"والدي كان شاعرًا وأنا أيضًا كتبت الشعر في صغري، أظن ذلك كان في الثامنة وتوقفت في الحادية والعشرين". هجر كتابة الشعر في العشرين من عمره لكنه حمل عالمه الشعري داخله، فقد بدأ حياته الفنية كمساعد مخرج لبازوليني سنة 1961 بعد إخراجه عدة أفلام قصيرة، ثم أخرج فيلمه الأول (The Grim Reaper 1962) عن سيناريو لبازوليني، بدأ عمله السينمائي واقعيًا كما هو حال معلمه باولو وكذلك أثر الموجة السينمائية في إيطاليا، غير أنه اختطّ طريقه الأصيل متأثرًا بغودار في أفلامه التالية، تاركًا الواقعية التي نحن مهووسون بها حسب تعبير بازان، إلى أخرى موازية وأكثر جمالية وقابلة للسيطرة عليها، وهذا ما كان يقوله بيرتو لبازوليني في حوارٍ بينهما: "لا يمكن أن تأتي بزبال ليتحدث كزبال، عليك أن تجري على لسانه بعض الفلسفة"، هذه الرؤية هي التي يؤسس من خلالها بيرتو سينماه الخاصة، بعد انفصاله عن الواقعية الإيطالية، أنشأ واقعيته الخاصة، وهي حركة واقعية موازية فالعمل السينمائي عنده لا يمكن أن يسيطر على كل روابط الواقع وإلا فإن هذه الروابط تتحطم بمجرد إغفال أي تفصيلٍ عن سيرة أحد أبطاله.
لذا فإن زبال بازوليني لا يستطيع أن يشرح العالم من حوله كزبال دون تصوير هذا العالم الذي يحيا فيه، دون أن تقوم الكاميرا والنص بشرح العالم كي يكون لحديثه معنى، بينما زبال بيرتو لا يحتاج أن يلتفت ويبحث عن مصدرٍ للكلمات؛ لأنها تخرج من خلال الحدث ذاته، لا الفضاء الذي يحيط به، أظن أن هذه واحدة من الفروق بين واقعيتين، واقعية صرفة تعكس العالم ويأتي الجمال من بين ثنايا هذا العالم، وواقعية موازية للعالم تسعى لخلق الجمال لا العالم نفسه، على أن هذا التأثر بغودار هو ما صار أحد أهم المآخذ عليه، باعتبار أن هذا التأثر لا يعني خلق سينما شبيهة بما كان يبدعه غودار، فالعمل الذي ينتجه بيرتو خاصةً في فيلمه السريالي (PARTNER 1968) يحاكيه على مستوى المفاهيم فقط، أي أن العمل الذي يصنعه ليس تقليدًا قدر ما هو استنارة، وهذا ما أدركه بازوليني مع بعض الشكوك في حديثه مع بيرتو حين رد عليه: "أنت تتحدث مثل غودار".
تسيطر على أعمال بيرتو ثلاث ثيمات رئيسة: أولها الفرويدية بتمثلاتها الأوديبية والعنف، حيث يُصوّر كنقطة انعطاف في كل عملٍ من أعماله، فالشخصيات لا تطلق كل مكنوناتها دون هذه اللحظة الفاصلة التي تختفي فيها السيطرة على الذات، ويصبح الآخر مباحًا، والثانية الماركسية كونه كان عضوًا في الحزب الشيوعي مما يجعلها القاعدة التي ينطلق منها لرؤية العالم، هذه النظرة التي أسهمت في خلق حالة نضال في أكثر أفلامه واقعيةً ومباشرة (The Grim Reaper)، والأخيرة رؤيته الفنية التي تتضح من خلال المشهد السينمائي كاملًا، فكل تفاصيل المشهد السينمائي عنده تسعى في النهاية إلى خلق عمل فني متكامل، هذه المفاهيم الثلاثة يمكن تلخيصها بصورة واحدة هي الصراع داخل الفيلم عند بيرتو.
كان لنشأة بيرتو أثرها في تناوله للمفاهيم الثلاثة في أعماله ما بين الفترة 1962 و 1979، فانضمامه للحزب الشيوعي في مسقط رأسه "بارما" شابًا أثّر في طريقة تعاطيه مع القضايا السياسية والاجتماعية، وحتى مع التاريخ الإيطالي الحديث، لذا تتغذى أعماله أولاً على ما كان يسميه مورافيا بالرغبة الجارفة لنقد الطبقة البرجوزاية الرومانية في حقبة ما بعد الحرب؛ نظير تعاونها مع الفاشية وهو ما يغطيه بيرتو بشكلٍ صريح في ملحمته الخالدة (NOVECENTO 1976)، كما أن حضور بازوليني المبكر في حياته السينمائية أسهم بحضور العنصر الفرويدي في أعماله، العلاقة الجنسية في فيلمه (La Luna) تأخذ شكلًا أوديبيًا معكوسًا عنده، فقتل الأب ليس ما يقوم به بيرتو إنما إحياؤه، وإذا ما نظرنا إلى المشاهد الإيروسية في التانغو الأخير بباريس، فإن الجنسانية تذهب باتجاهين متطرفين، تتوزع هذه المفاهيم في أعماله سعيًا منه لخلق عالم جمالي، هو الغاية النهائية من العمل السينمائي.
La Luna 1979: أوديب معكوسًا – إحياء الأب لا قتله.
في هذا العمل يقوم بيرتو بعكس قصة أوديب؛ ليكتب أوديبه الخاص، فالأب لا يُقتل ولا يموت بل يتم هجرانه من قبل الأم التي تحمل الطفل إلى عالمٍ آخر هو نيويورك، حالة انتقال تشبه إخراج الطفل من طيبة لتكون له هوية جديدة، عالمًا مختلفًا، وقصة ليست بالأولى، غير أن قدرة بيرتو على ربط جو سيلفري بالمكان الأول تتضح منذ المشهد الأول حين ربط الطفل الصغير والعاري بالخيوط في إشارةٍ إلى خيوط ربّات القدر، وهذا ما يشبه التأكيد على ربط مصير الفتى بالبيت الأول، هذه الهجرة الطويلة التي تقوم بها كاترينا مغنية السوبرانو الناجحة تلزمها بخلق هويةٍ جديدةٍ لها ولابنها، وبداية حياة ينقطع فيها جو عن عالمه الأول، فلا يعرف والدًا سوى زوج أمه، ولا يربطه بالعالم أحدٌ غير هذه العائلة، لا يوجد تطابقٌ كاملٌ في القصة ما بين أوديب سوفلوكيس وأوديب بيرتولوتشي، فهنا الأم هي أصل الهجرة لا نبوءة العراف بشأن الطفل، غير أن هذا المصير المربوط بخيوط بيرتو في بداية الفيلم هو ما يقود إلى ضرورة موت الأب الثاني، هذا الموت الذي يأتي عاديًا بأزمة قلبيةٍ مفاجئة، هو ما يعيد ترتيب مصير جو، فلا بديل عن موت الأب كي تتكشّف المصائر في النهاية، والتي كان أولها رحلة العودة إلى المكان الأول (إيطاليا)، وبدون هذا الموت لا يمكن أن تكسب العودة أي معنى، ولا يمكن استعادة المفقود في الحياة، يحوّل هذا الموت جو سيلفري إلى أوديب، وهو ما يعيد إليه هويته الأصلية، و من يحوّله إلى المشتهى عند كاترينا، كان للتحولات التي مرّ بها جو في حياته الإيطالية دورٌ في تحوله لأوديب، فما مر به يشكّل اختبار سفينكس، وما مرت به أمه يشبه الوباء الذي حلّ بطيبة، كلاهما؛ الابن والأم، مرّ بأزماته التي لم يكن لها نهاية، كان عمل الأم ينهار وأدوارها لم تعد بذات الألق الذي كانت عليه، ذلك لأنها كانت تفقد جمهورها المفضل وهو ابنها الذي بدأ بإدمان المخدرات ثم العلاقات المثلية كي يحصل عليها.
كانت التحولات التي يمر بها الفتى تنعكس على أمه، فالضياع الذي يصيبه كان يصيب عملها، كل خللٍ في حياته يأتي بخللٍ في حياتها هي الأخرى، هذا الترابط بين الاثنين هو ما يقود الأم إلى اكتشاف لحظات النضج عند جو وهي آخر المسافات التي بُنيت بينه وبين أمه، كانت محاولاتها الحثيثة لإصلاح ابنها - للدرجة التي تزور فيها مصطفى الفتى المغربي المهاجر والذي يبيعه المخدرات - فاشلةً، ففي اللحظة التي تدرك فيها عمق هذا الفشل تدرك في الوقت ذاته عمق الهاوية التي سقط فيها، إن إدراك الفشل هذا هو ما يحوّله إلى أوديب في عيني أمه، فاللحظة التي تصل فيها الأم إلى اليأس هي ذاتها التي يحيا فيها جو من جديد، هذا البعث لا يعيده كجو بل يعيده إلى الحياة كأوديب، هذا التحوّل هو ما يؤدي بالأم إلى محاولة أخرى هي ربط الفتى بماضيها هي، -وذلك كمحاولةٍ لدرء هذا التحوّل الذي تكشّف لها، لكن هذا الماضي الذي لم يعشه غير معروف بالنسبة له، فالحياة قبل أميركا هي لحظات مبهمة وليست جزءًا من تاريخه الشخصي مطلقًا- لكن الماضي الذي تنبشه كاترينا ليس الماضي الذي يوجد فيه جو، إنه السيرة التي تخفي من خلالها الأب، فكاترينا أشبه بالهاربة من هذا الماضي الذي تريد اختفاءه، هذا الهرب تطلّب منها أكثر من سرد قصة تخفي بعض تفاصيلها، غير أن الخلل الذي تمارسه في سرد القصة هو حذف بعض التفاصيل، لهذا يكمل جو تحوّله وتكمل هي انهيارها.
تشكل لحظة إدراك كاترينا لهذا التحوّل لحظة الانهيار القيمي في العلاقة بينها وجو، هذه اللحظة التي كانت تتوق إليها الأم وتعبّر عنها للخادمة: "كونشيتا أغلقي الأبواب"، هذا المشهد الذي يشكّل ذروة الانهيار لدى كاترينا، وتحوّلها إلى متهتّكة تصارع حمولة العالم من حولها، الصوت الذي يخرج منها وهي تنادي الخادمة مليء برغبة الانقضاض، كانت تلك اللحظة هي لحظة هزيمتها الوحيدة، ورغم أن العلاقة الجنسية بين كاترينا وجو لا تصل إلى حد الالتحام الجنسي، غير أن هذه الرغبة التي تكتنزها الأم تتفجر في مشاهد أخرى، هذه المشاهد هي ما يقود الأم في النهاية إلى إعادة ربطه بتاريخه المفقود، هذا الربط الذي يقود جو إلى إعادة إحياء والده بدل قتله، وبدون هذا الإحياء أو اكتشاف حقيقة والده والبحث عنه يتحوّل جو إلى مجرد شريكٍ في انتهاكات والدته.
كانت خيوط القدر التي رُبط فيها جو في صغره، هي ما يعيده إلى بيته الأول، والتعرّف على والده في النهاية، وإعادة إحيائه، فهذه العودة هي ما يميت أوديب في النهاية أي أن أوديب الذي خُلق من خلال إقصاء الأب واستبداله بآخر، يُقصى هو الآخر لحظة اكتشاف والده، حيث تشكّل هذه اللحظة ذروة التعافي الذي يعيشه جو؛ ليس من خلال إحياء الأب فقط، بل من خلال البحث عنه، من خلال محاولة استكشاف ما كان ناقصًا في حياته، حيث يبدأ بتجميع القصة من والدته وأصدقائها، هي أشبه بمساءلة العراف عن سبب الوباء الذي حلّ بالبيت كله، وفي سبيل معرفة الغاية كان انتعال حذاء أبيه أولى خطوات السير في درب البيت الأول، كان بمثابة بقايا خيوط القدر الملفوفة حوله في صغره، هذا السير على خطى الأب هو ما يقود إلى إماتة نفسه من أجل إحياء الأب أخيرًا.
Last Tango in Paris 1972: بورتريه إيروسي للحب
1"لقد غيّر بيرتولوتشي وبراندو شكل السينما وإلى الأبد"
يشكل هذا العمل لبيرتو أحد أكثر الأفلام إثارة للجدل وإبداعًا في تاريخ السينما، وذلك لما خلفه من إثارةٍ "فهذا من بين الأفلام التي سيختلف حولها المشاهدون طالما كان هناك سينما، فلا يمكن تجاوزه وأظن أنه سيجعل بعضهم غاضبًا والآخرين يشعرون بالتقزز"2، يعمل هذا الفيلم على تقديم مفهومٍ جديدٍ للحب، يقوم على استكشاف الآخر ومحاولة فهمه، وكسره للوصول إلى تملكٍ مطلق، ولا يمكن الوصول إلى هذا الشكل من التملك حسب بيرتو إلا من خلال جانبه الإيروسي. هناك وجهان للحب: إيروسي وروحي. في هذا الفيلم، تشكّل جين (ماريا شنايدر) –ابنة الكولونيل الميت- هذين الوجهين وحدها، "فهي تحمل التاريخ العاطفي للسينما في ساقيها الطويلتين ووجهها الطفولي"3، بينما يقدم باول (مارلون براندو) وجهًا آخر، يقوم بالدرجة الأولى على البحث والاستكشاف والإيمان بالآخر، غير أن هذا الوجه ينكسر منذ البداية ليكمل باول بحثه الذي يتسبب بنهايته، يبدأ الفيلم بمشهدٍ عادي حيث يصرخ باول على الجسر فيثير فضول جين، ثم يسعى كلاً منهما إلى تأجير نفس الشقة حيث يلتقيان مصادفةً وبفعل فضول جين تنشأ العلاقة بينهما والتي تتأسس على الجانب الإيروسي، فالجنس هو محور ما يلتقيان عليه.
