يَقع محقق في حُب حسناء مشتبه بها في جريمة قتل. لكن هذه مجرد البداية للتجربة الرائعة في فيلم «قرار الرحيل» (Decision to Leave 2022) للعراب الكوري "بارك تشان-ووك" مخرج أفلام «أولدبوي» (2003 Oldboy) و «الخادمة» (2016 The Handmaiden) إن هذه المقدمة المألوفة لأفلام النوار "السينما المظلمة" ما هي إلا قشرة سينمائية، وبتطويع أدوات صناعة الأفلام وببراعة جراح وموهبة نحّات، يكشف بارك تشان-ووك عن اللغز الأكثر إثارة في الفيلم الذي لا يتعلق بالقتل، بل بالحب.
في النصف الثاني من فيلمه، لم يعد التحقيق مهمًا، لأن اللغز الأكبر قد أصبح «لماذا هي هنا في مدينة لا يُرى بها شيءٌ سوى الضباب؟ لماذا جاءت إلى حيث يعيش [المحقق]؟ هكذا يتحول الفيلم إلى فيلمٍ رومنسي» كما يقول المخرج.
في الواقع، إن أهم الأسئلة -والتي لا تزال مرتبطة بالغموض حول جريمة القتل- ليست عما إذا كانت تحبه أم لا ، بل ما إذا كان لا يزال يحبها. «إن المثير للاهتمام في هذا كله، أنه هو نفسه [المحقق] لا يعرف الإجابة.» كما يقول المخرج. ويستمر ذلك حتى يكشف عن المشهد الختامي الأكثر إثارة للقلق هذا العام.
إن كنّا سنستعمل أدوات التصنيف لبرهة، لتصنيف هذا الفيلم فإنه سيبدو صادمًا حتى على مستوى مُخرج مُتفرد مثل بارك تشان-ووك. ومن زمنٍ طويل، منذ أن كان طالبًا في الثانوية أصبح معجبًا بالرواية التي تحكي قصة المحقق السويدي "مارتن بيك" التي تحولت إلى فيلمٍ سينمائي أمريكي، من بطولة "والتر ماثو" بعنوان «الشرطي الضاحك» (The Laughing Policeman 1973) لذا فقد كان بارك تشان-ووك مهتمًا و لعقود طويلة بصناعة فيلم إثارة بوليسي. وعندما تمت ترجمة سلسلة الروايات بالكامل إلى الكورية قبل بضع سنوات، أعاد بارك تشان-ووك قراءتها للتعرف على الشخصية الرئيسية «منذ بدايتها» و كما يقول: «لقد نشأ اهتمامي بشخصية بوليسية لا تعتمد على العنف، بل أنصب تركيزي على السلوك، إنه مهذب ولطيف؛ إنه ليس إلا موظفٌ حكومي.»
في تلك الفترة، ألهمته أغنية كورية كلاسيكية من عام 1967 بعنوان "الضباب" لصناعة "فيلم رومنسي يتسم بالنضج. «وفي مرحلة مُعينة قلت لنفسي، لمَ لا أجمع تلك الفكرتين؟ ماذا لو وَقَعَ مارتن بيك في حُب مشتبه بها؟»
قرر بارك تشان-ووك أن يصنع فيلمًا يتضمن جماليات "أفلام- النوار"، بقصة كاملة في النصف الأول ثم يأخذ المشاهدين إلى ما بعد النصف الأول بشكلٍ غير مترابط، إلى النصف الثاني حيث يتجه الغموض من بعد ما يتم إغلاق قضيةٍ ما إلى هوس متجاذب لا يقاوم.
«إذا أنتهت القصة في الجزء الأول، يمكنك أن تسمي الفيلم أنه ليس إلا " فيلم- نوار"، ولن أقول بأنه كان سيصبح أسوأ بهذه النهاية، لكن مع ذلك فإن إنتهت القصة في الجزء الأول فلن أقوم بإخراج هذا الفيلم أساسًا.»
لن ينجح مزج التصنيفات الفيلمية هذا من دون أن تكون الأداءات في الفيلم مُقنعة، حيث أخرج بارك تشان-ووك أفضل ما في "بارك هاي إيل" بدور محقق ذائع الصيت في بلدته و "تانغ وي" في دور "سو راي" المشتبه بها في جريمة القتل وذات الأصول الصينية.
تظل العلاقة كامنة في مخيّال البطليْن لا تتجاوز ذلك، فليس في الفيلم أي مشاهد تلامس، أو مشاهد عاطفية طاغية، كالتي ميْزت أبرز أعمال المخرج بارك تشان-ووك؛ فبالمقارنة مع أفلامه السابقة يبدو "قرار الرحيل" فيلمًا عفيفًا إلى حد بعيد. ويضيف المخرج: «كان هدفي أن أصنع حكاية حب لا تُقال فيها عبارة: «أنا أحبك». أردت أن أترك الجمهور أسير الفضول والانتظار القلِق حيال العلاقة بينهما.»
