في الريفِ الفرنسيّ تُحاك صورتان لروحٍ وحيدة ملائكية مُعذبة، ماري الطفلة، و(بالتازار) الحِمار الهامشي للقرية، جمعهما طقسُ التعميد وطوقُ الورد والشوك. تبدأ حِكاية الفيلم بطلبٍ طفوليّ لِشراء حِمار صغير؛ ومن ثُم تُدار عجلة الزمن للتقدم وتشيخ الأجساد لِجر القصص خلفها. (Au Hasard Balthazar) أو «بالتازار» هو فيلم درامي فرنسي، أُنتجَ بالأبيض والأسود عام 1966، من تأليف وإخراج روبير برِيسون؛ وهو استلهامٌ لبعض الشخوصِ الهامشية في رواية (الأبله) لدوستويڤيسكي. أنْزلَ الفيلم أدب الحيوان عامة محورًا رئيسًا، والحِمار (بالتازار) خاصة محورًا أخلاقيًا.
- إسقاط ذاتي:
بعمر التاسعة لم أحمل معي سِوى بلورَتين ورثتهُما من والدي، كنتُ مراقِبة صامتة، مُتجلدة في قاع دُمية بلحم آدمي، كمُتلقٍ لن تلتقط مني سِوى تألُقِ بلورٍ بريء أسفل الجَبين، بلورٍ يعرف شاشة الجِدار المضيئة ويجهل بريسون والمُعاناة والسينما.
- التحليل النفسي للعلاقة الأبوية:
بالتازار، من بطولة الممثلة والروائية الفَرنسية (آن ويزيمسكي)، التي شكّلت لاحقًا فارقًًا في حياة أحد أهم صُناع السينما المُخرج الفرنسي (جان لوك جودار). استهلت ويزيمسكي مسيرتها السينمائية بهذا الدور، وما جعله أكثر ملاءمة لها هو عمرها الصغير آنذاك، ومحدودية الأداء التمثيلي؛ فهيَ تعكس بلا قصدٍ منها «الأنوثة البلهاء» المُناسبة للدور المطلوب بالفيلم، تلك الأنوثة المحبوسة في الكبرياء الأبوي.
إن ما جعل الفتاةَ (ماري) تفاعلا انعكاسيا للصورة الأبوية العنيدة التي كانت تتلقاها من والدها، هو رَفضُه الدفاع عن نفسه عند اتهامه بالاختلاس والسرقة، رَغم امتلاكه لكافة الأدلة التي تُبثت براءته، ومع هذا استقرّ على عُلوّ الرَفض متغاضيًا عن الثمن الوجداني والتربوي تجاه ابنته.
تغدو السِمة القوية نقمةً حين تُدَبس كقانون في شخصيةِ المرء، وهذا ما حدثَ لماري في الفيلم حين تورطت عاطفيًا مع (چيرارد)، الشاب العنيف رئيس عصابة من الجنوح السلوكي، وكردة فعل متوقعة تِجاه جسدٍ أنثوي حالم، فهيَ لن تتلقى سِوى العدوان والاعتداء الناقم على هذه البراءة البلهاء.
- كل ألم عميق تُعاد صياغته كذِكرى:
هذا أول عمل وباب دللتهُ لروبير بريسون، بالتازار تشذيبٌ للصور، تِكرارُ السكون الرَتيب، بثُّ المُعاناة بلا تأويل ودرامية مركبة؛ توجعت، وبكيت، بلا جُهدٍ واصطناع. يصبح المتفرج على الفيلم ممثلا، يُستَخدم للواقع ولا يَستخدم الواقع. أنت انعكاس الوجود، جُزء مُتجزئ من الموجود، قِف وراقِب العدسة.
ركّزَ بريسون هُنا على رؤية الحِمار، فتقف أنت -المتفرج- برأس بالتازار، تُشاهد ما يُشاهده لتلتمس شعوره. وتصويبًا للعدسة فقد أحسن بريسون التصويب، بالبطءِ ومعاودة اللقطة؛ تتفرج كبهيمة تعجز عن الكلام والاعتراض والشكوى، كما يتناول الفيلم «الإزاحة النفسية» على المخلوقات المقهورة، نُشاهد الحمار يُضرب، ويُحرق ذيله، يُخطف ويُجرّ بأبشع الطُرق، لا لِجُرْم اقترفه بل مجرد تفريغ انفعاليّ من كائنٍ عاقل تجاه كائن عاجِز.
« أتمنى أن يشعروا بالفِيلم قبل أن يفهموه، فالمشاعر تتشكل قبل الفِكر ».
- رُوبير برِيسون
- بالتازار مرآة ماري:
بين عذابات القصتين، تتولد إسقاطات الحياة، لا ماري نالت ثواب البراءة، ولا بالتازار دلَّ الخلاص، كُل المخلوقاتِ البائسة تحلم داخل البطون السِرية لكينونتها بفجر انتصار خاص، بخضوع الطاغية، واكتساب الحُرية، وقد يتجسد الخلاص النبيل -كما أُسميه- بالفناء شهيدًا وشاهدًا على عذاباتك الخاصة، كما حدث مع حِمار القرية بالتازار، ومثل مَسيح صُلِب بلا عامود على مرجٍ أخضر، تُحاط بِه الخراف، عاجزاً ووحيداً. نهاية مأساوية خرساء.
ذَكر (نيتشه) أن عُمق الألم ودرجته يُحدد التراتبية، وأنّ الألم العميق يُصيّر المرء نبيلًا؛ فلا بأس إن مُدتْ القُدسية والنُبل للمخلوقات المتألمة، لِبالتازار ولِحمار مزرعة جدي. في السياق البَشري وكمخلوقاتٍ أُوجدت على مركزية الأنا، لا شيء يصادم معاناتك العاقلة، المحورية بالنسبة لك، أما الذوات الباقية تطوف لخدمتك وسد الحاجة.
كثرة التَغني لا تُرادف الإكرام: ما يجمع بنجامين العجوز والبَغل والنغل رابطةٌ الاحتقار مرجعها. وهذا ما يعنيه حمار الكونتيسة دي سيجور (كدِيشون) حين أراد إعادة قولبة ذاكرة الإنسان عن أرواحِ الحيوان المعذبة. عند خط انقلاب الألم العميق؛ كانت لسينما بريسون الفضل لتكريم ذكرى حمار مزرعة جَدي العجوز، لم يحمل اسمًا ولم أتساءل قط لِمَ؟