تنشأ في الفيلم بناءً على طبيعة هذه العلاقة ثلاث قصص: قصة باول وقصة جين وقصتهما سوياً؛ هذه القصص المتوازية دليل عبقرية بيرتو وإبداعه ككاتب ومخرج في نفس الوقت، حيث تغذي قصصهما المنفصلة قصتهما النهائية، تبدو قصة جين ذات الحادية والعشرين عامًا قصةً عاديةً، فهي تعيش علاقة حب تربطها بمخرج شابٍ يقوم بإخراج أفلامٍ تجريبية، ومشروعه الأهم إخراج فيلمٍ عنها يكتمل يوم زفافهما، يثرثر كثيرًا عن الحب والجمال والسينما، لكنه لا يقدم المتعة الخالصة التي ترغب بها، فوجود توم يحجّم جين وبشكلٍ مفرطٍ في القسوة، لأنه يحرمها متعة الاكتشاف والراحة التي يسلبها بأحاديثه، تبدو العلاقة بينهما أقرب ما تكون إلى عبءٍ على كاهلها منها إلى علاقة حب، فلا حب يمكن أن يحدث خفيةً بين عدة مواضيع هي اهتمامات توم، لذا فإن الفضول الذي تراه معيار الحركة في العلاقة تجده عند باول، بدءًا من المشهد الأول مرورًا باكتشاف اللذة الجنسية ثم اكتمال ذروته في مشهد الرقص الأخير، حيث تبلغ وحشية باول ذروتها، هذه الوحشية التي تتجلى من خلال ممارسات جنسية عنيفة أشبه باكتشاف الحياة والخوف منها، غير أن انتصار الخوف في النهاية كان مرده إلى اختفاء باول المفاجئ بعد مشهد اغتصابها.
بينما باول ذو الخامسة والأربعين من العمر كان الشخصية الإشكالية في الفيلم، فالأربعيني الذي يعاني من ذكريات طفولة سيئة وترحال قاسٍ انتهى به في باريس قبل خمس سنواتٍ من وفاة زوجه التي عاش معها الحب والخيانة في ذات الوقت، يرى في العلاقة القائمة على الجنس خلاصًا من حالة الانهيار التي يعانيها؛ نظير انتحار زوجه التي يحبها، فمن خلال علاقته بجين والتي بدأت على انتهاكها منذ البداية تتغير الأشياء من حوله بفعل وجودها، فهي تجد فيه تعبيرًا عن حبٍ لم تجده مع توم، حيث تستعير جين تجريبية توم لتطبقها على علاقتها مع باول، حتى تبدأ مشاعرهما بالانزياح صوب علاقة قائمة على الحب، إذ تتضح هذه العلاقة في الشقة التي التقيا فيها للمرة الأولى، فيغدو تأثيث المكان علامةً على تكرارية اللقاء، غير أنه مكانٌ غريبٌ لكليهما، فلا أحد يعرف عن الآخر شيئًا لا اسم ولا هوية ولا شيء، كل ما يربطهما هو العلاقة الجنسية فقط، حتى تتغير الأشياء عند باول.
تنتقل العلاقة بين باول وجين من المتعة الجسدية الخالصة، إلى أخرى هي الحب، لأن الأولى انتهت من خلال إشباعين وهما الجنس والحزن - الذي كان يعيشه باول - على روزا واكتشاف قصص خيانتها. يُشبع باول الحزن من خلال حواره مع جثة روزا، والذي كان بمثابة إدانةٍ ورثاءٍ للميت، هذه الإدانة هي ما يسفر عن الانعتاق والخلاص بالنسبة لباول طالما لم تُدفن جثة روزا، لأن كل ما كان يفعله مع جين هو من باب تجاوز أثر الخيانة، هو رثاءٌ ذاتيٌ من خلال الجنس.
كان مشهد الحوار أمام جثة روزا والذي قدمه براندو واحدًا من مشاهد السينما الخالدة، فهذا التردد بين الحب والكراهية، وبين السؤال والإدانة، وبين الشتيمة والاعتذار، هو ما شكّل الخلاص النهائي عند باول، حيث صار حرًا للانتقال من حالة الرثاء الذاتي إلى حالة الحياة، من حالة التوحش التي عاشها في بداية علاقته بجين، والتي أدّت إلى انتهاكاتٍ لا نهائيةٍ سواءً لذاته أو لذاتها، إلى حالة الحب، فالعلاقة بينهما تتغير بالنسبة لجين بعد مشهد الزبدة، وبالنسبة لباول بعد مشهد البكاء أمام جثة روزا، كلاهما يكسر في داخله قيدًا تجاه الآخر، فجين تكسر قيد المتعة الجسدية الذي عاشته مع باول طوال مدة علاقتهما، وباول يكسر القيد الممتد من الطفولة منذ علاقته الأولى بوالده فترحاله الطويل، إلى لقائه بروزا وزواجه منها، كل هذه القيود والتي صنعها بيرتو لشخصياته، يقوم هو أيضًا بتحطيمها لاحقًا، - إن شخصيات بيرتو الحية طوال العمل هم ضحاياه الأثيرون لا الموتى، فلا يوجد شخصية إلا ويقوم بتحطيمها تدريجيًا في أعماله، كما هو حال باول وجين في هذا العمل، ومارسيلو في "الملتزم"، وكاترينا في "لونا"، وجياكوبي في "المزدوج"، حيث تسعى هذه المتعة اللانهائية التي يمارسها إزاء إنسانيتهم وذواتهم؛ لخلق ذوات جديدة وحكايات مختلفة عن الأولى، ولعل عملية التهشيم هذه أحد شواهد عبقريته، بالإضافة إلى هذا فإن التاريخ المعطى لكل شخصيةٍ من شخصياته هو ما يُحدد نهايتها، فلا شخصية عنده دون تاريخ يتم توثيقه، فتاريخ شخصياته ليس لحظيًا وسريعًا، بل يأتي على شكل تداعٍ في عدة صور، ويتم اكتشافه على مدار الفيلم كاملاً.
تشكل حالة الإحياء عند بيرتو واحدةً من ثيمات الصراع، فباول لا يمكن إعادة إحيائه من دون الحوار مع جثة روزا، ومن دون انتهاكه القاسي لجسد جين، حيث يشكّلان سويًا الانعتاق من حياته السابقة صوب حياةٍ جديدة، تتضح في آخر مشاهد الفيلم والحوار الأخير الذي يكون مغايرًا لكل ما دار في الفيلم، فينتقل باول من الانغلاق على ذاته إلى الانفتاح صوب جين، ومن حالة الجسد إلى حالة الحب، غير أن هذا الإحياء الذي يقوم به بيرتو نحو باول يقابله إحياءٌ مغايرٌ عند جين، والتي تريد العودة إلى حياتها الأولى ما قبل لقائه، ذلك لأن أبرز تهشيمٍ تعرضت له كان اغتصاب باول لها، لذا فالنهاية أقرب ما تكون إلى محاولة دفاع بالنسبة لجين، محاولة لطمس كل الماضي الذي جمعها بباول أو مستقبل يجمعهما تخيّله هو قبل مقتله.
