ديفيد كروننبرغ.. صانع الآلام

June 18, 2025

في بداية مسيرته المهنيَّة، استغل المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ، المولود في تورونتو عام 1943، غرابة شخصيتَّه العامة، مُعلنًا لصحيفة "ذا هيرالد" (The Herald) عام 1969 أنَّ فيلمه «جرائم المستقبل» (Crimes of Future - 1970)، سيكون الفيلم الأكثر إثارةً للجدل في كندا. أُطلقتْ على كروننبرغ ألقاب مثل "بارون الدم"، "ملك الرعب الجسدي" و"صانع الآلام". ظهر في مقابلاته الصحفيَّة مرتديًا قميصًا كُتب عليه: «مزيد من الدم.. المزيد من الدم». كما صرَّح لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز" أنَّه ابتكر مزيجًا خاصًا من الدم الزائف بنكهةِ الكرز. وفي مقابلة مع مجلة "ماكلينز" (Maclean's) حول فيلمه «رنين ميِّت» (Dead Ringers - 1988)، روى كروننبرغ تعرُّضَه لحادث دراجة نارية عام 1970، والذي تطلَّب إعادة تثبيت كتفه بمسمارٍ بلاتيني، فطلب من الطبيب عدم استخدام المخدر، وعندما اعترض الطبيب، قال كروننبرغ: «هل تعرف نوع الأفلام التي أخرجها؟» ولكن هذا كان بعد أن أكمل فيلمين روائيَّين فقط، وعددًا قليلًا من الأفلام القصيرة، ومن المؤكَّد أنَّ الطبيب لم يكن يعرف نوع الأفلام التي يخرجها. إلا أنَّ الحكاية، أو أسطورة الألم، تتغيَّر قليلًا مع مرور السنوات، ففي مقالٍ نُشر عام 1992 عن فيلمه «الغداء العاري» (Naked Lunch - 1991) في صحيفة "الغارديان"، يعيد كروننبرغ قصَّة حادث الدراجة الناريَّة، ويقول إنَّه تناول حينها جرعةً من مخدِّر الديميرول.

تدور أحداث فيلم «جرائم المستقبل» داخل مبنى يُمثِّل الهندسة المعماريَّة الحديثة في تورونتو، والتي ساعدت كروننبرغ على أخذ لقطاتٍ تتقصَّى الخطوط السيمترية للمبنى، بممرَّاته وحدائقه الموحشة، على أنغام موسيقى تتكوَّن من نقراتٍ وأصواتٍ مرتعشةٍ لأجهزةٍ غامضة، تخلقُ بيئةً صوتيَّةً مزعجةً وتجريبيَّة. يمتزج هذا الصوت بشكلٍ مثاليٍّ مع النسيج البصريِّ الذي يقدِّمه الفيلم. هذا المبنى الموحش لا يعبره إلا أشخاص معدودون أفلتوا من وباءٍ غامض، يظهرون في لقطاتٍ واسعة الزاوية توحي بالعزلة، وفي اللقطات القريبة يختنقون تحت الهياكل المعماريَّة الحديثة، فتتشوَّه وجوههم، وكأنَّهم بلا أجساد.

ينتشرُ مرضٌ يُعرف باسم "مرض روج" يقضي على جميع النساء بعد بلوغهنَّ سنَّ الرشد. يعمل الدكتور أدريان ترايبود (رونالد ملودزيك) في معاهد ومختبراتٍ مختلفة، حيث يراقب الحالات التي ظهرت لدى الناجيات، بما في ذلك الأعضاء المتحورة عشوائيًا التي تفرزُ رغوةً تُعرف باسم "رغوة روج"، وهي مادَّةٌ بيضاء يحبُّ أدريان لعقها هو وآخرون. يجدُ أدريان نفسه منجذبًا إلى جمعيَّةٍ سريَّةٍ يقترحُ أعضاؤها تلقيح فتاةٍ صغيرةٍ غير مصابةٍ بالمرض من أجل الحفاظ على الجنس البشري. يُكشف لاحقًا أنَّ طبيب الجلد المجنون أنطوان روج، زعيم "بيت الجلد"، هو من تسبَّب في ظهورِ الوباء، وذلك من خلال مستحضرات التجميل التي اخترعها.

أدريان ترايبود تلميذٌ مُقرَّبٌ لأنطوان روج، يتنقَّل بين مجموعاتٍ من المنظَّمات العلميَّة على غرار مجموعة طب الأقدام المحيطية، معهد الأمراض التناسلية الجديدة ومؤسَّسة أبحاث أمراض النساء. يسعى أدريان المتعثر في إيجاد شيءٍ ما يُمثِّله. يُجري هو وزملاؤه العلماء علاجات هي في جوهرها طقوسٌ جديدة للتزاوج، مثل استحضار التاريخ الجيني للأقدام، وذلك بملامسة قدم المريض وقدم المعالج. يحضر في الفيلم حسٌّ كوميديٌّ طفيفٌ على طريقة كروننبرغ، لكنه جافٌّ إلى حدٍّ كبير، ويتجلَّى هذا الحس في وظائف أدريان البحثيَّة المتعدِّدة مثل شركة الاستراد والتصدير الميتافيزيقية التي يعمل بها أدريان كساعي بريد. تتَّسمُ ثرثرة أدريان العلميَّة الفارغة بالهدوء والبرود، ويذكِّرنا صوتُ أدريان البارد بصوت "هال"، العقل الاصطناعي في فيلم «2001: ملحمة الفضاء» (2001: A Space Odyssey) للمخرج ستانلي كوبريك

يعدُّ فيلم «جرائم المستقبل» عملًا محيِّرًا يعجُّ بأشخاصٍ منخرطين في سلوكيَّاتٍ غريبةٍ مهووسة. في الواقع، غالبًا ما يبدو كروننبرغ وكأَّنه يتنبَّأ بشيءٍ منفِّر، كما في أفلام المخرج البريطاني بيتر غريناواي. كما يتميَّز ديفيد كروننبرغ أيضًا بما يشبه النزعة الأكاديميَّة الزائفة، وبهرطقة بحثيَّة دقيقة، إلى جانب رغبةٍ تخيُّليَّةٍ جامحةٍ في تعديل وظائف الأعضاء والحواس البشرية.

يبدوُ استحضار التاريخ الجيني للأقدام مضحكا، سخيفا ومخيفا في آنٍ واحد. في أحد المشاهد يقومُ رجلٌ مريضٌ بثني مشط قدم أدريان فوق العشب، ثمَّ يأتي الدور على أدريان ليفعل الشيء نفسه بمشط قدم المريض، ويضعُ مشط القدم على جبهته، لتظهر على ملامحه علامات الألم والنشوة. يقول أدريان عن أحد المرضى: «ربَّما يكون مرضه شكلًا من أشكال السرطان الإبداعي». يتبع ذلك سردٌ قصيرٌ مضحكٌ في بشاعته عن زميله الذي يستمرُّ جسده في إظهار أعضاءٍ غريبةٍ ذات أغراضٍ مجهولة والتي تُستأصلُ واحدةً تلو الأخرى، إلَّا أنَّ المريض يعود لاحقًا، ويقتحم غرفة العيِّنات لسرقة أعضائه السرطانيَّة المُستأصَلَة.

إن الجانب الأكثر فضولًا وإثارة في تجربة فيلم «جرائم المستقبل» هو ملاحظة كيف أن هواجس كروننبرغ فيما يتعلق بالجسد والجنس والمرض والطفرة، حتى في ظل الميزانية المحدودة والنهج التجريبي الغامض، هي الهواجسُ نفسها التي بقيت معه في كل أفلامه. عاد كروننبرغ عام 2022 ليُقدِّم فيلمًا جديدًا يحمل الاسم نفسه «جرائم المستقبل» (Crimes of the Future - 2022)، ليس كجزء ثانٍ لفيلمه الأول، بل كعملٍ أقل خشونةٍ وبمشاركة ممثِّلين معروفين في هوليوود. وهكذا، وقبل أن يبلغ عامه الثمانين بسنتين أو ثلاث، استطاع كروننبرغ أن يفرض رؤيته السينمائية الفريدة، وأن يظلَّ وفيًّا لها.

لا يكف كروننبرغ عن طرح أسئلته المقلقة في فيلم «جرائم المستقبل» (2022)، ومن بينها: إلى أين تأخذنا الأمراض في المستقبل؟ تدورُ أحداث الفيلم في عالَم متفسخ، خَرِب، تفوح منه رائحة العفن: سفينةٌ ضخمة، راسيةٌ وصدئة، أشبهُ بحوت نفقَ بجنوحه على الشاطئ؛ الشوارع شبه خاليةٍ تحت ظلمة الليل. كلُّ لقاءٍ يحملُ في طيَّاته أجواء مؤامرةٍ خفيَّة، فيما يظهر البطل سول تنسر، والذي يؤدِّي دوره الممثِّل فيغو مورتينسين، مرتديًا رداءً أسود، ووجهه نصف مُقنَّع وحليق الحاجبين، كراهبٍ بضميرٍ مُثقل.

في الواقع، يُعدُّ سول فنَّانًا يُقدِّم عروضًا جسديَّة تهدف إلى إمتاع مراقبين منهكين، أو ربَّما زبائن أثرياء. يعمل كجرَّاح لزراعة الأعضاء وتخليقها داخل جسده، وتُشاركه في هذه العروض شريكته المهنية ومساعدته كابريس، والتي تؤدِّي دورها الممثِّلة الفرنسيَّة ليا سيدو. ينام في سرير عضوي معلَّق بأذرعٍ تنتهي بكلَّابات تشبه المخالب، تنغرس في ظهر يديه ومشطَي قدميه، ويعمل هذا السرير على تحفيز آلامه، ومراقبة أورامه والتكيُّف معها. يفكِّر في وشم هذه الأورام أو الأجسام الجديدة داخل جسده، وهي مهمَّة تتولاها كابريس التي تُشرف على الوشم والاستئصال. وخلال تناول الطعام، يُصدر أنينًا وتأوُّهاتٍ خفيفةً كما لو كان يصارعُ ورمًا في حلقه، بينما يجلس على كرسي عظميٍّ مزوَّدٍ بأذرعٍ تتحرَّك بتشنُّجات مفاجئة، تُصعِّب عليه إيصال الملعقة إلى فمه.

يذهب سول برفقة كابريس لتوثيق وأرشفة الأورام الجديدة في السجلِّ الوطني للأعضاء، وهو جهةٌ تُلزِمُ جميع مَنْ تنبت لهم أعضاء جديدة بوشمها واستئصالها، باعتبار ذلك إجراءً ضروريًّا. نظرًا لأهمية سول الاستثنائية، يُعامَل كما لو كان مرشدًا روحيًا لهذه الأعضاء، أو رمزًا لتجربة تحوُّل الجسد. ويكمنُ الهدفُ الأساسي لهذا السجل الوطني للأعضاء في الحفاظ على إنسانية البشر، فالسماح للأعضاء الجديدة الزائدة بالبقاء داخل الأجساد قد يؤدِّي إلى المزيد من الطفرات التي تتوارثها الأجيال، ما يُنذر بتحوُّل الإنسان إلى كائنٍ غير بشري، خارجٍ عن السيطرة. 

من بين المشاهد الأكثر إثارة في فيلم «جرائم المستقبل - 2022»، يبرزُ مشهدٌ لفنَّانٍ يُعرَف باسم "رجل الأذن"، يغطِّي جسده عددٌ كبيرٌ من الآذان المتفرِّقة، فيما تُخاط عيناه وفمه بأسلاكٍ معدنيَّةٍ أمام الجمهور. يتزامنُ ذلك مع صوتٍ حازمٍ يصدحُ قائلًا: «حان وقت التوقف عن الرؤية.. حان وقت التوقف عن الكلام.. حان وقت الاستماع». بمجرد أن يتوقَّف الصوت، ينطلقُ "رجل الأذن" في رقصةٍ منفردةٍ إيقاعيَّةٍ على الطراز الحديث. يبدو أنَّ رأي سول في عرض "رجل الأذن" يحملُ شيئًا من التحفُّظ: إذ يراه فنًا خارجيًا، استعراضيًا ويرتكزُ على آلامٍ سطحيَّةٍ لا تمسُّ الجوهر، بينما يفضِّلُ هو الفنِّ الداخلي، القائم على توليد وتخليق الأعضاء، والكشف عن الآلام العميقة من خلال التشريح الطبي، كأنَّ الجسدَ عنده مختبرٌ للمعاناة، لا واجهة للعرض..

دون علم كابريس، يعمل سول كعميلٍ سرِّي يتسلَّلُ إلى جماعاتٍ تخريبيَّةٍ تشاركُ في مسابقات جمال الجسد، حيث تقوم هذه الجماعات بتعديلِ أجسادها كي تتمكَّن من أكل البلاستيك. يبحث زعيم الجماعة لانغ دوتريس، والذي يؤدِّي الممثِّل سكوت سبيدمان دوره، عن سول ويقترح عليه فكرة عرضه التالي: تشريحٌ حيٌّ لجثَّة ابنه بريكين الذي وُلِد بقدرةٍ على هضم البلاستيك. في المشهد الأخير من الفيلم، يأكلُ سول أحد ألواح البلاستيك التي كانت الجماعة تخترعُها، ويشعر بالارتياح لأنَّه انتظر طوال حياته ليختبرها. إنَّ خيال كروننبرغ المرعب في إعادة تشغيل الجهاز الهضمي البشري ليصبح قادرًا بالتدريج على تناول البلاستيك ليس بعيدًا عن الحقيقة الكارثيَّة البيئيَّة، حيث يدخلُ البلاستيك بنسبٍ قليلةٍ في دورة طعامنا، إذ تلوِّثُ نفايات البلاستيك البحار والمحيطات، فتأكلُ الأسماك البلاستيك، ثمَّ يأكلُ الإنسان هذه الأسماك.

يبقى ديفيد كروننبرغ، بفضل رؤيته السينمائية الجريئة وتجربته الفريدة، أحد أكثر المخرجين إثارةً للجدل والتأمل في تاريخ السينما المعاصرة، فأعماله التي جمعت بين الألم والتشويه والتحدي للمعايير الجمالية والاجتماعية تفتح نوافذ نحو أسئلة عميقة حول الجسد، الهوية، والإنسانية في عصر متغير ومليء بالتحديات البيئية والاجتماعية. من «جرائم المستقبل» بنسخته الأولى وصولًا إلى الفيلم نفسه بنسخة عام 2022، يثبتُ كروننبرغ قدرته على مواصلة استكشاف المجهول، مسلحًا بخيال خصب وفلسفة تحفر في أعماق الألم والمعاناة، ليقدم لنا سينما لا تكتفي بالتسلية، بل تفرض علينا مواجهة واقعنا بعيون مفتوحة ووجوه مكشوفة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى