بو خائف: مضطرب يغرق في أحلامه

يعود خواكين إلينا بأداء فني بديع بعد أن قدم إلينا وأبدع في فيلم «هي» (2013 - Her)، الذي لا يزال عالقاً في أذهان الكثير من المشاهدين. عبر من خلاله عن الوحدة والشخصيات المنعزلة في سُبات كالدّب القطبي، وعن التقنية وتطوراتها التي نراها الآن في عصرنا. والآن يبرز خواكين في فيلم «بو خائفًا»
(2023 - Beau Is Afraid) الذي يزخر بالعديد من الفنون المسرحية، الرسومات السريالية، علم النفس، والقضايا المجتمعية والتكوين البشري في شخصياته الأربعة ما بين الطفولة والمراهقة والشباب والشيخوخة.

«بو خائفًا» فيلم كوميدي، رعب أمريكي من تأليف وإخراج آري أستر، وبطولة خواكين فينيكس، ناثان لين، باتي لوبون، أيمي رايان، كايلي روجرز، باركر بوزي، هايلي سكوايرز، زوي ليستر، جونز وريتشارد كيند. ستمر عبر الفيلم بالعديد من الرمزيات والتفسيرات التي سيتخيلها عقلك، أو قد لا يتخيلها على الإطلاق. جميعها بحوزة العبقري والغريب آري أستر.

قصة بو، إذا ما كانت هناك قصة، ستصادف فيها على الأرجح جزء من نفسك يشاركه القصة. سوف تتعرف على بو، على الرغم من تغير ونمو وتعدد شخصياته، إلا أنه يملكها جميعًا. لم يخرج بو من مرحلة الطفولة، وهي ليست مثل أي طفولة… إنها الطفولة المُقيدة والمُعقدة بسبب العائلة. 

مُضطرب يغرق في أحلامه

في البداية، يبدأ بو في كتابة رسالة إلى والدته في مقدمة الفيلم. يجف القلم حينما أراد التعبير عن حبه لها، ما يعني بأن حبه لوالدته مشوه وغير صحي، ولكنه متعلق بها رغم كل شيء. وعلى الرغم من أننا لا نعرف ما إذا كان قد أرسل رسالته إلى والدته، إلا أننا نعلم أنه قد تلقى رسائل كثيرة من مجهول يهدده ويحذره باستمرار. 

منزل بو، والأشخاص الذين يراهم يطاردونه ليسوا سوى هلاوس ومخاوف من العالم الخارجي، وأعتقد أن تربية الأطفال على الخوف من الناس يؤدي إلى هذا الحالة. فهنالك عائلات تخشى الناس في كل تفاصيل حياتهم، فتجد أن هذا الشيء يعود بالنهاية على أطفالهم. ففي الكبر، ستجد بعضهم يبالغ في الأشياء من حوله، ويشعر أنه مُراقب من الجميع، وأنه مُطارد من قبل أعداء ليس لهم وجود، بل هم من اختراعه.

حتى في أبسط الأمور، عندما يذهب بو إلى متجر البقالة لشراء زجاجة ماء، تجد أن هناك حشدًا في انتظاره للقتال معه. إنها بداية عُقد مجتمعية لا وجود لها إلا في رأسه المضطرب. تمتد خيوط هذه الاضطرابات والعُقد النفسية من والدته التي قيدته بعقدها التي توارثتها عن والدتها، وهي جدة بو، التي لم تحصل والدته على رضاها. أصبح بو تابعًا لسيرة والدته الذاتية، فتجده يسعى لإرضائها، لكنه لا ينل ذلك. وستلاحظ ذلك من تمثال الأم والطفل الذي تحمله. 

لقطات من الذاكرة 

عندما كان يتداوى للعلاج كان للماء ضرورة في ذلك المشهد، لصلته الوثيقة بالإنسان، وبأنه يعيش فقط به، والماء هو رمز لاستمرارية الحياة. لذلك، لا يمكنه الحصول على هذه الحياة إلا بصعوبة، كما حدث عندما خرج لشراء زجاجة الماء. 