إن بارك تشان-ووك وشريكته في الكتابة "جونغ سيو كيونغ" بَنوا في عدة مواضع تفسيرات للحقيقة، بينما تبدو الحقيقة متغيرة ومبهمة، حيث تشتهر المدينة التي يرجع إليها المحقق في النصف الثاني من الفيلم بالضباب المستمر، وهناك فكرة متكررة بالخلط بين اللونين الأزرق والأخضر، بل حتى التبديل بينهم، ففي المشاهد الزاخرة باللون الأزرق يُفسح المجال لوجود اللون الأخضر، والعكس. حتى أن هنالك فستانًا كان يقول عنه المحقق في الفيلم، بأنه تارةً يكون أخضر وتارةً أخرى يكون أزرق.
حيث يعلق المخرج ويقول:
«بدأنا بوضع هذان العالمان في الاعتبار: الجبل والبحر. هنالك خطٌ رفيع بين الأناس الذين يعشقون الجبال والذين يعشقون البحار. ويقول أيضًا: تَمتْ كتابة الحبكة بحيث تبدأ في الجبل وتنتهي في البحر.
وفي شقة[سو راي]، ورق الحائط الذي إذا كنت تعتقد بأنه جبل فسيبدو وكأنه سلسلةُ جبالٍ واسعة، أما إن ظننته محيطًا فسيبدو وكأنه أمواج صغيرة. إن مسألة الطبيعة مهمة جدًا فهي تتصل بين اللونين الأخضر والأزرق.» — يعكس تقارب اللونين الأزرق والأخضر في عجلة الألوان، أسئلة الفيلم عن الحقيقة والأكاذيب والحب و المنفعة. «إن كل هذا يرتبط بشخصية [سو راي] ومدى صدق عواطفها. إن الأمر يعتمد تمامًا على كيف تنظر إلى الأمر. أيضًا الضباب في تلك المدينة يجعل كل شيء غير واضح ويصعب رؤيته، لذا فإن كل شيء متصلٌ ببعضه.»
«والفستان أيضًا -لقد صنعنا منه ثلاثة نسخ، لدينا نسخة أكثر زُرقة ونُسخة أخرى أكثر خُضرة، واستخدامها يعود حسب الموقف، لذا قد يُفكر المشاهدين في أنفسهم "أوه، أتذكر أنه كان أزرق، لكنه الآن أخضر.»
ووسط هذا الارتباك المحبوك، يوظف بارك تشان-ووك قدراته لإيصال الشعور بالدفء، والفتور وحتى البذخ في الطعام من أجل أن يصل المشاهد إلى تجربة غنية حسيًا. وأصدق لحظات الشخصيات تكون تلك التي تُلتقط عن طريق كاميرات المراقبة أو عن طريق التطبيقات الذكية؛ حيث تَستخدم الشخصيات برامج ترجمة أو الملاحظات الصوتية للكشف عن مشاعر لا يريدون الاعتراف بها مباشرةً، يعلق بارك قائلاً: «يرفض بَطلانا بشدة البوح بمشاعرهم بوضوح." فأجهزة التسجيل مثل المذكرات، "يمكن القول بأنها آذانٌ تسمع لمشاعرهم الصادقة، وبالنسبة إلى تطبيق الترجمة [إنها مخصصة] عندما يرغبون بشدة في التعبير عن شيءٍ ما بسرعة للشخص الآخر.» ويكمل: «إنها ليست تطبيقات تِقنية تستخدم ببلادة، بل إنها امتداد لأجسادهم، إنها الصندوق الذي يخفي حقيقتهم. إنني أستمتع بموضوع تصادم التقنية الحديثة بالرومنسية الكلاسيكية التي أسعى لها في هذا الفيلم.»
لقد صُنعت أفلام بارك تشان-ووك بدقة فائقة، واللوحات مؤلفة بروعة وحركات الكاميرا دقيقة للغاية، أيضًا هنالك شيءٌ من الروعة حينما تكون القصص التي يصورها مجنونة كما في «أولدبوي»، لكنه لا ينسى الجانب الإنساني في مواضيعه أبدًا، حتى في "فيلم- النوار" الذي يجبر المشاهدين على المُراقبة عن كثب بحثًا عن أدلة، يجد اللحظات المناسبة لإدخال الرعاية.
«أنا لست مَرحًا في حياتي العادية [يضحك هو والمترجم] ولهذا السبب بالتحديد أبحث دائمًا عن فرصة لإضحاك الجمهور، أعتقد أنه إذا كان العمل جادًا طوال الوقت سيجعلني أظهر بشكل أروع مما أريد، وأكثر إثارة للاهتمام وجادًا أكثر مما أريد، أريد أن فقط أظهر للناس كفنان [يضحكان مجددا] أعتقد أن هذه الطريقة أكثر شمولًا لإظهار حياة الإنسان.»