لعل أقوى عشر دقائق سينمائية شاهدتها هذا العام هي في الفيلم الروسي «بلا حب»؛ المرشح لجائزة أوسكار كأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية للمخرج الروسي غير الاعتيادي "أندريه زفياغينتسيف". وهي كالتالي: مشهد لزوجين عازمين على الطلاق: «جينيا» ( تؤدي دورها الممثلة ماريانا سبيفاك)، و«بوريس» ( يؤديه اليكسي روزن)؛ يتجادلان بقوة في شقتهما التي يتشاركانِها مع ابنهما «اليوشا» ذي الاثني عشرعامًا ( يؤديه ماتفي نوفيكوف).
الجدال يتمحور حول حضانة الطفل، مع المفارقة ألَّا أحد من الأبوين يرغب بإبقائه معه. الزوجة «جينيا» في علاقة مع رجل ثريّ، وترغب ببيع الشقة التي تسكنها العائلة، والزوج «بوريس» منخرط في علاقة مع فتاة أصغر منه تسبَّب في حملها. وفي غمرة هذا النزاع الشرس يتناهى لنا الصوت المكتوم لنحيب الطفل «اليوشا» الذي يشهد على كل شيء من خلف الباب. بالكاد نعرف شيئًا عن «اليوشا» قبل اختفائه غير المفهوم، والذي لاحظته إدارة مدرسته أولًا قبل أمه التي كانت غائبةً عن المنزل في اليوم السابق، بسبب انشغالها مع عشيقها. تقرِّب مأساة الاختفاء الزوجين من بعضهما لكن بمزيد من الأحقاد والاتهامات، مثقلين بشعورهما باللوم والذنب الذي ربما على صعيد نفسي أعمق ينبع من إدراكهما أن اختفاء الابن يعفيهما من عبء الاهتمام به وحضانته.
هذا هو العمل الخامس لزفياغينتسيف وكما في أغلب سابقاته في أفلامه «العودة» (2003) الذي يتحدث عن أب عاد لعائلته بعد اثني عشر عامًا من الاختفاء، و«لوياثان» (2014) الذي يتحدث عن عمدة فاسد يجبر عائلة على إخلاء منزلها، فإننا نلحظ توظيفه لرمزية المنزل والأجواء العائلية بكثافة. فيلم «بلا حب» تدور أحداثه في العام (2012) في إحدى ضواحي العاصمة موسكو، سيناريو عن اختفاء طفل يقاطعه خبر تلفازي عن تدهور العلاقات السياسية مع أوكرانيا، مانحًا إياه طابعًا أبوكالبسيًا كارثيًا على الصعيد السياسي والاجتماعي.
«اليوشا» من ناحية أخرى، بوجهه المناكف والمتوسل، يرمز لفقدان شيء رُوحاني مهمّ في روسيا الحديثة؛ كما صوّره زفياغينتسيف وكاتبه المساعد أوليغ نيجن مروّعًا وصارخًا. والشرطة التي تعتقد أنه ليس سوى تغيّب طوعي (وأنه غالبًا سيعود بإرادته) تساهم في اختفاء «اليوشا» أكثر وأبعد. في النهاية يترك الأمر لمجموعة من المتطوعين المدنيين الذين يقومون بتوزيع الملصقات والتجوال في الغابات المحيطة في محاولة لإيجاده. وفي رحلة البحث تتبدَّى حقيقة أشد إحباطًا: ثمة العديد من الأطفال المختفين في المدينة، وثمة الكثير من الأماكن النائية التي يختبئون بها، بحيث أن أول مكان يبحث فيه المتطوعون هو مبنى مهجور يطرقه العديد من الهاربين بحثًا عن ملجأ.
طالما كان زفياغينتسيف طموحًا بشكل جامح، وربما بشكل غير اعتيادي أيضًا. وقد يكون فلمه «بلا حب» هو أكثر عمل يلقي فيه لائحة اتهاماته على المجتمع الروسي بشكل صارخ.
بالرغم من ذلك لا تبدو جميع الاتهامات في محلها، مثلًا ذاك المشهد التلفازي عن بداية الصراع الأوكراني يبدو مبتذلًا، لكن أعماله تتجلى أقوى حين يندمج فيها العبء السياسي والشخصي، ويتضح ذلك في رمزية المجتمع الحديث المتمثل بأنانية الزوجة «جينيا»، صاحبة صالون التجميل المشغولة بهاتفها وهوسها بالماديات الذي يؤطره عشيقها الثري بقوله (إنها أجمل وحش في العالم)، والزوج «بوريس»، المدير الثلاثيني شديد القلق حول اكتشاف رئيسه المتديّن - الذي يطالب جميع موظفيه أن يكونوا أرباب أسر - بأمر انفصاله، لكن من ناحية أخرى هو أقل اهتمامًا بأن يكتشف أحد أمر اختفاء ابنه.
هل يبدو كل هذا القلق والضيق المحيط بصورة المجتمع الروسي مبررًا؟ الكآبة المغيمة على أجواء الفيلم تبدو مفرطة، كما ألَّا مكان يبدو آمنًا. حتى أولئك المتطوعون الذين حاولوا البحث عن «اليوشا» ليسوا بعيدين تمامًا عن دائرة اللوم؛ فهُم يرفضون البحث عنه في البحيرة، إذ إن البحث عن الجثث ليس ضمن مسؤولياتهم. الماضي المتمثل بالحقبة السوفيتية المعاكسة لروسيا الحديثة الرأسمالية لا يبدو جميلًا أيضًا في نهاية المطاف.
ففي محاولة أخيرة من والديّ «اليوشا» للبحث عنه لدى جدته والدة «جينيا» ( تؤدي الدور ناتاليا باتوبوفا)، أملًا منهما أنه قد يكون اختبأ في منزلها؛ يتجلى بشكل فظيع كم أن والدة «جينيا» هي أشد منها قساوة. يطلق عليها «بوريس» لقب (ستالين بتنورة)، هذه الصورة النفسية القبيحة للجدة -على الأقل- تفسر سبب كون «جينيا» على هذه الشكل الناشز من الأنانية والحقد، فهي ذاتها كانت طفلةً غير مرغوبة.
برأيي زفياغينتسيف كاد يبلي جيدًا في إظهار هول الجمال الذي انطفأ في هذا العالم، فقط ليمعن في النحيب على خسارته.