بعدما أن اقتحم الغوغاء منزله وحطموه، يتجه إلى شاشة الكمبيوتر التي يعلق فيها حذاء، يجدها لا تزال تعمل وإن بشكل مشوش. وفي تلك اللحظة يتلقى ركلة بالقدم، مما يعني أنه تلقى صدمة في حياته، مما جعله يعاني من اضطراب نفسي. ومع ذلك، لا يزال يعمل. هذه رمزية إلى دماغه التالف.

تختفي الشخصيات التي تطارده، ويتجه إلى شقته المنعزلة في حي فوضوي مليء بالمجانين و المرضى عقليًا. وهذا يشير إلى الفوضى الداخلية التي تسكن عقله. فشقته بمثابة عقله ومأواه. لذا يعود الإنسان إلى ذاته، حتى ولو هلك. 

عندما تلقى بو صدمة خبر وفاة والدته، فاض حمام السباحة بالمياه، وهذا تعبير عن دموعه ومشاعره التي حوصرت، ولم تجد سبيلًا للخروج. يغرق في الحوض نفسه الذي يحمل دموعه ليطهر نفسه من آلامه، فتخرج الشخصية التي تطارده، وهي مُعلّقة في سقف الحمام، وعلى جبينها عنكبوت.
أعتقد أن هذه مخاوفنا، فهي تقابلنا عندما نكون عراة بمفردنا. والعنكبوت هو الرباط الذي نسجته هذه المخاوف. يتعرض بو لحادث جعلت جراحه تنغمر في النزيف حتى عندما يكون بين الأُسرة التي احتوته، كونهم من تسببوا في حادثته. سنجد أن بو لا يزال جرحه ينزف، أنه جرح العائلة.

يعتقد بو المسكين أنه موجود في وسط عائلة، بينما هو في مستشفى للأمراض النفسية. تشير الفتاة والشاب البدين اللذان يلاحقانه إلى أنه مع المرضى، وليس في المنزل الذي تصوره له رغباته، وأن الزوجين طبيبان يعتنيان بهم. ستجد أيضًا أنه بعد الحادث عاد الي غرفة طفل، على الرغم من أنه رجل في منتصف العمر. كل هذه الرغبات لم يحصل عليها بو مطلقًا فيه حياته، لذلك تستمر في مطاردته.

أما الغابة والمسرح في الفيلم يشيروا إلى بداية الإنسان من إنسان الغاب إلى إنسان عصرنا هذا، -أي مراحل تطور الإنسان- يشاهد العرض المسرحي الذي يظهر شخصية الرجل الذي يتزوج ولديه ثلاثة أطفال، ويعيش حياة سعيدة وسط مزرعته وأعماله الحياتية التي يحبها، رغم انعزاله عن الناس، لكنه راضٍ بين أولاده وعائلته. ولكن فجأة يداهمهم المطر، ويغرقون ويتفرقون من شدته، حيث يقضي الرجل حياته كاملة بحثًا عنهم. يتعرض للظلم والسجن والخسارة في الحياة حتى يصبح شيخًا.
يلتقي أخيرًا بأبنائه الثلاثة في مسرحية، يتعرف على الأحداث، ويتأكد من أنهم أبناؤه الذين فقدهم بعد فيضان المطر. بعد عناق طويل، تنهال عليه أسئلة عديدة من أبنائه. ومن هنا نعرف الأسباب الخفية، وأولها سبب أزمة بو، وأنه آخر نفس يخرج من والده الذي توفي أثناء إقامة علاقته الجنسية مع والدته، كما تقول. لذلك، ظل بو رهينة ما حدث ولم يمارس أي شيء في حياته كأي شخص عادي خوفًا من أن يصاب بنفس ما حدث مع والده؛ لأن هذا المرض الوراثي يطارد الأسرة، لذلك لم يلتق بأية امرأة.

لتنتهي كل هذه الأسئلة بصفعة مؤلمة من أبنائه: «إذن كيف أنجبتنا؟».

يكتشف بو حينها أنه محروم من الحب، حتى عندما التقى في صغره بالفتاة إيلين، التي لا يزال يحمل مشاعر تجاهها، ليس لأنه يحبها، ولكن لأنه لم يعش الشعور الذي يشعر به معها. الحرمان يولّد التعلق وعدم القدرة على النسيان، بينما ربما يكون الشيء إذا خضناه لا شيء. وهنا علامة على أن بو يتخيل كل هذا، وأنه لا حياة له، إلا من خلال صنع السيناريوهات ومشاهدتها في تلك الرسوم السريالية التي لاحظت فيها القليل من الكلام خلال العرض، وبروز صوت الموسيقى وأصوات البكاء والضحك والصراخ. هذه هي الأصوات التي نتشابه فيها نحن البشر بشكل عام، بغض النظر عن لغاتنا المختلفة. وهنا نعلم أنه يوجد في كل أرض من أراضينا شخص يعاني مثل بو.

بعد انتهاء مراسم عزاء والدته يلتقي بحب حياته، إيلين ويجدد سيرة والده، لكن تنعكس الأدوار، حيث تموت إيلين، التي بدت من خلال سلوكها أنها لم تتقبله، لكن لعلها كانت تشفق عليه فقط، أو تريد مصلحة من وراء تلك العلاقة الجنسية التي تقيمها به، لكن يداهمها الموت قبل تنفيذ أي من خططها.
يصرخ بو على ما حدث، لأن تمرده لم يقتله مثل أبيه، لكنه تسبب في مقتل حب حياته. 

تقتحم والدته الحدث، وينصدم بو من أنها لا تزال على قيد الحياة. تنظر إليه بازدراء، وهو يشعر بالخزي والعار مما فعله. إيلين ملقاة على الأرض، تقترب منها والدته، وتطلب من الخدم إلقاء تلك الدمية بعيدًا، والعجيب أن جثتها تتحول بالفعل إلى دمية، مما يعني أن بو يعاني من أشياء خلف الستار لا يمكن لأحد أن يشرحها ببساطة، لأنها في حوزة المؤلف العبقري آري أستر.

يظهر أمامه طبيبه النفساني، ويكتشف أن طبيبه كان يسجل الجلسات في مقاطع صوتية لوالدته، وهذا لا يعني بالضرورة أنها حقيقة مطلقة، بل عقله يجعله يعتقد أن أي سلوك يفعله ستكون والدته على علم به، وهنا يقع في خيبة أمل أخرى، ليس من شخص ما، وإنما هي خيبة أمل من الذات.

تسجنه والدته، بعد أن استدرجته كطفل، وألقته بعيدًا وسط مخاوفه. يجد والده ينتظره في السجن، وهو يشبه كثيرًا، أو ربما هو الشخص نفسه، وهناك يتصارعان مع وحش ضخم، مما يدل على أن كل معضلاته تكمن مع ذلك الوحش الخيالي الذي شكلّته والدته في مخيلته المضطربة. يحاربه بو ويهزمه، ويطعنه كمن يلومه على ولادته في هذه الصومعة. يهرب بو من محيطه. يتركهم ويبحر على قارب وحيدًا وكئيب. يتغير مساره ويعيده إلى نفس دائرة مخاوفه، ليجد أنه قد أصبح داخل مسرح متقدم، ليس كما كان في الغابة، بل واحدًا آخر، تستمر والدته في إلقاء اللوم عليه، في الوقت الذي يشاهده فيه الناس، يبدو بو كشخص مراقَب ومحاصر، لينتهي به الأمر غرقًا.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى