بريو)2، مرتكزًا على مشط قدمه، مميّلًا صدره إلى الأمام. وعلى العكس منه (فريد أستير)، متأرجح الخطى، العابر ويده في جيبه، صانعًا موسيقاه الخاصة أينما ذهب.
مرورًا إلى نجمات السينما اللاتي يمتلك العديد منهن مشيات آسرة. بدءًا من (باربرا ستانويك) بخطوتها الطويلة الواثقة الموحية بحزم جريء وأناقة جذابة، "تخطو بخفة وسرعة"، هكذا يصفها متعجبا (رالف ميكر) -وهو الذي يصغرها بعقد كامل- بعد العمل معها في Jeopardy, 1953. وعن (جنجر روجرز) يقول (جيمس هارفي) "إن خَطوها هو من بين الأكثر شموخًا في تاريخ السينما"، مشيرًا إلى كتفيها المستقيمين المتوترين مقابل "قدها المياس وخطواتها المتمايلة". أما (غريتا غاربو) فإن تبخترها بأطراف نحيلة وخطوات متعرجة لا يزداد إلا قوة بسبب ما فيه من خَرق.
بعيدًا عن مسرّة هذه المشيات الفردية، ولذة السينما الخالصة الكائنة في حركة البشر، فإن الأفلامَ التي تخصِص وقتًا لعرض النساء يمشين أفلامٌ إشكالية وطاعنة في تعقيد متأصل. فالمرأة المشاءة تُرى -كجسم ثلاثيّ الأبعاد- من عدة زوايا في آن واحد: ناظرةً ومنظورة، شخصًا وموضوعًا، مستهلِكًا وسلعةً، حرةً وهدفًا سهلًا لإلقاء الأحكام. إنها تحبو متتبعةً أثر تاريخها بعد اكتسابها حرية التنقل بشق الأنفس -بعد تاريخ من ربط القدم3 والتنانير المقيدة 4 والسلوكيات العامة- وأثر الحرية المنعكسة إثر هذا التقدم في الفن والأدب والسينما.
في السينما، تنوعت مشيات النساء حسب الزمان والمكان. ففي أفلام العشرينيات الصامتة، والكوميدية منها خصوصًا، تركض النساء –ناضحات بحرّية جازّية5 نشِطة- في تنانيرهن القصيرات، ويعدون ويقفزن ويضربن على الأرض بكعوبهن. وفي ثلاثينيات هوليوود جاء بالمشية السريعة سيداتٌ مثل (روزاليند راسل) التي تقتحم مختالةً المكاتبَ ملقيةً بيديها إلى الوراء، جاعلة المتشككين يأكلون غبارهم. بعد سنوات قليلة، برزت فترة ملكات أفلام النوار –ستانويك، جون كراوفورد وإيدا لوبينو- اللاتي مشين بالوثوقية المتحدية ذاتها، لكنه مشي عبر الجانب المظلم من الشارع، حيث يتردد صدى كعوبهن العالية على الرصيف المخضل. هنا، تُطارَد النساء عبر الشوارع الكابوسية الخاوية، كتلك الفتاة الهشة التي يلاحقها القاتلُ ذو السكين في فيلم The Seventh Victim, 1943. في المقابل تصبح النساءُ في بعض الأحايين مصدرَ التهديد، كـ (إيلا رينز) في Phantom Lady, 1944، التي تلاحق -مرتديةً معطف مطرٍ أبيض رقيق ومتسلحةً بنظرة مؤذية مخيفة- ساقيًا عبر شوارع نائية مهجورة، محاولةً تهديده لتغيير شهادته الكاذبة التي أدلى بها في قضية قتل. يزعزع صوتُ كعبيها سكينةَ المكان، ويمتلئ الجو رطوبةً وخطرا، وفي لمحة عين، قد يُمسي الصيادُ فريسة.
تظفر المرأة القاتلة المترصدة6 بصيدها بمجرد دخولها إلى الغرفة، كما حدث مع (والتر نيف) في Double Indemnity, 1944 الذي خط نهايته عندما تفرّسَ في خلخال (فيليس ديتريكسون) صاحبة أعظم نزول من السلم منذ لوحة (ديشامب) الشهيرة7. وفي Out of the Past, 1947 يصف (جيف بايلي) الطريقة التي سحرته بها (كاثي موفات) قائلا "حين رأيتها وهي غارقة في نور الشمس "، "ثم رأيتها تمشي أمامي في الضوء "، "وإذا بها تنطلق راكضة، كنهاية يوم دراسي..".
تغير اتجاه البوصلة في عقد الخمسينيات، إذ شخصت الأنظار نحو نساء كـ (مارلين مونرو) بعجيزتها الرجراجة التي تجلب المال في كل خطوة وهزة. و(جين مانسفيلد) التي اُعتبرت كل خطوةٍ متمايلةٍ تخطوها حدثا قائما بذاته. أما في الستينيات والسبعينيات فقد ظهرت نوعية مختلفة ومبالغ فيها من جنسنة المشي. ففي Taxi Driver, 1976 مثلا، تبدو جميع السيدات في الشارع كعاهرات الكرتون للرسام (سول ستاينبرغ8)، حيث تتبختر كل منهن بتنورتها الصغيرة وبنطالها المثير وحذائها طويل الرقبة، فتبدو بكامل قوتها في حين إنها في قمة الضعف.
ويا لها من سعادة وارتياح أن نصل إلى فيلم المخرج (بيل فورسيث) Housekeeping, 1987، وإلى المشية الخرقاء لـ (كريستين لاتي) التي لعبتْ دور (سيلفي) المتعبة الهائمة الوحيدة، ذات الروح الحرة، التي تنصح ابنة أخيها بأن لا تُعير تحديق الآخرين بالاً لأنهم مختلفون. قالت (لاتي) إنها طورت مشيةَ شخصيتِها متخطيةَ-المسافات من خلال التصور بأنها تطوي في كل خطوة تقوسات الأرض طيًا.
إن تأثيرَ الزمان والمكان في تشكيل أنماط المشي أشدُّ وضوحًا في أفلام الدول الأخرى، فالشخصية الرئيسة في فيلم (ميزوغوشي) The Life of Oharu, 1952 التي أدتها (كينويو تاناكا) تتحرك وفقًا لما كان مفروضًا على اليابانيات في العصر الإقطاعي، بالكيمونو الملفوف بإحكام، والنعال المرتفعة، يحيط بها ما يتوقعه المجتمع منها: اللطف، التأني، مشي الهوينى، الظهر المنحنية، والتواضع بتغطية الوجه بحجاب أو وشاح. يُستهلّ الفيلم بلقطة تتبع طويلة لـ (أوهارو) وهي تسير بخفة في الشارع مرتدية كيمونو مزينا بنقوش الوستارية، لنكتشف في ختام المشهد أنها عاهرة تبحث عبثًا عن زبون، وبعد ساعتين من الذل والقسوة المرعبة، ينتهي الفيلم بجلال، وذلك بلقطة متنقلة جانبية تتبع (أوهارو) التي غدت الآن حاجّةً بوذية متجولة، متحررة روحيًا من حياة الشقاء والاستغلال، واضعة في أنةٍ وسكينة قدما في إثر الأخرى. وهذا بظني مشابه لخطى (سيلفي) الرجولية في Housekeeping، إنها مشية امرأة متحررة.
وليس بالأمر المفاجئ أن فرنسا، الأمة التي صاغت مصطلح الـ"نزهة" لوصف الوضع الحديث للتسكع الحضاري، هي التي صورت بعضًا من أعظم الوثائق السينمائية لهذا النشاط. فحين يتعلق الأمر بامرأة تتمشى، فإن الفرنسيين مخرجين وممثلات استخلصوا جوهرَ تجوال المتنزهة المنفردة بذاتها. فـ (إريك رومير) مثلًا، بدا مهتما على الدوام بتقاطع مفهومي الوحدة والتحرر اللذين ترمز لهما المرأة المتجولة، وفي أحد أفلامه القصيرة الأولى Nadja in Paris,1964 يقتفي حياةَ فتاةٍ جامعية مغتربة تستكشف المدينة، وتهيم على الأرصفة بخفةِ واتزانِ راقصات الباليه، تمشي وتشاهد الآخرين يمشون. وبعد عقدين من الزمن، ترتحل بطلة فيلمه Le rayan vert, 1986 عبر فرنسا خلال شهر أغسطس الساكن، تائقةً إلى الصحبة، وفي آنٍ معا، هاربة من كل محاولة تُبذل للاقتراب منها.
في الأمثلة التي نستعرضها، تمشي النساء وحيدات لأسباب مختلفة، وتحاول الأفلام أن تلتقط ديناميكيةَ هذا الفعل الراديكالي بما فيه من تناقض وتعقيد.
جان مورو: المشي بعد منتصف الليل
ممثلات قليلات يمكنهنّ فعل ما تفعله (جان مورو) بمجرد تمشيها عبر الأمكنة، سواء أكان هذا التمشي تبخترًا في المنتزه كما في Boy Of Angels, 1963 أم طفوا -كسفينة مشرعة- عبر المروج في ليلة قمراء مثلما حدث في The Lovers,1958، وفي الحالين، إن في رؤيتها لفتنة. تمشي (جان مورو) -مختلفةً عمن سواها- مشيةً حسية أنثوية، بخطواتها الصغيرة وكعبها العالي، مرنِحة وركيها بطريقة مستفزة وخجولة في نفس الوقت. ولها ما لها من عزة وأناقة، وبضعةٌ من غطرسة تُستشَف من ظهرها المستقيم ورأسها المرفوع، في حين تكون يداها مرخاة تارة ومشدودة تارة أخرى. مشيتُها إيقاعٌ، لقد كانت -مثلما كتب (تيرانس رافيرتي) في تأبينها- "تغيّر من وتيرة الأفلام لوحدها". لعبتْ (مورو) غالبا شخصيات نساء عاطلات، كزوجات برجوازيات ليس لديهن ما يفعلنه، نساء تتمحور حياتهن حول الحب، والفقد والوجد. لكنها تظهر على الشاشة، دائما، كيانا منفردا بذاته، تسير عبر العالم كامرأة تملك الكل، ولا تملك شيئا.
كانت رائعةُ (لوي مال) Elevator to the Gallows, 1958 الفيلمَ الذي بوأ (جان مورو) منزلة النجومية. ويدور الفيلمُ حول شخصيةَ (فلورانس) وهي تسير هائمة وحيدة في شوارع باريس بحثا عن عشيقها جوليان (موريس رونيه)، إذ كانا متفقين على اللقاء بعد أن ينفذ خطتهما بقتل زوجها، إلا أنه يعلق في مصعد بعد انقطاع الكهرباء. عُرفت هذه المشاهد بموسيقى (مايلز ديفيز) التي كانت مثل زفرة باردة لا مثيل لها تهب عبر الفيلم مثل نسمةِ ليل. كما عُرفت بسينماتوغرافيا (هنري ديكيه) الذي كسر القواعد باعتماده فقط على أضواء أعمدة الإنارة، والضوء الذي يلوح من نوافذ المحلات. لكنّ حضور (مورو) بلغ من الدهشة أنْ يوهمنا أنّ الموسيقى تنبثق عنها -في الحقيقة، ارتجل (مايلز) الموسيقى بينما كان يشاهد الصور-، وأنّ الظلال المبهمة ومسحات النور الضبابية تُصفّى عبر خَدرها وإعيائها المحطَّم. يشير تحرك (مورو) قِبل الكاميرا، ودنوها أو نأيها عن بؤرة التركيز، إلى تذبذب بالها بين هواجس قلقها الحادة ويأسها المضطرب.
بالعودة إلى الفيلم، فإنه لطالما أدهشني مدى إيجاز النزهة الليلة السامية لـ (مورو) -إيجازٌ لا ينفك يتمدد في ذاكرتي- والطريقةُ التي تخللت هذه النزهة مشاهد لتتبع الشخصيات الأخرى. لكن (مورو) كانت قادرة -عبر مشاهدها المنفصلة القصيرة- على خلق إحساسٍ بالزمن، وبطولِ الليلة المسهَدة وبحصيلةِ بحثها العقيم. في البدء تكون خطواتها نشيطة وهادفة، وحين تفشل في العثور على أي خبر عن (جوليان)، تمسي خطواتها أكثر تمهلا وبلا غاية، وتتمتم لنفسها إلى أن ينظر إليها المارةُ مرتابين. ثم إنها تمد يدها للمس السيارات الواقفة التي تعبر بجانبها، وتلامس إحدى السيارات برفق بعد أن رأت داخلها رجلا ظنته مخطئةً أنه عشيقها. فتبدو على عينيها نظرات غاضبات محدقة إلى الداخل. في معظم الوقت، تكون الكاميرا مركزة على كتفيها فما فوق، وتتحرك معها حتى تبقى (مورو) في مكان واحد في حين تنسحب من ورائها الخلفية. هاهي ذي وحيدةٌ في وعيها المكروب، تتجول هائمةً غير مرئية في عالم لا معنى له.
مثلما لاحظتْ (مورو) فإن Elevator to the Gallows ينجح في أن يقدم اتصالا جسديًا قويًا بين العاشقين جوليان وفلورانس، اللذين لم يظهرا سوية في أي مشهد سوى في صور فوتوغرافية عُرضت في خاتمة الفيلم، لقد جُمدت قصة حبهما السعيدة في الماضي. وعلاقتهما الوثيقة يتم إبرازها عبر سلسلة قصائد تتشكل من إيماءاتهما وما يحيط بهما. فـ (جوليان) عالق في مساحة ضيقة، في حين تسير(فلورانس) في حركة مستمرة، ولكنها حين تهز قفل بوابة المبنى- في الوقت ذاته يسمع (جوليان) وهو محبط صوت يشبه صدى إخفاقاته- تُشعرنا بأنها مأسورة معه، وأنهما عاجزان عن الوصول لبعضهما. كما يتضح افتتان العاشقين الشغوف ببعضهما في طريقة مشيها: فهي تتحدث إليه ليس حديثا داخليا صامتا فحسب، بل تتكلم إليه بجسدها الذي ينضح شهوانية متحكَم بها، وهذا الحديث الجسدي لا يناغي الرجال العابرين، بل هو تعبير عن توقها لرجل واحد. وعندما يهدأ هزيم الرعد وتمطر السماء، تترك (فلورانس) المطر يغمرها، متدفقا على وجهٍ أمسى الآن مستنزَفا ومهجورًا.
في موضع آخر، تتنزه (مورو) وحيدة في فيلم (أنطونيوني) La notte, 1961، وهنا ترتدي فستانا صيفيا مزخرفًا، وتتجول عبر شوارع ميلانو في ظهيرة يوم سبت حارة وهادئة. تنسحب (ليديا) -الشخصية التي تلعبها (مورو)- خارجةً من حفل توقيع كتاب أُقيم لزوجها، فتمر أولا بضجةِ وسط المدينة المحتشد، حتى تنتهي إلى هدوء شوارع خاوية. إن المساحات التي تعبرها (ليديا) باهتةٌ ومجردة، منزوعةٌ من الهُوية ومفرغةٌ من الحياة. ويبدو -في الخلفية- نسيجُ المدينة العمراني ساحةَ معركة، تنتصر فيها شاهقات السحاب على أطلال المدينة القديمة، وعلى ما تبقّى من أنقاض الكنائس والمصانع. وفي واحدة من أكثر اللقطات لفتا للنظر، تظهر (ليديا) صغيرةً كنملة أمام حافة جدار أبيض شاسع وفارغ.
في مقالها الشهير (أو غير الشهير) الحفلات الأوروبية للأرواح المنهكة [The Come-Dressed-as-the-Sick-Soul-of-Europe Parties] تسخر (بولين كيل) من تجوال (مورو) في La notte سخريةً لاذعة، على سند من القول أن الكاميرا لا تفتأ تهزأ بها وتصورها من الخلف، "هل الحركة الدقيقة لمؤخرتها ينبغي أن تكشف عن قلقها، أو سأمها؟". والحقيقة أن هذا قول مجحف، لأن (ليديا) تشاهِد أكثر مما تشاهَد، وLa notte يدور ويتمحور حول نظراتها القاتمة العميقة، التي تستحيل مستاءة، فضولية، مُدهَشة، متهِّمة، ومأساوية. فبينما كانت تجوب الشوارع، كانت تخالف التوقعات وذلك بالنظر إلى رجال كانوا يبدون، على العموم، غافلين عنها. فنراها تمر برجل أمن يأكل شطيرة وهو منحن على جدار، فتتوقف محملقة به حتى يرفع بصره. بعد ذلك، تتوقف أمام نافذة زجاجية لتحدق بشكل مريب في رجل يعمل على مكتبه. ثم تستقل سيارة أجرة لتذهب إلى أحد الحقول المجاورة لمصنع مهجور، حيث تشاهد مجموعة من الشبان يتجمعون حول حلبة لمشاهدة رجلين يتقاتلان، فتهب مسرعة غير عابئة لإيقاف هذا القتال العنيف. بعدها، نراها ترصد شبانا آخرين يطلقون ألعابا ناريةً تحلق إلى السماء مخلفة وراءها أزيزا وخط دخان. في وقت لاحق، وفي حفلة ليلة مقامة في فيلا عصرية لأحد الأثرياء، نشاهد (ليديا) منفردة عن الجمع، تتمشى حوالي مسرح الأحداث، تنظر إلى الحشد المحتفل يتحركون سوية كسرب أسماك. وتشاهد وهي على إحدى الشرفات زوجها يقبّل امرأة أخرى، وبدلا من أن تبدو بمظهر الراضخ، فإنها تبدو، وتبدو على الدوام بفضل عينيها اللتين لا ترمشان وحركتها المنضبطة، بمظهر المتحكِم.
كتب (أنطونيوني) مرة: "إن عاطفة المرأة أدق الوسائل للتعبير عما أريد قوله، ففي عالم المشاعر، يعجز الرجل عن الإحساس بالواقع كما هو". في La notte يكون (جيوفاني) زوج (ليديا) -يلعب (ماستروياني) دور الزوج وهو كاتب مشهور غارق في اللامبالاة ومُزعزع الثقة بنفسه- صورةً نموذجية للرجال عند (أنطونيوني)، أولئك الرجال الذين لا تبرز الأنانيةُ والانتهازية الطائشة للجنس لديهم سوى مدى ضعفهم وطفوليتهم وضياعهم، تنقصهم مزية المرأة المتمثلة في قدرتها على أن تكون وحيدة، وعلاقتها المباشرة والواضحة مع من حولها. لا يستوعب الرجل الغربة إلا بطريقة محمومة وغامضة، أما المرأة فيكون تعاملها مع العزلة بأن تأخذ جولة، تاركةً الواقع يمسح عليها كما يمسح النسيم الخافق على حركتها.
ينبغي للنظرة التقليدية لمشاهِد الأفلام بوصفه مجرد متفرج ساكن ومتلصص أن تفسح المجال لفكرة اعتبار المشاهِد مسافرا ورحالة، "جسدا يسافر عبر المدى"، هكذا تجادل (جوليانا برونو) في مقالتها معالِم: العمارة والصورة المتحركة [Site-Seeing: Architecture and the Moving Image]، وتقول إن العمارة والسينما "ممارستان تربطان النظر بالحركة". واكتشف مفكرون بدءا من (والتر بنيامين) وحتى (أنطونيوني) كيف تتشكل تجربة الحياة الحديثة عن طريق الترحال عبر مساحات الحداثة. تعارض (برونو) الافتراض السطحي -الذي صاغته (لورا مولفي) ويقرر أن المرأة في الأفلام ما هي إلا أداة ينظر إليها الرجل، فتغير بذلك (برونو) تجربة مشاهدة الأفلام من كونها استهلاك للصورة إلى اعتبارها إقامة وترحالا عبر المدى. تفترض (برونو) أن "لغة السينما قد تولدت عبر الحركاتُ الحضرية، لا المشاهدات المسرحية الساكنة"، وهذه الفرضية تجد صداها في أعمال بعض المخرجات اللاتي نظرن إلى، ومن خلال أعينِ المرأةِ المشاءة في المدينة.
هي كاميرا: المخرجات وفعل النزهة
"أمستْ امرأةً تُشاهِد، بعدما كانت امرأة تُشاهَد في الجزء الأول"، هكذا تتحدث (آنيس فاردا) في فيلمها الوثائقي الأخير Varda by Agnes, 2019 عن بطلة فيلمها المفصلي Cleo from 5 to 7, 1962. هذا التصريح يلخص مسار الفيلم الذي يتتبع في ساعتين من الزمن حياةَ (كليو) -الشخصية التي لعبتها (كورين مارشان)- التي تنتظر نتيجة فحص طبي لمعرفة ما إذا كانت مصابة بالسرطان. نشاهدها أول مرة حينما تخرج من محل قارئة حظ وتمشي خلال الجموع في شوارع باريس، فتكون محط الأنظار، وموضوعا للكاميرا والجمهور وعلى الأخص موضوعا لنفسها. إنها لافتة للعيان، طويلة جدا وأقرب ما تكون إلى تمثال، ترتدي فستانا ضيقا بلا أكمام، ومنقطا بدوائر سوداء كبيرة، ولها شعر أشقر مسرح بطريقة متقنة وسخيفة في الآن ذاته (في منتصف الفيلم يتضح أن شعرها هذا عبارة عن باروكة، وتخلعها لتكشف عن شعر أشقر قصير). تُرى باستمرار حوالي المرايات، تتوقف لتتأمل معجبة في نفسها في المشهد الأول، وتفكر: "القبح نوع من أنواع الموت، وطالما أكون جميلة، فإنني أكثر حياةً من الآخرين". تقف الكاميرا على مقربة من (كليو) التي لا تفكر سوى في نفسها وهواجسها، كل شيء ضبابي من حولها: الشوارع مكتظة بالسيارات والحافلات، الباعة ولوحات المحلات منعكسة على النوافذ، إلا أنه لا يتم التركيز على هذه الأشياء مطلقا.
في العنوان دلالة على عشق (فاردا) للتلاعب اللفظي الماكر، حيث يشير المصطلح الفرنسي“cinq à sept” (الخامسة إلى السابعة) إلى الساعات التي يستغلها العشاق للقاء قبل العودة إلى أزواجهم. إلا أن علاقة (كليو) الغرامية تكون مع صورتها، وذلك لا يتغير حتى اللحظة المحورية التي تنظر فيها إلى غيرها، وهذا التغيير يطرأ بالتحديد في منتصف الفيلم، بعد أن تخرج (كليو) مضطربة من جلسة مع أحد المغنين الذي صارحها بما هي عليه: مدللة، سطحية، وعادية. تغيّر رداءها إلى فستان أسود -الاضطراب لا يمنعها من اختيار الملابس الملائمة للخروج- وتغادر شقتها. نجد الكاميرا هنا تتبع (كليو) بكل حذر وهي تنزل من السلالم وتعبر الفناء وصولا إلى الشارع، حيث تبدأ رحلتها الحقيقية. نزولها من السلم يعيد للذكرى بداية الفيلم، وكأنه يبدأ من جديد. فهي تقف أمام مرآة أخرى، محملةً هذه المرة بما تراه، وتخلع عن نفسها قبعتها الفروية السخيفة. (بعد وهلة تُسقط -برمزية واضحة- مرآة صغيرة وتكسرها). معتمرة نظارات سوداء، تبدأ (كليو) بالنظر نحو الآخرين، تذهلها وتنفرها في الوقت نفسه عروض الشوارع: الرجل الذي يأكل الضفادع وهي حية، والآخر الذي يمرر سيخا عبر ذراعه. في مقهى، ترصد (كليو) مشاحنات بين زوجين، عجائز يغتبن، ورجالا يقرأون. في شوارع باريس تشاهد (كليو) الموتَ، حيث حشدٌ من الناس مجتمعين حول رجل قُتل للتو، كما تشاهد الولادةَ، إذ ترى طفلا حديث الولادة محمولا على حاضنة كأنها نعش زجاجي صغير.
Cleo from 5 to 7 فيلم يجسد متعة النزهة، مثل فيلم Wings of Desire وفيلم Four Nights of a Dreamer، ويحتفي بذلك الأسلوب من المشي المتحضر الذي اخترعه الفرنسيون في منتصف القرن التاسع عشر. والمتنزِه لا يمشي ليصل إلى مكان معين، بل يمشي ليتأمل المشهد العابر، إنه مستهلك للصور، يتعامل مع العالم كما لو كان في السينما. في (الذي تراه حين تتمشى في شوارع باريس) “Ce qu’on voit dans les rues de Paris, 1858” كتب (فيكتور فورنيل): "خارجا إلى الشوارع والمنتزهات في استقصاء لا نهائي، تتجول بعيدا، أنفك في الهواء ويداك في جيبك ومتأبطا مظلة، كما يليق بأي روح منفتحة، تمشي بلا دليل، ولا وجهة، غير حاث الخطى على الإسراع، مأسورا ومبتهجا، تسلّم نفسك بكل ما فيها من جوارح وعواطف للمشهد". هذه التجربة من الهيام حول المدينة ستصبح مبدأً مؤسِسا للأدب الكلاسيكي الحديث، مثل "عوليس" لـ (جويس) و"السيدة دالاوي" لـ (وولف)، وستلهم نوعا عُرف لاحقا باسم أفلام (سيمفونية المدينة) ومنها (Berlin, Symphony of a Great City, Rien que les heures, Man With a Movie Camera) التي ستكشف من خلال الكاميرا القدرةَ على السباحة مع مد وجزر الحياة الحضرية.
كانت النزهة في أول الأمر نشاطا محصورا على الرجال، فلم تكن المرأة قادرة على شغل المساحات العامة بذات الحرية التي يتمتع بها الرجل. وحقيقة أن عبارات مثل (عابرة الشارع) أو (تمشي عبر الشوارع) تعني أن المرأة سلعة للبيع تشرح الكثير عن هذا الموضوع. كما أن المصطلح القديم (تسكع) [tramp] يربط بين المشي والتشرد والإتاحة الجنسية. "يا للمضايقات التي تتعرض لها المرأة! ما إن تخرج وحدها في المساء، حتى يتم اعتبارها عاهرة". هكذا يكتب (جول ميشليه) في كتابه (المرأة) المنشور بين 1858-1860. "إن وَجدتْ نفسها عالقة في أطراف باريس وجائعة، فلن تجرؤ على دخول مطعم، وإلا ستصنع حدثا ومشهدا خاصا". في Elevator to the Gallows يقترب رجل (لعب هذا الدور لوي مال بنفسه) من (فلورانس)، ويظنها مخطئا أنها إحدى فتيات الشارع، ثم ينتهي بها الأمر إلى الاعتقال مع عاهرات أخريات فقط لأنها كانت تتمشى في ساعات متأخرة دون بطاقة هوية. ونعلم أن الكاتبة جورج ساند كانت تتنكر بملابس رجالية، وتقول بهذا الشأن مبتهجةً: "لم يعرني أحد أي انتباه، ولم يشك أحد في تنكري، لم يعرفني أو ينظر إلي أحد، ولم يجدوا فيّ أي عيب، كنت ذرة ضائعة بين جمع غفير".
تعرض (فاردا) وجهة نظر معقدة وشبه متناقضة حيال ماذا يعني للمرأة أن تكون منظورة، فـ(كليو) تدخل إلى مرسمٍ حيث صديقتها تقف عارية محاطة بنظرات الطلاب الذين يحفرون تماثيلهم. وعندما تعترف (كليو) بأنها ستكون محرجة لو وضعت في هذا الموضع وخائفة من أن يجدوا عيوبا فيها، تقول صديقتها إن النحاتين لا ينظرون إليها بصفتها شخصا، وتضيف إنها "سعيدة بجسدها، غير فخورة به"، لكن (كليو) في الجهة المقابلة فخورة بجسدها، وهذا الأمر يضاعف من قلقها بشأن احتمالية إصابتها بالمرض، فالسرطان عيب بكل تأكيد. في الهزيع الأخير من الفيلم، حينما تمشي (كليو) في (بوا دي بولون) تنشد أغنيةً عن جذابيتها التي لا تقاوم، وتقوم بأداء حركات مغرية وهي تتدلى من على السلم، محاوِلةً إغواء جمهورها المتخيَّل.
على كلٍ، لطالما عوملت المرأة التي تتمشى في الأماكن العامة كحدث يثير الاستفزاز، وهدف متحرك تحت أعين الرجال (على سبيل المثال أوجا كودار وهي تتمخطر في الشارع في مشهد (فتاة تشاهد) في فيلم أورسن ويلز F for Fake). و(جان مورو) دخلت هذه المنطقة المظلمة في عدة أحايين: ففي فيلم (بونويل) Diary of a Chambermaid نراها مرتدية أحذية ضيقة من الدانتيل إرضاءً لرب عملها الذي يفوقها عمرا والمهووس جنسيا بالأقدام "فيتيش"، وفي Bay of Angels تلبس شخصيتها المدمنة على القمار ثوبَ سهرة ضيقا للغاية لدرجة تجبرها على العرج، كما تجسد هرولتُها الرقيقةُ الانحلالَ الذي فرضته هي على نفسها.
وبالعودة إلى (كليو) فإن كل ما أرداته حقا أن تكون ملاحَظة ومقدرة، لكنها في نهاية المطاف وجدت شيئا أفضل بكثير، شخصا تتمشى معه، ويتحدث معها ويصغي إليها، وهو الجندي الطائش والطيب (أنطوان بورسيلير) الذي التقت به في الحديقة، والذي يتطوع لمرافقتها إلى المستشفى لمعرفة نتيجة فحصها، علما أنه هو أيضا بعودته الوشيكة إلى الحرب في الجزائر يواجه خطر الموت المحدق مثلها. ويغدو هذا الجندي القصير ذو المظهر العادي والذي لا يمت لعالمها الفني الساحر بصلة والذي لن تقابله (كليو) في العادة أو تمنحه أيا من وقتها، منقذا بعدما كان غريبا. خلال هذا الجزء من الفيلم تكون الكاميرا محاذية لـ (كليو) و(أنطوان) وهما يمشيان ويتبادلان أطراف الحديث، وأخيرا تبتعد عنهما حين يدخلان ببطء إلى فناء المستشفى، وكأنهما ينفكان بلطف عن هذه العلاقة الحميمية الجديدة.
بعد 23 سنة، تقوم (فاردا) بإخراج فيلم آخر ومختلف جدا عن المرأة المشاءة، وهذا الفيلم هو Vogabond, 1985 الذي تصفه المخرجة بأنه "صورة ذاتية على شكل لقطات متنقلة ومتقطعة". فبينما تتجول (ساندرين بونير) التي لعبت دور (مونا) في الأنحاء القروية من فرنسا، تتبعها الكاميرا بشكل متكرر في حركة جانبية، وبعد وهلة تفقدها؛ في إشارة إلى أنه من السهولة بمكان للمرأة التي تختار أن تعيش "بلا حد بلا قواعد" كما يشير العنوان الأصلي للفيلم، أن تختفي. ترفض (مونا) بشكل قاطع التوقعات المفترضة بشأن سلوك المرأة، فتفوح منها رائحة كريهة، ولا تقول كلمة شكرا أبدا، كما ترفض أن تستقر، وتحمل على كتفيها متاعا ثقيلا وتنام حيثما اتفق. ولكنها ليست أنموذجا نسويا، نظرا لافتقارها إلى هدف أو غاية، وإلى تحطمها التدريجي، إضافة إلى حذائها الذي يتمزق إربا متخبطا بكاحليها. وفي النهاية تتورط مع حشد من المدمنين المتسكعين في محطة قطار، وينتهي بها الحال ميتة في حفرة حقيرة، حيث يشيعها الفيلم بصورته الافتتاحية، مصورا إياها كشخصية من مدينة بومبي الأسطورية. فينتهي هذا الفيلم الذي يدور حول التشرد كما بدأ، بجمود متحجر.
وفي فيلم (شانتال أكرمان) Les rendez-vous d’Anna, 1978 تسافر مخرجةٌ من مدينة أوروبية إلى أخرى لعرض فيلمها، وتدور جميع مشاهد الفيلم تقريبا إما في فندق، أو محطة قطار، أو في تاكسي. يُستهل الفيلم بسلسلة لقطات واسعة وثابتة تؤطر منصة القطار أو بوابات الفنادق الزجاجية، وتدخل (أورور كليمون) التي لعبت دور (آنّا) هذه اللقطات بلا جلبة. وتقوم (آنّا) لحظة دخولها غرفتها الفندقية الأولى بالمشي تجاه النافذة لتفتح الستائر، وتتابعها الكاميرا في هذه الأثناء بحركة جانبية متحفظة. ويستمر هذا النمط طيلة أوقات الفيلم، فإما أن تكون اللقطات على الدوام ثابتةً وبطيئة -في غالب أوقات الفيلم تكون (آنّا) ناظرة عبر النافذة، أو محدقة إلى الفضاء- أو متتبعةً (آنّا) وهي تتمشى عبر الشوارع والممرات وغرف الانتظار. وفي بعض الأحيان، تبقى الكاميرا بلا حراك بينما تمشي (آنّا) مبتعدة عن الإطار. لا تحمل (آنّا) معها إلا شنطة صغيرة، وتكون مرتدية طوال الفيلم الملابس ذاتها. أما مشيتها فجليّة وذات غاية مع انخفاض طفيف في الكتفين، ويكاد يصبح إيقاع خطواتها الموسيقى الخلفية للفيلم. وعلى الرغم من كونها في حركة مستمرة، إلا أن الشعور الطاغي الذي تخلقه هو الثبات، إنها هادئة وصامتة وجامدة، ووجهها الباهت الرقيق يبدو وكأنه لوحة من الفن الفلمنكي، ويكون الدفء الصادر عن ابتساماتها المقتضبة صادما ومفاجئا مفاجأةَ زهرة تنبت في أرض قاحلة، وهي تبتسم على سبيل المثال حين تكون مع أمها، أو حين تغني لحبيبها أغنية عن عاشقين ينتحران معا.
يكون لدى (آنّا) اجتماعات ولقاءات عديدة، مرة مع رجل ألماني أشقر قلِق تلتقي به بعد عرض أحد الأفلام، وثانية مع غريب في ممر القطار، وأخرى مع عائلة أحد أصدقائها بين رحلتين. وباستثناء لقاءها مع أمها، فإن جميع هذه اللقاءات تكون مختومة بالانفصال وعدم الاكتمال. لا تبدو (آنّا) وحيدة على الإطلاق، بل على العكس هي مرغوبة ومحبوبة وناجحة، إلا أنها تبدو في الوقت نفسه منفصلة عن الحياة. تسافر، وتبقى الأماكن جميعها متشابهة. "ماذا ترين في الشارع؟" يسأل حبيبها الذي يراها تحدق عبر نافذة الفندق، وتجيبه باختصار "سيارات".
قبل سنتين أخرجت (أكرمان) فيلمها News from Home, 1976 الذي يتناول أيضا قصة امرأة وحيدة في هذا العالم. هنا، المشاءة تختفي، ولا يبقى إلا ما تراه. يتكون الفيلم بالكامل من لقطات لمانهاتن وشوارعها وأنفاقها ونوافذ محلاتها وسكانها، فهو بطريقة ما فيلم من طينة أفلام (سيمفونية المدينة) ولكن الجو العام للفيلم مختلف تماما عما اعتدنا مشاهدته عن الاحتفاء بحيوية الحياة المدنية وتدفقها وصخبها، فتبدو نيويورك في الصور التي نشاهدها هادئة بشكل غريب، حتى عندما يتدفق الناس إلى قلب المدينة. الأطفال يلعبون البيسبول ويفتحون صنابير إطفاء النار، والرجال يملأن الأفران بالبيتزا، أما النساء المتأنقات فيهرعن إلى محطات السبواي، ولكنهم في نهاية المطاف يظهرون بمظهر السائرين نياما، وحتى المدينة ذاتها -بألوانها الناعمة وأسطحها المتآكلة- يكسوها خراب جم، فتبدو مكانا في حداد هادئ على مجده الغابر.
أنشأت (أكرمان) ومصورتها (بابيت مانغوليه) مواقع تصوير لهما في سيارات الأنفاق وزوايا الشوارع وممرات محطة التايمز سكوير، لكن أحدا لم يلاحظهما أو ينظر إليهما في أغلب الأوقات -قد يعود السبب لماهية نيويورك-. ولا يغيب عن بالنا إطلاقا الشخص الذي يتمشى في المدينة، مع هذا نسمع (أكرمان) بصوتها المبحوح تقرأ بسرعة رسائل وردتها من أمها في بلجيكا. وكل رسالة من هذه الرسائل تشبه سابقتها، تشتكي فيها الأم من أن ابنتها الحبيبة لا تكاتبها بما يكفي، وتستحثها لإبلاغها المزيد من الأخبار، وتصر في الوقت نفسه على أنها لن تكون من نوعية الأمهات اللاتي يقفن عائقا في طريق حرية أطفالهن، ولكنها في نهاية الرسائل تندب وحدتها وتبدي قلقها على ابنتها قائلة: "إني قلقة عليك وأنتِ وحيدة، أتمنى فقط لو كنت معنا في المنزل". وهذا التناقض بين الصور المرئية والكلمات المنطوقة يصف -أفضل من أي شيء آخر- اغترابَ المسافر المرتحل، وعلى وجه الخصوص يشير إلى اضطراب ضمير المرأة التي يكون استقلالها مقيدا دوما بالعائلة والمنزل، ومصبوغا بالشعور بالذنب.
في الجزء الأخير من الفيلم تُستخدم طرق مختلفة للتعبير عن التحول الحضري وخلق لقطات متنقلة على طريقة الأفلام القديمة، حينما كانت الكاميرا تعلق على القاطرات لصناعة "رحلات مختلَقة". فنشاهد عبر نافذة القطار صفًا من المباني، ومن النافذة الخلفية للسيارة نشاهد خط الشارع الأبيض، ثم نشاهد من الباخرة جزيرةَ مانهاتن وقد أضحت رمادية باهتة، حتى نصل إلى مكان يخلو من الشوارع. إن News from Home فيلم عن معنى أن تكون بعيدا، عن المسافة التي لا يمكن أن تقطع عبر الأقدام، وهو كذلك عن امرأة تنظر بل تحدق في العالم المحيط بها مستمتعةً بتخفيّها الذي يوحي بالوحدة والحرية.
الهوامش:
- سلسلة من الصور التقطها إدوارد مويبرديدج لدراسة حركة الحيوانات
- Allegro con brio الحركة الأولى من سيمفونية بيتهوفن الخامسة
- Foot-binding ممارسة في الصين حيث تُربط أقدام الفتيات للتحكم بشكلها
- Hobble skirt تنورة تعيق الحركة اشتهرت بداية القرن الماضي
- تشبيه بموسيقى الجاز الخفيفة المبهجة
- Femme fatale on the prowl
- إشارة إلى لوحة مارسيل ديشامب Nude Descending a Staircase
- Saul Steinberg فنان أمريكي، له أعمال تصور المرأة كقوام ورأس فحسب