(1970) The Conformist – The Spider’s Stratagem:
التاريخ الشخصي: من الانتقام إلى التضحية.
ربما لا تتضح ثيمة نقد الطبقة البرجوازية الإيطالية كما تتضح في هذا الفيلم من بين أفلام بيرتو، -أما في حالة ملحمته "1900" فإن الأمر يتجاوز السخرية إلى التعرية- ولعل مرد هذا الأمر كون فيلم الملتزم مأخوذًا من رواية لمورافيا بنفس العنوان، والذي كانت تسكنه الرغبة الجارفة بنقد هذه الطبقة على حد تعبيره؛ وذلك نظير تعاونها مع الفاشية في فترة ما قبل الحرب، يُصوّر مارسيلو -ابن هذه الطبقة- الساعي لخدمة النظام السياسي في المساهمة باغتيال أستاذه القديم، المعارض والمهاجر إلى باريس، يسير الفيلم على خطين زمنيين متوازيين ماضٍ يحضر على شكل صورٍ صامتة كتداعٍ للذكريات، وحاضرٌ يحاول فيه تجاوز هذا الماضي الذي أسهم في خلقه، كان مارسيلو يحاول محو صورته الذاتية القديمة والشخصية الماثلة بشكلٍ يومي أمامه من خلال هذا الالتزم تجاه الحزب والنظام، هذا الأمر يتضح في سلوكه الشخصي، في طريقة تفكيره، وفي تعاطيه مع المهمة المطلوبة منه، حتى أن هذا الالتزام يقوده إلى تخليه عن كرامته مقابل محو ماضيه، دون إدراكٍ واضحٍ منه على ما قد يترتب عليه هذا التخلي.
حين يرسم بيرتو تفاصيل الحياة اليومية بالنسبة للمحيطين بمارسيلو بما فيها تفاصيل البنايات الرسمية، فإنه يخلق صورةً قاتمةً توحي بالانسداد الحاصل في أيام تلك الحقبة، فالفراغ يحكم المكان، وما يُراد له التعبير عن الحضور يوحي بنقيضه، لا أحد في المكان سوى هذا الصمت الذي لا تقطعه حركة الناس ولا صراخهم، فالشارع المسكون بالخريف يوحي بالموت إذ يتم تفريغه من أي جمالية سوى فكرة الفراغ، كذلك الأمر بالنسبة للبيوت التي مهما سكنها أهلها تغدو مثل الأطلال، تتحول البنايات الرسمية بقاعاتها الواسعة لمتاهات، وحينما يصير التلصص ممكنًا فإن ما وراء الأبواب هو اكتمال العدمية الأخلاقية، فالقتامة اليومية سواءً للأماكن أو الأشخاص تعكس صورة الانهيار الذي يحيى فيه شخصٌ واحد، والذي يصير محل سخريةٍ من قبل مستخدميه لهذه المهمة، ولإثبات مدى التزامه وأحقيته بهذه السخرية، فإنه يذهب بالانهيار الذاتي إلى أقاصيه، وذلك بعرضه استخدام زوجه لإتمام المهمة، هذا الأمر الذي يتحول إلى إدانة حتى من قبل قتلة النظام بعد الاتفاق معه، يصبح مثار إعجابه بذاته، محاولة أخيرة للتخلص من ماضيه القاتم الذي اختفى فيه والده، ومارس فيه علاقاتٍ جنسية مثليةٍ، كان مارسيلو يحاول تجاوز هذه المعضلات التي عاشت معه طوال حياته، من خلال انهياره الأخلاقي، وأقرب إلى حالة خلق قيمة ذاتية قائمة في الأساس على الانحطاط.
يتغذّى مارسيلو سياسيًا على البذاءة التي يشيعها النظام الفاشي من خلال الإذاعة اليومية، من كم الفراغ الذي ينشره في هذا العالم، وبذا تنشأ علاقاته الاجتماعية التي تقوده إلى مآله الأخير، فيذهب إلى باريس ويتواصل مع أستاذه القديم، والهدف من هذه الزيارة مناقشة الرسالة التي لم يقدمها فترة دراسته، ورغم أن الهدف هو الخلاص من البروفيسور غوادري الذي يحميه أصدقاؤه وزوجه إلا أن هذه الزيارات تضعه أمام أسئلةٍ يجد نفسه عاجزًا أمامها، فعدم قدرته على احتمال شعوره تجاه آنّا زوج البروفيسور يضعف التزامه بالقضية التي جاء من أجلها، لكن علاقتها المثلية بغيليا زوجه، تغذيه سلبيًا صوب إتمام المهمة، هذا التأرجح الذي يعيشه مارسيلو يستشعره القتلة ويتبين من أحاديثهم عنه، فالشك الذي يتولّد في ذاته يصبح ملاحظًا من الآخرين، فتكتمل السخرية التي يمارسها القاتل على أداته. يُقتل البروفيسور بمساعدة مارسيلو الذي يخاف النظر إلى وجه القتيل وزوجه التي تستنجد به، يصبح القتل هنا احتفالًا للقتلة ورعبًا للملتزم، يتغذى الانحطاط على مقتل الزوجين غوادري، وصورة الانهيار التي يعشيها مارسيلو تصير أكثر وضوحًا.
كان جون لوي ترانتينيان بارعًا في تجسيد شخصية مارسيلو، فالخديعة التي تغطي ملامح مارسيلو تجاه نفسه والآخرين تتضح حتى في مشيته الأنثوية، فهناك هزيمةٌ دائمةٌ يشعر بها تجاه نفسه وهي إحدى سماته البارزة، والمقاومة التي كان يملكها مارسيلو في الرواية تُسلب في الفيلم. كان الهدف حسب بيرتو إيضاح نموذجين اجتماعيين يعيشان بشكلٍ عدائيٍ في إيطاليا الفاشية، كما أن طبيعة الصراع داخل الشخصية لا تكتمل إلا بهذا المستوى من الخديعة الذاتية، إذ لا يمكنه تغيير حياته دون وجود هذا الالتزام الذي يبدو خلاصًا نهائيًا له من كل ما كان يمثله ماضيه، غير أن هذا السعي صوب الخلاص هو سعيٌ لآخر انحطاطاته، فالعالم الآن يعيش لحظة 1945 وروما مدمرة وموسوليني مقتول، الإيطاليون في الشوارع، ومارسيلو الذي يجوب الشوارع استفهامًا عن المآل يلتقي باثنين هما أسباب تكرار انهياراته، وهما شيكو المذيع الفاشي والأعمى وصديقه الذي يدخله في الحزب ويدلّ النظام على عميلٍ محتملٍ لمهمة قتل البروفيسور، ولينو السائق الذي كانت تربطه به العلاقة المثلية.
يبرع بيرتو بتصوير حركة الجماهير وهياجهم، حالة العنف الاحتفالي، في خضم هذه الحركة التي تبحث فيها الجماهير عن أضحيةٍ للاحتفال يجد مارسيلو شيكو أمامه ضائعًا وعاجزًا عن معرفة الدرب، هذه اللحظة هي آخر محاولات مارسيلو لتجاوز ماضيه كاملاً لتبرئة ذاته، وتحقيق ما عجز عنه من خلال المساهمة في عملية الاغتيال، حيث تبدو هذه اللحظة هي الجائزة التي سعى إليها طوال حياته، إذ يصرخ بالجماهير مشيرًا إلى شيكو بأنه فاشي، وعميلٌ للنظام المنهار، لكن لا تقف لحظات مارسيلو السعيدة عند هذا الحد فهي تزدهر أكثر بلقاء لينو الذي كان يحاول إغواء طفلٍ في ممرٍ جانبي، فيكون هو الدليل على وجود الفاشيين كما كان الدليل لدرب البروفيسور، في هذه اللحظات فقط يظن مارسيلو أنه انتقم من العالم، بينما هو يعطي ذاته والعالم كله إمكانية النطق بالحكم على ذروة انحطاطه.
في مقابل التزام مارسيلو هناك التزامٌ آخر قائمٌ على التضحية بالنفس وهو التزام آثوس في فيلم "استراتيجية العنكبوت"، والذي يقدمه بعد فشل محاولة اغتيال موسوليني، ذلك لأن الجماهير تحتاج إلى شرارة ومثال من أجل تفجير غضبها ورفضها للنظام القائم، تبدأ القصة في قريةٍ صغيرة يرغب موسوليني بزيارتها لحضور عرضٍ مسرحيٍ فيها، فيتفق أربعة رفاقٍ شيوعيين على اغتياله، غير أن الزيارة تُلغى وهنا تتغير القصة برمتها، فبدلاً عن استهداف الضحية –الزعيم- يتم نصب فخٍ للسكان، الهدف منه تقديم ضحيةٍ مفترضةٍ لبشاعة النظام، يتفق آثوس ورفاقه أن يكون هو هذه الضحية المفترضة، باعتباره الوحيد القادر على تقبل فكرة الموت، وكذلك إمكانية تحوله إلى رمزٍ سياسي، كان الهدف أن تموت القصة في الليلة التي يُقتل فيها آثوس، لكن وفي ذات الليلة يولد آثوس الابن فتتغير الحكاية كاملة.
منذ البداية يسير الزمن بمعزلٍ عن البطل، على الأقل في المشهد الأول فالانفصال بين حركة البطل والزمن تتضح من خلال تجريبية هذا المشهد، فالمشهد خارجٌ عن حركة السرد في الفيلم، غير أن الزمن يتغير، فيصبح آثوس هو الأب والابن في ذات الوقت وكلٌ منهما يسير صوب قدره، يتواطئ سكان القرية على إخفاء الحقيقة عن الابن بينما يتواطئ الأب في زمانٍ سابقٍ على إخفاء الحقيقة عن القرية، وبهذا يبدأ صراع آثوس الابن مع القرية، كما كان حال صراع والده من قبل، حيث يود الابن معرفة الحقيقة والأب يحاول إخفاءها، لكن ومع تعاقب الزمن يصبح التاريخ ملكًا للجميع باستثناء الابن، والذي يبحث فيه عن أحقيته بالمعرفة، والتي تتضح مع تعدد القصص، فالأبطال المتبقون ثلاثة وكل واحدٍ منهم له روايته المختلفة، فلا تنجو القصة من تحريفٍ ومراوغةٍ وأحيانًا من نهاياتٍ مشتهاة، فما بين سعي الأب إلى تغيير حركة التاريخ بعد إلغاء زيارة موسوليني، هناك محاولة الابن لمعرفة هذا التاريخ وتعريته، غير أن التاريخ الذي يتلاعب بنا من خلاله بيرتو هو تاريخٌ جمعي ومشترك، تاريخ شخصي لكل فردٍ في القرية، هو تاريخهم كلهم والحديث عنه يسبب الأذى، فالقصة التي يتداولها الجميع حول مقتل آثوس الأب على يد النظام هي القصة العلنية والحقيقية الوحيدة بالنسبة للسكان؛ لأن ما هو غير متداول يدخل في دائرة غير الحقيقي، لذا ورغم كون آثوس ابن القتيل إلا أن وجوده يغدو في خانة غير المرغوب؛ لأنه يساءل القرية التي حوّلت الأب إلى حامٍ وقديس، وأي مساءلةٍ للقصة المتداولة يلغي القداسة التي تحيط بالتضحية المفترضة.
تتضح الحقائق في آخر الفيلم، تتعرى تمامًا لكنها تصبح مثل الجرح في قلوب أهل القرية، فالتضحية التي قدمها الأب تغدو مع اكتمال القصص واضحةً وغير حقيقية، هذا الاكتشاف الذي يصل إليه الابن يجعله في خانة مُدنّس المنطقة الحرام، فيصير هدفًا محتملًا للجميع بحيث يفقد قيمته الرمزية كونه ابن الضحية وشبيهه، إلى استدعاءٍ تاريخي للفاشية التي تحاول تدنيس كل ما كان عدوًا لها. تتغذى شكوك آثوس الابن على شكوك درافيا عشيقة والده، والتي كانت تؤمن، للدرجة التي قادتها للجنون، بأن من قتلوا والده هم الماثلون أمامها في القرية. غير أن سردية العشاق يخالطها الجنون أحيانًا والمبالغة، لكن ما يعطي لقصة درافيا مصداقيتها هو التردد وعدم الترابط في قصص غيابازي ورازوري وكوستا أصدقاء والده والمتآمرون معه، فكل واحدٍ منهم يكمل القصة من جهته غير أنه يغفل قيمة الراوي في السرد، فالراوي الذي يسرد الأحداث يخاف من تفاصيلها، وفي نفس الوقت يحاول إخافة الابن بافتعال حوادث تزرع فيه الخوف.
يمثل التزام آثوس نقيض التزام مارسيلو، فالرجلان مختلفان في طريقة الحياة، فمارسيلو يحاول استعادة قيمته من خلال الانحطاط والبقاء حيًا قدر الإمكان، بينما آثوس يحاول أن يستمد خلوده من خلال مقتله المصطنع، فكلا الحالين قائمان على استلاب الحياة من شخصٍ معارضٍ للنظام، لكن في حالة مارسيلو هناك قتلٌ للآخر، إبعاده من أجل اعتلاء سلمٍ يقوده في النهاية إلى انهياره الأخير، بينما آثوس يحاول تقديس لحظة الموت من خلال إسباغ صفة التضحية عليها، فكلاهما يحاول السيطرة على قصته الخاصة، غير أن آثوس يرى في هذه القصة حالةً جماهيرية، تتضح في النهاية بفعل السكان تجاه اكتشاف الحقيقة، بينما مارسيلو يحاول إخفاء الحقيقة كلها من أجل حالته الخاصة.
تشريح المعاناة: Agonia 1969
رجلٌ ممددٌ على السرير يحتضر – قس – علب أدوية – غرفةٌ تشبه مشفى مجانين – ضوضاء مثل صلاةٍ بوذية – أناسٌ يتراكمون فوق بعضهم بشكلٍ عشوائي – خدش أظافر على بابٍ خشبي.
هذا الفيلم القصير أكثر أعمال بيرتو تجريبيةً وإيحائية، يشرّح فيه مأساة الإنسان الحديث من خلال صراع الإنسان مع العالم حوله، يسعى بيرتو إلى تأسيس مفهوم المعاناة البشرية في العصر الحديث، من خلال جمع كل قضايا العالم المعاصر في هذه الدقائق الست، فتبدو المعاناة وكأنها تراكمٌ بشري داخل إنسانٍ واحد: عدة أسماء، طموحات مختلفة، ألوان ولغات شتى، ولا شيء يراد من هذا العالم سوى الطمأنينة، لا أسماء لكل شخصيات الفيلم، لا هويات سوى الاشتراك في المعاناة، ولا حل للبشرية، يقوم بيرتو بتشريح هذه المعاناة من خلال الإيحاءات التي يمارسها الممثلون، فكل حركة ملحمة بمعانيها، حيث يأخذ الرجل الميت شكل الحضارة، والدين من خلال حضور القساوسة في أزمته ويحاول إنقاذها، والتراكم الذي يمارسه الممثلون يشبه تركيب المعاناة داخل الإنسان، هذا الشكل الذي يتأسس واضحًا ثم تضيع ملامحه تمامًا، هو شكل التعب الإنساني في هذا العالم، وحتى يشرح ملامح هذا التراكم فإن الممثلين يبدأون بالحديث، وكل واحدٍ منهم يختصر حلمه وطموحه وسبب معاناته، فالحرب والسلام والموت والحب والخيانة والصداقة والاستغلال والصراع الطبقي، وإمكانية فناء الجنس البشري نتيجة السياسة كلها أجزاء تركّب خريطة المعاناة البشرية، وفي ذات الوقت تشكل الطموحات اليومية للبشر، تأخذ المعاناة الإنسانية صورتها في الرجل الذي لا يستطيع الحركة ولا الكلام لكنه التعبير الدقيق لهذه الصورة.
محاولة الانتحار في مبولة عامة: Partner 1969
حسنًا، جياكوبي ليس جياكوبي وحده، هو أكثر من ذلك في هذا الفيلم، هو حمولة النقد والسخرية، هو الحالة غير الواقعية وأحيانًا السادية للإنسان، فلا يوجد قصة متماسكة في هذا الفيلم باستثناء جياكوبي الشخصية التي اقتنصها بيرتو من عالم دوستويفسكي، والتي بإمكانها تقديم هذه التعددية من الشخصيات والتناقضات والأفكار داخل إنسانٍ واحد، يبدأ الفيلم باستعارة شخصية نوسفراتو 1922 لمورنو، على أن هذه الاستعارة ليست شكلًا فنيًا قدر ما هي مدخلٌ لشخصية البطل جياكوبي، إذ يخلق بيرتو شخصيةً نوسفراتية تتغذى على الآخرين، هذه التغذية هي ما تسهم في خلق شخصية "المزدوج" الذي يتغذى عليه البطل، كما هو حال علاقته بصاحب النزل بيتروشكا، لا يمكن لجياكوبي الحركة داخل الفيلم دون وجود هاتين الشخصيتين، فهما من يعطيانه معنىً للحياة والوجود، وهما من يسهم منذ البداية في إمكانيات تقديم نقدٍ حاد للمجتمع والسلطة والفن في هذا العمل.
يتحدث بيرتو عن عمله هذا بأنه العمل السريالي الوحيد الذي قدّمه كمخرج، ويجب محاكمة هذا العمل ونقده على هذا الأساس، وذلك إزاء النقد الذي تعرض له العمل كونه تقليدًا ركيكًا لأفلام غودار فترة الستينات، لتشابه الجو العام وطبيعة الأفكار في الفيلم، لكن هذه سمةٌ بارزةٌ لكل من ساروا على نهج غودار خاصةً في محاولةٍ لتحويل الفيلم إلى واقع يومي معاش، مع وجود إطار نقدي وفلسفي يناقش القضايا الساخنة في العالم، يستفيد بيرتو من غودار ويتجاوزه في تقديم جمالياتٍ لا تنقطع في هذا الفيلم، وكذلك من أكثر شخصيات دوستويفسكي تعقيدًا في سبيل نقد الوضع العام، فشخصية جياكوبي رغم كونها تتغذى على الآخرين طوال الفيلم، إلا أن المشاهد تحمل نقدًا صارخًا للطبقية والحرب والفن، مستفيدًا من كل الشخصيات في تقديم نقده هذا، فمفهوم المسرح هو أكثر المفاهيم نقاشًا في الفيلم كون جياكوبي أكاديميًا وهذا اختصاصه، وعليه فإن سلوك طلابه المسرحي والإيحائي يحمل مضامين السخرية من كل ما هو سائد، حيث يتمثل بيرتو في هذا العمل بعض ما يقوله التشيكي يان شفانكماير من أن السريالية ليس صفةً تُطلق على عمل معين، إنما هي فلسفة وعلم نفس ورؤية للعالم، فهي لا تسعى لتقديم مفهوم جمالي بالدرجة الأولى، إنما تسعى لنقد ما هو قائم.
برع بيرتو في تصوير شخصية جياكوبي ووصف حالة الانفصام التي يعاني منها، ولعل أحد أجمل المشاهد التي تعطي هذا الانطباع هو مشهد مطاردة الظل، هذا بالإضافة إلى الحوارات التي تدور بين جياكوبي والمزدوج، والتي تغطي المسرح والفن والعلاقات الإنسانية بشكلٍ عام، فهي الأساس الذي يبني عليه بيرتو نقده للحرب في فيتنام، ومفهوم الفن، والعلاقات الإنسانية، كما أن بيرتو يصل في نقده إلى مجتمع الاستهلاك وذلك في مشهد الاستحمام بصابون غسيل الملابس، غير أن شخصية جياكوبي المضطربة هذه لا تحيى دون الآخرين، وذلك من خلال التعاطي معهم على أساس استعمالهم حتى مع وجود دافعٍ إنساني سرعان ما يختفي، هذا الأمر يتضح من خلال علاقته بكلارا وبيتروشكا، كان جياكوبي يعتمد على لحظات الضعف عندهما، ففي مشهد السيارة يتغذى جياكوبي على الضعف الذي تبديه كلارا، هذا الضعف الذي كان في الأصل قوة للخروج على والدها المحافظ، وعلى سلطة اجتماعية والانتصار عليها، لكن لحظة الضعف الذي تبدو عليه عند الرغبة الجنسية هي ما يغذي جياكوبي وينقله من حالة الخوف إلى حالة القهر، ثم إلى الإشباع الذي لا يأتي إلا مع الإذلال الكامل، غير أن هذا الإشباع لا يدوم طويلًا فهو يبحث عن ضحايا آخرين وهذه المرة أيضًا هناك بيتروشكا، لهذه التغذية السادية حضورها عند شخصيات أخرى مثل بيتروشكا، غير أن هذا الحضور لا يتم اكتشافه إلى من خلال حديث جياكوبي مع المزدوج.
تقدم شخصية جياكوبي في هذا العمل نقدًا سياسيًا لحرب فيتنام، من خلال حضور العلم الفيتنامي في كثيرٍ من مشاهد الفيلم، لكن هذا النقد يكتمل من خلال سلوك الشخصية أو حواراتها، فلا يمكن لنقدٍ أن يكتمل دون التصريح به، هذا الأمر هو الذي يغذي النقد السياسي والاجتماعي والفني، لا يكتفي بيرتو بهذا الأمر فقط، فهو يناقش السياسة من خلال تعريتها ففي مشهد الصابون يتم تعرية البائعة واللعب معها حيث لا ينتصر المنتج قدر ما تنتصر المتعة البشرية، فمن الممكن تتبع هذه الرمزيات من خلال الحوارات التي دارت بين جياكوبي والمزدوج، فالحديث عن المسرح يشير إلى كل المشاهد التمثيلية التي قام بها طلاب جياكوبي، والحديث عن العلاقات الإنسانية يساهم في فهمها بكل أشكالها في العمل بدءًا من علاقة جياكوبي بكلارا ثم بيتروشكا ثم بالمزدوج وكذلك طلابه، رغم حديث بيير كليمنتي والذي أدّى دور جياكوبي ببراعةٍ فائقةٍ في نهاية الفيلم عن وضوح كل شيء، إلا أن احتمالية تعدد التفسيرات لما فعله بيرتو تظل حاضرة، مثل استخدام جياكوبي لسدادات الأذن أثناء جلوسه بالمقهى، أو مشهد القتل في البداية، أو مشهد ورشة النجارة لصنع مقصلة.
ليس بعيدًا عن هذا العمل عمله الصادم الآخر (The Dreamers 2003) والذي يصوّر ذات الحقبة التي أخرج فيها فيلم "المزدوج"، فهو يعود من خلال فيلم الحالمين إلى هذا الفيلم بعدة مشاهد وهي ما يتعلق بالسينما ومفهوم السينما من خلال تقليد بعض مشاهد غودار، كذلك موضوع الالتزام السياسي بالحديث عن مايو 68، كما يصوّر وبشكلٍ فاضحٍ شكلاً جنسانيًا متطرفًا من العلاقات، كما هو حال جياكوبي في علاقته بكلارا، هذه العودة هي أشبه ما تكون بالعودة إلى سينماه الأوروبية التي أنتجت روائع مثل "التانغو الأخير في باريس" و"الملتزم" وملحمَته الخالدة "1900"، وهي من أبدع ما فعله بيرتو، والتي تؤكد على ثيماته الرئيسة التي بدأ فيها مشواره السينمائي.
هامش أول: العنف
يبلغ العنف ذروته في أعمال بيرتو في عملين رئيسيين من أعماله هما "التانغو الأخير بباريس" و"القرن العشرين" أو"1900":
ففي الأول يكون الاغتصاب ذروة العنف الجنسي وبشكلٍ أخص في الحالة الهذيانية التي يدخلها باول قبل وصوله الذروة الجنسية، فالاغتصاب ينتقل من كونه مجرد انتهاك حسي للآخر في بدايته إلى انتهاك لتاريخ باول، وما الحالة الجنسية إلا الوسيلة الوحيدة لتدمير ماضيه؛ يتضح هذا الأمر من خلال الكلمات التي كان يرددها قبل وصوله الذروة، وبالعودة إلى قصته الشخصية من طفولةٍ مدمرةٍ وترحالٍ طويل، ثم زواجه من روزا وانتحارها ومشهد الاعتراف الأخير أمام نعشها فإن هذا الهذيان كان محاولته لتفتيت هذا الحطام، يشكل هذا الاغتصاب محاولة خلق قصة جديدة تكون فيها جين هي الخلاص، فانتقال العلاقة الجنسية من شكلها المازوخي والذي هو ارتدادٌ للسادية حسب ناخت، ثم الاغتصاب هو ما حرر باول وحوّل علاقته بجين من جانب المتعة إلى جانب الحب، وهذا ما يبدو واضحًا في مشهد اعترافه بالحب لجين، يكمل باول انتهاك حرمة الجميع في مشهد التعري بصالة الرقص، غير أن الأمر بالنسبة لجين يقع في خانة التردد ما بين القبول والرفض، والوصول إلى الرفض مرده الاختفاء المفاجئ لباول في اليوم التالي لاغتصابها، وفي ظني أن هذا الاختفاء هو ما يعطي للاغتصاب معناه، فبدون هذا الاختفاء تبقى العلاقة في خانة ممارسة متطرفة لكنها اعتيادية، وبينما كانت جين تحاول ترميم حياتها من جديد -كما هو حال باول-، يتضخم أثر الحدث في ذات جين، لم يعد حدثًا عاديًا فقط، بل تسبب في دمارها هي ودمار علاقتها بتوم، وعدم القدرة على تقبل وجود باول، وهو ما يقودها في النهاية إلى قتله، أظن أن مشهد قتل باول في نهاية الفيلم كان أحد أبرع المشاهد السينمائية، فتلك الحركة الأخيرة للميت والهذيان بحياةٍ مشتهاة (أولادنا أولادنا أولادنا) ذلك الاستسلام التام للموت، النفس الأخير قبل السقوط في الظلمة الطويلة والأبدية، كان أشبه بمشاهدة صورٍ من رؤيا مشتهاة، المشهد المطل على مدينة باريس التي لم تكن تعني المشاهد في شيء، كل ما بقي هو الرعب الذي يملؤ وجه جين وروحها، والظلام المقبل الطويل الذي يذوب فيه باول. لم يكن القتل هنا قتلٌ فقط، بل هو تدميرٌ عكسي، فعلٌ يقابل الاغتصاب والاختفاء، فجين هنا كانت تريد الخلاص، لذا لا بد من عنفٍ يعاكس الانتهاك الجنسي حيث تعيد كتابة مشهد القتل في هذيانها الأخير بحثًا عن تبريرٍ للقتل.
في مقابل هذا الشكل من العنف هناك عنفٌ مشابه، غير أنه يأخذ طابع الاحتفال بالعنف، شكلًا عدميًا من اللذة، وهو مشهد اغتصاب وقتل الطفل باتريزيو في فيلم"1900" أو"Novecento"، وفيه تتضح البراعة التي ابتكر بها بيرتو تفاصيل الانهيار الأخلاقي عند الطبقة السياسية، والتي تتجلى في فعل الاغتصاب ثم القتل، وكأن الذروة الجنسية التي لم تتحقق بين أتيلا وريجينا تحتاج هذا الفعل القائم على تدمير كل بعدٍ إنساني عند هذه الطبقة، يمثّل قتل باتريزيو ذروة النشوة والانتصار الذاتي عند الاثنين، هذه اللذة لا تكتفي بما وصلت إليه فهناك حالة جوع مستمر ترغب بالتغذية على هذا الشكل من العنف، وهو ما يتضح بمشهد قتل السيدة بيوبي، حيث لا تشير أحداث الفيلم إلى ما تبع القتل من أحداث، غير أن حديث أتيلا الذي أراد إهانة ذكراها يورد تفاصيل اغتصابها ثم قتلها على سياج منزلها، فيمثل القتل هنا انتهاكًا لكل ما يمكن أن تمثله السيدة بيوبي من قيم اجتماعية، فقصة الراوي –أتيلا- لا يمكن لأحدٍ مناقشتها، كما هو حال روايته عن باتريزيو الذي اتهم أولمو باغتصابه وقتله.
وبالعودة إلى الاستعارات التي استخدمها بيرتو في هذا الفيلم يستدعي بيرتو من خلال اسم أتيلا كامل الحمولة التاريخية للدمار الذي تسبب به أتيلا الهوني لأوروبا، هذه الاستعارة تأكيدٌ على التدمير الذي مثّلته الفاشية في إيطاليا، كما هو الحال في مشهد قتل أتيلا للقطة محطمًا إياها برأسه، لذا فإن الطريقة التي قتل بها أتيلا القطة –والتي رأى فيها تجسيدًا للشيوعيين- بعد شنقها تحمل طابع المواجهة العنيفة، وهو ما تؤكده أحداث الفيلم اللاحقة بدءًا بحرق العمال الأربعة أحياءً في مقرٍ للحزب الشيوعي ثم مطاردة الآخرين وقتلهم.
غير أن هذا العنف لا يقف عند الجانب الذي يقف فيه أتيلا ويمثّله، فهناك جانبٌ أكثر إشراقًا للعنف، ألا وهو عنف الفلاحين تجاه أتيلا، والذي يأخذ شكل الاحتفال العام، شكل السخرية من أي سلطةٍ يمثلها أتيلا، والتي يرزح الفلاحون تحتها بأقسى أنواع الإهانة، يتضح هذا الشكل الاحتفالي بمشهد (مطر روث الخيل) حيث يُرشق أتيلا من قبل الفلاحين بروث الخيل، بشكلٍ احتفالي يقوم به الجميع بمن فيهم أولمو الذي صار سائس خيل، في هذا الاحتفال تتم إسقاط قيمة أتيلا وسلطته، وتحويله إلى فردٍ منهم، فلا شعور للكراهية في هذا المشهد، إنما الاحتفال، ونقل أتيلا من مركز سلطة إلى محل السخرية، غير أن فعل الانتقام الذي يقوم به أتيلا من حبسٍ للفلاحين وقتلهم بشكلٍ عشوائي كالخراف، هو ما يقود في النهاية إلى عنفٍ احتفاليٍ آخر يأخذ طابع الانتقام، متمثلًا باللذة التي تأخذ الفلاح إلى الثأر ليس من أتيلا وحده فقط بل من كل ما يمثله من سلطة، وذلك في مطاردته وغرس المحاريث في جسده يوم التحرير، ثم محاكمته أمام قبري باتريزيو والسيدة بيوبي، هذه المحاكمة التي تبدأ باعترافه دون توجيه أي تهمةٍ له، الاعتراف الذي يظهر بجلاءٍ حقيقة التوحش الذي آل إليه، فالمتعة التي تأخذه في سرد فعل الاغتصاب ثم القتل، اللذة في تذكّر الأحداث والشعور بالنشوة وكأن الحدث ما زال حارًا ولتوه وصل الذروة لكن دون إمكانية الندم الذي لن يجيء لأن رصاصةً كانت كفيلةً بإخراسه وإلى الأبد.
يشكل العنف واحدًا من أسس العلاقات بين أبطال بيرتو، ومكانة هذه الشخصيات، وكأن كل شخصية تحدد قيمتها الاجتماعية من خلال ممارسة هذا العنف، حيث يغدو الأمر دورانًا حول العنف باختلاف الضحية، كما ويقدم بيرتو مبررًا للتعاطف مع هؤلاء الضحايا، حيث يُدخل المشاهد في دائرة الاستمتاع بوقوع العنف ضد هذه الشخصية أو تلك، بالإضافة إلى أن هذا الشعور يختلف باختلاف مواقع الشخصيات داخل القصة، كما أنه يقدم مبرراته لكل حادث عنفٍ حسب التاريخ المعطى لهذه الشخصية، ويحرمك في ذات الوقت من مساءلته، وكأنه يقول: "هذه هي مراجعي وهذه هي أدلتي".
في البدء كان الصراع.
"رجلٌ مريضٌ لا يريد أن يرى أحدًا، فيظهر القس. جئت إلى هذا الفندق لقضاء ليلةٍ واحدةٍ فبقيت خمس سنوات. ربما لم تعودا صديقين! ربما أنتم الآن أعداء."
حسنًا، السطر السابق من عدة أعمالٍ لبيرتو، أستطيع القول أنه تلخيصٌ لثيمة رئيسة لا تني تتكرر عنده، وهي التعبير الأكمل لشكل الحياة عنده باعتبارها صراعًا مستمرًا لا ينقضي مطلقًا، ومتنوعًا أيضًا، فالفرد في صراعٍ مع ذاته ومع المجتمع ومع الحياة ذاتها، لا مجال لتجاوز هذه الحالة التي يُبنى عليها العمل السينمائي عنده، فبدونها تفقد شخصيات بيرتو القدرة على الحركة، والاتصال بالواقع من حولها، إذ تبدو الشخصية بدونه غير قادرة على التعبير، لعلّ هذا أحد بدهيات الأعمال في كل مجالات الفن، لكنها عند بيرتو تغدو محركًا رئيسًا لأعماله، فالصراع هو النقطة الأولية التي تؤسس للعمل الفني عنده، وهذا ما يتضح بشكلٍ جليٍ في أعماله الأولى بدءًا من (The Grim Reaper 1962) -وهو أول فيلم طويل له كمخرج- ومرورًا بملحمته الكبرى (Novecento 1976) نهايةً بعمله (La Luna 1979)، فالكل ضد الكل: العاهرة ضد المجتمع، الفقر ضد الغنى، الفتية ضد الكبار في (The Grim Reaper 1962)، جياكوبي ضد جياكوبي، جياكوبي ضد البرجوزاية الرومانية، جياكوبي ضد الأكاديمية، جياكوبي ضد العالم كله، جياكوبي ضد الفن، جياكوبي ضد كل ما هو مضاد للفن (Partner 1968)، مارسيلو ضد سيرة حياته، وطفولته، مارسيلو ضد والديه، مارسيلو والمؤسسة، ومارسيلو ضد الفاشية كتاريخ شخصي في النهاية (The Conformist 1970)، والأمر ينعكس على آثوس ماغنيني في "استراتيجية العنكبوت" 1970، وأولمو وألفريدو وكاترينا، وبول وجين في "التانغو الأخير بباريس"، لا يعيش أبطال بيرتو دون هذا الصراع، فهو العنصر المغذي الوحيد في كافة أعماله الأولى، فالعمل عنده يُبنى على وجود هذه الحالة، والتي تسهم في شرح طبيعة شخصياته.
الهوامش:
1. Pauline Kael: last Tango in Paris. The new Yorker magazine October 28 1972
2. Pauline Kael: last Tango in Paris. The new Yorker magazine October 28 1972
3. Pauline Kael: last Tango in Paris. The new Yorker magazine October 28 1972