بِمَ تدين المنصات للقرصان السينمائي؟

و
September 29, 2023

لكي نستنهض ذكرياتنا الفيلمية، أو لنقل التيبوغرافية -إن صح الوصف- ليس علينا سوى أن نسأل قبل ذلك عن رأينا بالشعار الأزرق والأحمر المنزوي بأعلى الشاشة، الشعار الذي كان يستقبل 130 مليون زيارة شهريًا،  أو حتى عن رأينا في ترجمة "الجيزاوي" المزخرفة. وكيف كانت ترجمة "الدكتور علي" للفيلم الأوسكاري؟ وما هو موقفنا من تحريف فلان لذلك المشهد؟

نتلمس من الإجابة الصامتة البهجة العجائبية المرفقة بابتسامة استحضرنا بها حنين ما قبل الأقفاص الزوجية، والتجمع اللطيف في الاستراحات، والإجازة التي كانت تصادف يوم الخميس، والبوصلة الأخلاقية التي كان يتمتع بها موفر الخدمة -المجانية- والمتلقي، كالمترجم عندما كان يحذرنا من المشاهد الجريئة، أو عندما كان يمرر راديكياليته المستطابة للجمع الشبابي، كأن يحظى بتشجيعنا الغوغائي حين يستبدل وصف صورة المشهد من «إسرائيل» إلى «فلسطين» مرفِقًا إياها بعبارة تشجيعية، متلمسًا السلوكيات المشحونة بالانتماءات السياسية والعاطفية، أو عندما كان يناهض فكرة إلحادية متحدثًا بصوتنا،  أو حتى عندما كان يشاركنا عبارة ساخرة متماهيًا مع أظرف الأوقات، متنازلًا عن الكيان التعبيري والأمانة في النقل. ولطالما شبّهتُ المترجم بالجسر، كونه الشخصية الأهم في عملية تقديم الأفلام وقتها؛ هو الممهد بين الضفتين، ولو قيس استجلاؤه بالعالم السابق لكان رحالةً ومستكشفًا يعمل بسبب الظروف وقتها لدى القراصنة! 

ولأن المِلكية الفكرية كانت ثقافة أكثر من كونها نظامًا حقوقيًا، تلمسنا الفجوة الإدراكية التي كانت تخلق صعوبة في التمييز، كإدراك الدرجة الواحدة الفاصلة بين الماء والجليد بسبب فضفاضية الأمر. ولكني على يقين تام بأن المواقع المقرصنة التي كان يعمل بها هؤلاء المترجمون كانت بمثابة التجربة المجانية المسبقة لجميع منصات اليوم، فهي التي خلقت هوسًا في البحث عن ميزات إضافية وُفّرت فيما بعد، مثل جودة الڤيديو العالية والتحميل من الهاتف والتابلت واختيار حجم الترجمة أو الدبلجة والإعلانات المنقطعة. 

كانت تلك المواقع تُمثل -ببساطة- السيرة الذاتية الممهدة لكافة الأفلام والمخرجين والممثلين والأعمال التلفزيونية ذات المواسم المتعددة التي لاقت رواجًا حتى اليوم، فبفضل هذه المواقع وُجدت البيئة الخصبة والثقافة السينمائية الجيدة القابلة لمفهوم التَرَفّه الجديد، فعملية المسح الديموغرافية التسويقية كانت سهلة جدًا، وإن كان بيدي التشبيه لقلت إن ما حصل من إحلال أشبه بجدلية سفينة ثيسيوس، وإن كانت السفينة بهذه المفارقة ملموسة -فرضًا- لأصبح ركوبها بعد عملية تحوّلها وتجديدها بالكامل بمقابل، من بعد أن كانت التجربة مجانية، فلا شيء أجمل من تجربة منع الباعة المتجولين -الإعلانات- من التجول على سطحها. 

لو كانت هناك خطة تمهيدية تعريفية للمنصات، لما وُجد أفضل من تقديم المواقع المقرصنة ومترجميها المتملقين، الموظِفين للقوميات العربية. وهذه الظاهرة كانت تسمى «التقادم المخطط له» وهي ظاهرة اقتصادية معنية بالتخطيط الإنتاجي لمسار المنتج الاستهلاكي، إذ يُطرح منتج في نقاط بيع ما، وعندما يعتاده الناس، يُستبدل بمنتج استهلاكي آخر يؤدي نفس الوظيفة ولكن بمنهجية مسيطَر عليها، وبسعر أعلى، مع توقف سير المنتج الأول، ليضطر الناس إلى شراء الثاني! 

ولا أزال أستحضر زميلي السفرجي -الأمي- الذي تحوّل لاحقًا إلى صديق مقرب رغم كبر سنّه، عندما كنت في بداية العشرينات، أعمل بوظيفة استقبال في بداية شيوع المواقع السينمائية. لم أكن وقتها مخلصًا تمامًا لمهنتي، وهذا ما قاده إلى إدمان مشاهدة الأفلام والمسلسلات -لاسيما مسلسل "الموتى السائرون"- برفقتي كلما تسنت له فرصة التملص من واجباته. كنت أترجم له ما يقولونه بلهجتي المصرية المضحكة لعدم إلمامه التام باللهجة الخليجية، ليبحر معي في عالم الأفلام السحري، ملحًا عليّ في كل مأذونية لأعيد له مشهد مفتول العضلات "أخيل" من فيلم "طروادة" الصادر عام 2004م، وهو يقاتل "هيكتور" بفروسية أسطورية، ليعبّر في كل مرة عن اندهاشه من جمال الممثل "براد بيت"، النموذج السينمائي الأكمل، حيث لم يعرف اسم الممثل إلا بسبب ذلك الفيلم، وتلك الوظيفة، وذلك البلد، وتلك المنصة المقرصنة. فما هي فرصة أن يقع رجلٌ خمسينيّ أميّ في غرام فن يعتمد على فهم اللغة الإنجليزية أو قراءة الأبجدية العربية؟ أي تأثير هذا!

كنت بالنسبة إلى صديقي النسخةَ الولاديةَ من "ماريا مارجريتا" بطلة رواية "راوية الأفلام" التي كانت تعيد سرد قصص الأفلام بطريقتها الخاصة على عائلتها الفقيرة وسكان الحي، وذلك لعدم قدرتهم على ابتياع أكثر من تذكرة للسينما. كان هو -صديقي- جميع السكان المندهشين من براعة الأحداث، ما عدا أني لم أكن ببراعتها في السرد.

وهذا الحديث ليس دفاعًا عن القرصنة وما تسببت به من ذكريات لطيفة،  ولكن لإدراك ضرورة تواجدها تلك الفترة، وأهميتها حينها في صقل الثقافة السينمائية، فالمنصات المدفوعة اليوم تعتبر رافدًا اقتصاديًا للدول المتطلعة لتنوع مصادر الدخل، عجلة جديدة للتنمية تسببت في تحقيق أحلام مهنية وليست تطوعية. وعلى ذكر ذلك أشكر كلًا من "روبن هود" و"جاك سبارو" -العوالم الافتراضية- على الوهج الذي بسببه توسعت حدقات أعيننا، وجميعَ من تطوّع أو حتى دُفع له سابقًا -بسبب الكم الهائل من الإعلانات- لإثرائنا. 

اقتربت إقامة آخر أفرادكم من النهاية، وها نحن نرى سفنكم الافتراضية تذوب في الخط الفاصل بين الأزرقين. ولربما كان الغياب خطة لعودة مستقبلية، فمَن يعلم عن حيل القراصنة؟ 

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى