الفن دائمًا هو الأداة المُناهضة لتحدي البيروقراطية والقيود التي تُفرض على الصُناع، سواء من الجهات الرقابية أو من المجتمع نفسه، ومع هذا الراسخ كان على الفنان السينمائي في مجتمعنا أن يكون مُبتكرًا، جريئًا، وثائرًا أيضًا!
ولا يمكننا الحديث عن الثائرين من المُخرجين السينمائيين دون التطرق إلى مسيرة داود عبدالسيد صاحب التسعة أفلام في مشوار فني يرى البعض أنه كان من الممكن أن يكون أغزر من الناحية الإنتاجية، ولكن ما لم يختلف عليه الجميع هو امتيازه بواقعية تخطت حدود الممكن.
حصل داود عبدالسيد على بكالوريوس الإخراج السينمائي من المعهد العالي للسينما عام 1967؛ الطفل الذي لم يكن ضمن طموحه أن يصبح مخرجًا سينمائيًا وكان يطمح بأن يقتحم الرواق الصحفي، حتى جاء ابن خالته ليغير مساره وحياته تمامًا، إذ كان يعشق مشاهدة الرسوم المتحركة، مما جعل الأمر يتطور إلى شراء كاميرا وعمل بعض المحاولات في المنزل، بل كان على علاقة ببعض العاملين في مجال السينما. كانا في السادسة عشرة حين أخذه ابن خالته إلى "استوديو جلال" القريب من سكنهم حيث كان يتم تصوير فيلم من إخراج أحمد ضياء الدين الذي عرفه بحكم زمالته لابنه في المدرسة. كانت زيارة فارقة في مستقبل داود عبدالسيد؛ انبهر بالسينما بصورة كبيرة؛ الأمر الذي لم يستطع تفسيره حتى الآن. لم يكن للأمر علاقة بالنجوم أو الإخراج أو التكنولوجيا…بل بشيء آخر غامض…وقرر بعد ذلك الالتحاق بمعهد السينما.
عمل بعد تخرجه كمساعد مخرج في العديد من الأفلام، منها فيلم "الأرض" للمخرج يوسف شاهين، "الرجل الذي فقد ظله" للمخرج كمال الشيخ، و"أوهام الحب" للمخرج ممدوح شكري.
وعلى الرغم من مشاركته في تلك الأعمال البارزة مع أسماء عملاقة، فإنه ترك العمل كمساعد مخرج، لأنه ببساطة كان لا يحبه. لم يكن مزاجيًا أبدًا؛ قد يرى البعض أن في خطوته تلك بعض من التهور، لكن دائمًا ما يوجد خيط رفيع بين شيء وآخر، بين أن يكون الشخص مزاجيًا أو فقط يريد أن يفعل ما يُحب، ويعلم تمامًا أنه يملك ما يجعله اسمًا ذا شأن كبير، مستقلًا بذاته، ويؤكد هذا حديثُه عن تركه مهنة مساعد المخرج: «لم أحب مهنة المساعد. كنت تعسًا جدًا وزهقان أوي. لم أحبها…إنها تتطلب تركيزًا أفتقده. أنا غير قادر على التركيز إلا فيما يهمني جدًا، عدا ذلك ليس لدي أي تركيز».
أيًا من أراد تتبع سيرته يعلم أنه كان استثنائيًا، وأظن أنه أيضًا كان يؤمن بذلك؛ كيف لا وقد أمضى ما يقارب خمسة عشر عامًا في شوارع القاهرة، يرصد حالة المجتمع المصري وما فيه من أحزان وآلام؟ صنع العديد من الأفلام التسجيلية، أهمها "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" (1976)، "العمل في الحقل" (1979)، و"عن الناس والأنبياء والفنانين" (1980). وكأن ما أمضاه من سنوات طويلة في الاحتكاك المباشر مع الناس ومعرفتهم بشكل أعمق جعل إحساسه يعمل بطريقة مختلفة وصادقة، وهو شيء يصعب اكتسابه. كانت صورة داود عبدالسيد في أفلامه التسجيلية هي الواقع الذي كان يحلم بوصوله إلى عقل المشاهد. لم يتحقق حُلمه في رحلته التسجيلية–لم يحقق منها أي شئ–لكنها أوصلته إلى الحلم الأكبر. كان يعلم أن الفيلم التسجيلي صناعته في حد ذاتها حقل تجارب خالٍ من أي خوف يتعلق بالخسارة، كالخسارة المادية على سبيل المثال. استغل هذا التجريب في كسب الثقة والقدرة معًا. لم يعد يخاف من الكاميرا؛ يشعر أنه قادر على تجسيد أفكاره في شكل سينمائي.
على قلة أعماله الروائية، يُدرك البعض كيف كانت طبيعة داود الانتقائية الساعية نحو الكمال في العمل الفني، لذا لم يُسرع في تنفيذ أول أعماله الروائية. كتب العديد من السيناريوهات التي وصفها حينذاك بأنها محاولات غير ناضجة، حتى وصل إلى ما يُعرف بالسيناريو الناضج نسبة إلى رؤيته في "كفاح رجال الأعمال"، السيناريو الذي تعاقد على تنفيذه عام 1980 ولم يستطع تنفيذ فكرته لأسباب تخص المنتِج، كما ذَكَر. ولاكتمال الرؤية الشخصية وتحقيق المُراد في سينما داود عبدالسيد، فإنه يكتب أفلامه بنفسه، ليُخرج فقط ما يشعر به وما يتفاعل معه، فهو لا يميل إلى خلق عوالم أو سرد قصص تقليدية لا يستطيع الشعور بها؛ حتى عندما يكتب شخصياته، يكتبها باهتمام خاص فريد من نوعه، يجعل العمل متمحورًا حول الشخصيات لا القضية، فهو يتتبع الشخصية، تاركًا لها المساحة للتصرف بتلقائية والتعبير عن أحلامها وطموحاتها بأي طريقة كانت. لا شيء محدود في شخصيات داود عبدالسيد، لأنه لا يتدخل في تطورها، بل يتركها تأخذ امتدادها الطبيعي ويكتفي فقط بتتبعها حتى الوصول إلى النهاية. وبهذا تتحقق المعادلة الصعبة لمخاطبة أكبر عدد من الناس وأن يكون هو بذاته راضيًا عما قدمه. كانت تلك المعادلة من أهم الأهداف التي يجب تحقيقها خلال العمل، وعلم أن لتحقيقها يجب أن يعمل على الاتصال لا الجاذبية؛ دائما يريد لأفلامه الحد الأدنى من الجاذبية، أو كما يقول: «عايز أعمل اللي أنا عايزه داخل إطار أن هناك مبدئيًا جسر بينك وبين الناس».
وما يستدعي الدهشة فيما يخص طريقة تنفيذ داود لأعماله هو أنه لا يُفضل التصوير خارج الاستوديو. أمر مُحير بالنسبة للبعض؛ السيد المُبجل للسينما الواقعية المصرية لا يفضل التصوير في الأماكن الطبيعية رغم تجربته الطويلة مع مشروعه التسجيلي في شوارع القاهرة، ومع ذلك فَضل التصوير في الاستوديو. تحدٍ صعب لا يبرع فيه إلا فنان ذو رؤية وقدرة فائقة الجودة، فهو يعتقد أن هذه هي السينما: أن تكون لك الحرية في فتح الحائط الرابع للديكور، وأن تعيد تشكيل الواقع في شكل قد يكون أكثر اكتمالًا من الواقع الخارجي. بالتأكيد يلجأ للواقع والأماكن الطبيعية عندما يلزم الأمر، لكنه مقتنع تمام الاقتناع أن التجربة المثلى للتصوير تقبع في الاستوديو مع الديكورات. يؤكد ذلك بحديثه عن فيلم الصعاليك: «لو كان بإمكاني بناء الميناء في الصعاليك، لما ترددت». مع كل هذا، لم يستطع أحد التفرقة بين ما صوره داود في الأماكن الطبيعية وما صوره في الاستوديو. نجح تمامًا في إضفاء واقع للواقع؛ مزج واقع الحدث مع واقع المكان.
عانى داود ليستطيع إنتاج أفلامه، ليس فقط لسيطرة السينما التجارية أو سينما "المقاولات" في هذا الوقت، بل أيضًا لأفكاره وتوجهه الواقعي الجديد الذي كان بالشيء التجريبي وقتها. استطاع أن يُخرج فيلمه الروائي الأول "الصعاليك" عام 1984 على الرغم من أنه أنهى كتابته عام 1981، إلا أن مشاكل في الإنتاج تسببت فى تأخير تنفيذه ثلاثة أعوام، حتى قرر داود وبعض العاملين على الفيلم التعاون في إنتاجه ليخرج أخيرًا إلى النور في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1984، ولاقى احتفاءً شديدًا من النقاد، وكان نقطة انطلاق حقيقية لمخرج جديد صاحب رؤية اجتماعية مختلفة ومميزة، بداية ساحرة مع عمل قدّم حياة البوهيمية والصعلكة–كما في عنوان الفيلم–وعَكس أحوال المجتمع الاقتصادية والمشاعر المعقدة مثل الحب والندم والخيانة، والعمل في أي شيء، أخلاقي كان أم لا، لكسب لقمة العيش، وقدم أيضًا رؤية مغايرة تمامًا؛ لم يقدم عملًا يُحاكم الشخصيات أخلاقيًا، ولا يتطلع لإدانتها، بل يتتبعها ويتفهم دوافعها. رؤية لا تتضمن أحكامًا مُسبقة ولا أي شيء سوى البحث عن فكرة الخطيئة وفهمها والغوص في أعماق الإنسان وفهم الجدلية الدائمة بين الفرد والمجتمع المحيط به. نجح الفيلم في الأوساط النقدية، لكنه لم يلقَ النجاح الجماهيري نظرًا لعرضه في الصالات بعد عام كامل من صدوره.
بعد خمسة أعوام–أي في عام 1990–قدم داود فيلمه الثاني "البحث عن سيد مرزوق" بصعوبة أيضًا، لعدم وجود مُنتج مقتنع بأفكاره وبما يستطيع أن يقدمه، وكان بالفعل قد توصل لاتفاق مع الفنانة سميرة أحمد لإنتاج الفيلم. تحدث عن تلك التجربة في وقت لاحق، مُشيرًا إلى أنه لن يسمح لنفسه بأية تنازلات في النوعية، ولم يشعر في أي يوم أنه تنازل، لكن في تصوير "سيد مرزوق" كان يشعر دائمًا بالتنازل والتساهل، لأنه لا وقت لشيء من التفكير أو التأمل. وإن جزء من الاستمتاع بالعمل يكمن في تأمله، والاطمئنان أن كل مشهد مُصور تم تناوله بالطريقة الصحيحة، لكن إذا عدت إلى المنزل تشُك فيما صورته، فهذا هو الأمر المتعب، الأمر الذي عانى منه في تصوير "سيد مرزوق".
وبالحديث عن هذا العمل، فهو لا يختلف في جوهره عن أعمال وأفكار داود الأخرى، لكنه وقتها كان صادمًا في طريقة تقديمه. استخدم داود أسلوبًا جديدًا، نسبة إلى ما قدمه في عمله الأول بل وللصناعة المصرية ككل، فالأسلوب التعبيري الذي ظهر في هذا العمل لم يكن متعارفًا عليه حينذاك، وعلى الرغم من ذلك، كان للواقع ظهور شديد في العمل وعبّر عنه بكل وضوح.
عبّر عن كل أفكاره التي طالما أراد أن يناقشها ويعكس مظاهرها ويسلط عليها الضوء من خلال المجتمع، ففي يوم من حياة يوسف كمال–الشخصية الرئيسية للعمل–استطاع داود أن يُحلل طبقات المجتمع المصري ببراعة شديدة. تحدث عن العزلة والزيف والسلبية والتمرد والقيود والحرية والإرادة. ضمّن كل هذا خلال رحلة اليوم الواحد في عالم سيد مرزوق. وعلى الرغم من تخلي العمل عن السرد الخطي واعتماده على اللاتتابع والإسقاط الرمزي، فقد ظل متمسكًا بالزمان والمكان حتى النهاية.
هكذا كان داود، يصنع ما يُحب وما يشعر ويتفاعل معه. يجرب فإذا به يخلق ويُبدع. لم يتفق مع وجهة نظر المتخصصين دراميًا أن لكل شيء نتائج حتمية وواضحة؛ كان يُدرك أن الحياة ليس فيها ذلك. ليس شرطًا أن يبدأ الفيلم بالبداية وينتهي بالنهاية المتوقعة كالزواج أو الموت. لا يحب الدراما المغلقة بين قوسي البداية والنهاية، ويرى ضرورة وجود توازن بين الضرورة والتلقائية…كل شيء لابد أن تكون له ضرورة، ولكن في نفس الوقت لابد أن تكون هناك تلقائية الحياة.
كان هذا العمل مرهِقًا له. شعر طيلة التصوير بالقلق والخوف من أن تأتي النتيجة كما لا يتمنى؛ ذلك لأنه كان مرهَقًا، يعمل لمدة أربع عشرة ساعة في اليوم فترة تصوير العمل. لكن ما إن بدأ في تركيب الفيلم حتى شعر بقيمته، وكانت النتيجة تبدو معقولة بالنسبة إلى مخاوفه. مرة أخرى أثار داود جدلًا في مهرجان القاهرة، ولاقى العمل احتفاءً شديدًا، حتى أنه حصد جائزة الهرم الفضي، ومرة أخرى أيضًا لم يلقَ العمل أي نجاح جماهيري. لم يستمر الفيلم في دور العرض أكثر من أسبوعين، فالفنانة سميرة أحمد–منتجة العمل–لم تقم بعمل الدعاية المناسبة للفيلم عوضًا عن اختيار موعد سيء للعرض، وكان الموعد مباشرة بعد انتهاء مهرجان القاهرة السينمائي.
في العام التالي قدم داود عملًا يمكن وصفه بالملحمة السينمائية وصفًا دقيقًا لا صيغة مبالغة، فما جاء في فيلمه "الكيت كات" كان تناغمًا ومزيجًا بين أفكاره وكل ما أراد أن يقدمه يومًا، بل حتى ما يتخطى حدود تنفيذه في العمل القائم عليه. استوحى وفكك شخصيات رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين" ليصنع برؤيته الفريدة عالمًا موازيًا لعالم الرواية، عالم اعتمد على شخصية الشيخ حسني وابنه كشخصيتين محوريتين لهذا العمل، يبني حولهما عالمًا آخر تمامًا؛ الشيخ حسني الذي لم يكن ليظهر بتلك البراعة والتجسيد العبقري لولا أداء محمود عبدالعزيز، لكنه أيضًا كان مرآة لداود نفسه. بالرجوع إلى أنه لا يصنع إلا ما يتفاعل معه ويشعر به، نجد وصوله للكمال في التعبير عن ذاته وعن رؤيته في شخصية الشيخ حسني المرح، الصاخب، العنيد، الذي يتحدى علته وكأنها غير موجودة بالأساس، فهو يُنكر وجود هذا العجز ويثور عليه وعلى محاولات الآخرين لتعجيزه: «أنا أعمى يا غبي؟ ده أنا بشوف أحسن منك في النور وفي الضلمة كمان». الشيخ حسني وحيدٌ يغني في الليل رغم الصُحبة المنصتة إلى غنائه، يقود "الشيخ عُبيد" في الشوارع واثقًا كأنه يرى العالم بنظر لا تشوبه شائبة، يُحذره من الحفر في الطريق، يأخذه إلى السينما ويصف له فيلمًا لا يراه، يوهمه بأنه في عرض النيل وهما لا يزالان على الشاطئ.
شخصية الشيخ حسني الجريئة الذكية الخلاقة تكاد تتطابق مع ما ذكرناه عن داود، فهو أيضًا يستبدل العالم الحقيقي والمناظر الطبيعية بعالم أشد واقعية، يتركك تشاهد واقع خلقه بنفسه ولا تستطيع أن تفرق بينه وبين الواقع في الخارج، وينجح كل مرة في جعل الُمشاهد لا يمل من تكرار نفس الأزمات والأفكار في كل عمل. حتى في "الكيت كات"، ناقش داود ما يناقشه دائمًا: الإحباط في شخصية يوسف ابن الشيخ حسني، فهو غارق في شعوره بالعجز ورغبته في السفر والهروب من واقعه المحبط؛ الحُب في عالم الشيخ حسني ومحاولاته الدائمة لتخطي عجزه والعيش بدافع حبه للحياة الذي يفوق أي عاطفة أخرى، فهو الذي يغني مع ابنه ويصحبه في نزهة ويجعله ينطلق انطلاقة جديدة برؤية مختلفة للحياة، متقبلًا واقعه، متصالحًا مع ذاته.
الخيانة أيضًا تبرز بشكل قوي في عالم "الكيت كات": ففاطمة، رغم زواجها من أحد أثرياء العرب، تعشق يوسف (لم يُلق داود عليها اللوم كما يفعل دائمًا، فهي مهجورة بعد أن انقطعت أخبار زوجها بعد سفره إلى بلده)؛ و"روايح" تخون زوجها وتهرب لتتركه وحيدًا غارقًا في خمره؛ و"عواطف"–أم "روايح"–التي لا تكترث لهروب ابنتها ولا تهتم بأحوال ابنتيها الأخيرتين، تستجيب للشيخ حسني وتدعوه للقاء آخر؛ وزوجة حسن العليل تخونه مع "المعلم هرم". تعقيدات عديدة تخلق مواقف تبدو لبعض المشاهدين أو كلهم غير أخلاقية، ولكن مع داود لا مجال للمحاكمة أو النقد، لا شيء غير التفهم والعطف وأحيانًا التبرير؛ عرض وتتبع دائم للنفس الإنسانية وكل ما تحمله من تناقضات. يعلم داود جيدًا أو يريدك أن تعلم أن شخصياته ما هي إلا شخصيات على هامش العالم تحاول أن تنتزع شيئًا من الحياة في لحظات ضعفهم وآلامهم وندمهم أيضًا.
تتناغم جميع عناصر العمل من التمثيل والإخراج والموسيقى والديكور بشكل مثالي، يجعلك تكتفي بالحديث عنه فقط دونًا عن غيره إذا أردت الحديث عن رؤية وأفكار داود الاجتماعية وعن فلسفته بشكل عام. لاقى العمل احتفاءً شديدًا على الصعيد النقدي والجماهيري أيضًا، ففي عامه عُرض للجماهير أكثر من عشرين أسبوعًا. شيء مذهل بالطبع: مُخرج يقدم فيلمه الروائي الثالث ليضع نفسه في طليعة المخرجين المصريين، مُعلنًا عن قدوم ظاهرة فنية جديدة في السينما العربية.
انطلقت مسيرة داود عبدالسيد ليصنع على مدار سنوات أفلامًا لا تقل قيمة أو عبقرية عن الأفلام السابقة، وعلى الرغم من حصوله على التقدير النقدي والجماهيري، فإنه–وحتى الفيلم الأخير–ظل يُعاني في حروبه مع الرقابة وشركات الإنتاج. كيف لا وهو داود الممتنع عن تقديم أية تنازلات؟ يُفسر ذلك المدة الزمنية الطويلة بين العمل والآخر.
تضمنت مسيرته الإخراجية بعد "الكيت كات" الأفلام الآتي ذكرها:
أرض الأحلام (1992)
سائق الفرح (1994)
أرض الخوف (1999)
مواطن ومُخبر وحرامي (2001)
رسائل البحر (2010)
قدرات غير عادية (2015)
أتى قرار اعتزال داود عبدالسيد في مطلع عام 2022 بعد ثمانية أعوام من الصمت. كان الأمر أشبه بصرخة استغاثة للسينما المصرية. صرح عبدالسيد حينذاك بأن قراره بسيط ومنطقي مع كونه لا يستطيع التعامل مع نوعية الأفلام التي يفضلها الجمهور حاليًا، والتي يبحث عنها من أجل التسلية وليس لمناقشة القضايا التي اعتاد أن يطرحها في أعماله. كلمات تبدو للوهلة الأولى وكأنها تلقي اللوم على الجماهير والذوق العام، إلا أن تاريخ داود في مواجهة تحكمات شركات الإنتاج والرقابة يضع كلماته في سياق منطقي، وهو تسجيل اعتراضه على المناخ العام لعدم قدرته على العمل–هو وغيره–لتقديم أفلام جديدة.
تحدّث مشيرًا إلى عدم اهتمام الرقابة الفنية بأي شيء سوى منع السيناريوهات وخنقها للمجال وعدم اكتراثها بالطبقة المتوسطة، إذ يرى ويقترح أن يتم عمل صالات عرض في الأحياء وأن تكون بأسعار مناسبة لتلك الطبقة. تحدث أيضًا عن تأثير الرقابة السلبي على العملية الإبداعية، وأنه يجب على الرقابة أن يقتصر دورها على مراقبة الفئات العمرية لا محاكمة السيناريو. اختتم داود مسيرته بإخراج ثمانية أفلام من أصل تسعة سيناريوهات قام بتأليفها، وبعد أن كان ثائرًا في أعماله على المجتمع بأفكاره ورؤيته الاجتماعية كفنان، ظل ثائرًا بعد اعتزاله على القيود والرقابات كمواطن.
الهوامش:
1. كتاب "داود عبد السيد واقعية بلا حدود"