دروب كيارستمي ونجيب محفوظ: تشكيل الواقع بالشِّعر والمعنى.

October 10, 2023

بإحساس الشَّاعر ونظرة الراصد وفكر الفيلسوف صنع عباس كيارستمي عالمًا خاصًّا واتجاهًا جديدًا في السينما العالمية. فلم يحتج إلى جنسٍ أو عنفٍ أو حيل بصريَّة لصناعة فيلمه الخاص، ولا إلى استخدام الحبكة التقليدية والموسيقى المكررة أو العمل مع نجوم السينما المشهورين. وقد كانت أفلامه القصيرة والوثائقية والروائية رحلة بحثٍ وتقصي، وعالج فيها العديد من أسئلة الوجود وقضايا الأطفال والنظام التعليمي والتفاوت الطبقي. فنرى ذلك الطفل الصغير يبحث عن بيت زميل له في المدرسة «أين منزل صديقي؟» 1987، ورجلاً يبحث عن شخصٍ يُساعده على تولي عملية دفنه بعد أن ينتحر «طعم الكرز» 1997، ومخرِجًا يبحث عن طفلين ظهرا في فيلمه «وتستمر الحياة» 1992. ورجلاً مثقفًا هاربًا من الحرب العراقية-الإيرانية مع زوجته بحثًا عن مكان آمنٍ في شمال البلاد «سفر» 1995، و طفلة في السابعة من عمرها تبحث عن مالٍ أضاعته في السوق كي تشتري سمكة ذهبية «البالون الأبيض» 1995. ورجلاً متضرِّرا من الحرب يناضل بحثًا عن موطئ قدم له في إيران المعاصرة «الذهب القرمزي» 2003.

ولا تختلف فلسفة نجيب محفوظ كثيرًا عن فلسفة كيارستمي، فذاك صابر يبحث عن الحرية والكرامة والسَّلام في كنف سيد رحيمي «الطريق»، وجعفر الراوي يبحث عن الفردوس المفقود في كنف جده «في قلب الليل»، وعثمان بيومي يبحث عن السعادة «في حضرة المحترم»، وذلك الشاب الذي يبحث عن العلاج من مرضٍ مجهولٍ عند «زعبلاوي»، وكذلك عمر الحمزاوي يبحث عن سرِّ الكون والوجود والمعنى في «الشحاذ». 

عند كيارستمي لا يجد المُوشِك على الانتحار في فيلم «طعم الكرز» من يساعِده، بل يتوصَّل إلى أن الحياة تستحق أن تُعاش، ولا يصل الطفل إلى منزل صديقه «نعمت زاده» الذي هدده أستاذه بالفصل في فيلم «أين منزل صديقي؟» ولكن يساعِده بكتابة الواجب، وتبوء رحلة المخرج في البحث عن الطفلين في فيلم «وتستمر الحياة» بالفشل، ولكنه يعرض آثار الزلزال وإصرار الناس على الحياة. في الجهةٍ المقابلة، لا يلقى صابر في رحلته من الإسكندرية إلى القاهرة السَّلام ولا الأب الغائب، ولا ينال جعفر الحرية عند جده فيتمرَّد عليه ويخرج من السَّرايا، ولا يجد الشاب الباحث عن زعبلاوي إلا في المنام وحينما يستيقظ يجده قد مضى، ولا يتوصَّل عمر الحمزاوي إلى سرِّ الحياة. ويمكن عدُّ الفارق بين الرجلين بأن أبطال كيارستمي لا يعرفون عمَّا يبحثون عنه بالتحديد على عكس أبطال محفوظ.

في عوالم كيارستمي ونجيب محفوظ، لا يتعلَّق الأمر بالوصول، إنما بالرحلة، إذ ما يهمُّ حسب تعبير كيارستمي «ليس الهدف الذي نرغب في الوصول إليه وتحقيقه لكن الطريق الذي يجب أن نسلكه للوصول إلى هناك». لذا لا يصل أيٌ من أبطالِهما إلى وجهته أو غايته، فتتجلَّى فلسفتهُما الخاصة في رحلة البحث التي يستخدمانها كاستعارةٍ عن الحياة. 

يعبِّر كيارستمي عن فلسفته عبر الأطفال، إذ يستنطق أسئلة البراءة والطفولة، وهو يميل إلى استخدام اللقطة العامة والطويلة التي تمنح إطلالةً أوسع على المجتمع الإيراني، وينجح في تحقيق أفلام من وجهة نظر طفل، ليس أي طفل، بل الطفل الذي بداخل كل فرد منَّا. وحين ينتقل إلى عالم الكبار نجده يعبَّر عن مأزق أبطاله بشكل مختلف تمامًا كما هو الحال في «كلوز أب» و «تقرير». فسابزيان، بطل كلوز أب، يُحاكم لأنه اِنتحل شخصية المخرج مخملباف وأقنع عائلة إيرانية بتصوير فيلم وهمي، فينقُل كيارستمي الحوار بكاميرا عامة تركز على القاعة والحاضرين باعتبار أنها صورة عامة تخصُّ القضاء، وكاميرا مُقرَّبة على بطله تخصُّ دفاعه عن نفسه، وتكشف عن حبه للفن واضطراره للكذب بحثًا عن التقدير الذاتي، فالكذب هنا ليس شذوذًا أخلاقيًا،  بل توكيدًا ذاتيًا لشخصيته التي لم يتسنَّ له أن يعيشها في المجتمع، فهو يعترف بذنبه، لكن ليس لأنه كان يرغب في السطو على منزل العائلة! بل لأنه يحب شخصية مخملباف وأفلامه التي تنحاز للفقراء والمعدمين، فتصبح الأدلة التي تدينه في مرافعته شواهد إثباتٍ على فرادته.

أما في فيلم «تقرير»، يخوض كيارستمي تجربةً مختلفة تمامًا من حيث الأحداث والشخصيات والتصوير والمعالجة الدرامية، وهو على عكس ما سيؤكِّده لاحقًا في حواراته بأنه لا يفضل التَّصعيد الدراميُّ في سينماه، بل المشاهد الشِّعرية والحميمية التي تعكس فلسفته، فنشاهد التداعي الشخصي والاجتماعي لمُراقب ضرائب في وزارة المالية: اتهامه بالفساد واختلاس الأموال، محاولة انتحار زوجته، فقدان الوظيفة، هجران أصدقائه له، وكل ذلك عبر كاميرا حادةٍ ومشوهةٍ تركز على المجتمع الإيراني ما قبل الثورة، وهو هنا يتعامل مع عالم أكثر تعقيدًا، إذ يتحول الإخفاق الشخصي لبطله إلى إدانةٍ أوسع تشمل مؤسسات الدولة والمجتمع. لا يهرب كيارستمي من الواقع ولا يوثقه، بل يُعيد اكتشافه وتشكيله بالشِّعر، فيمزج بين الدرامي والوثائقي، بين الواقعي والخيالي. ولئِن تعمَّد كيارستمي على التحريض الخفي بالأسئلة الشائكة والمشاهد البصريَّة لتناقضات السُّلطة والمجتمع، الحياة والموت، فإن هذا التحريض في أدب محفوظ أقرب إلى التمرُّد بالصورة الرمزيَّة والمباشرة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى