«بعد الدوام»: لا مفر

أ. عيسى العبيد
و
August 19, 2024

لا يغيب عن بالك أبدًا حضور الكاميرا وأنت تشاهد فيلم مارتن سكورسيزي «بعد الدوام» (1985)، فهي تسير مائلةً في اللقطة الافتتاحية راسمةً خطًا مباشرًا لـ«بول هاكيت» (غريفين دن) معالج المعلومات في أحد مكاتب مانهاتن. إنها لقطة نذير؛ فأنت تتوقع معها سماع كراسٍ تتصافق وأناس تصرخ. وبينما كان «بول» المتدربُ حديثُ العهدِ جالسًا على مكتبه، تلفت ناظريه امرأة عابرة، فتتبعها الكاميرا في دلالة على أهميتها الكبيرة. لكن نظرة «بول» تتجاوزها، وكذلك تفعل الكاميرا، لنكتشف في نهاية المطاف أنها ليست ذات أهمية. منذ هذه اللقطة الاستهلالية يصعّب «سكورسيزي» ومصوّره السينمائي «مايكل بالهوس» (الذي سبق له التعاون مع «فاسبندر») المهمةَ على المشاهدين لفهم ما يرميان إليه.

إنّ عالما كل ما فيه مهم ولكنه غير مفهوم، عالمٌ مخبول. و«بول» تأخذه حيرتُه إلى دركات أكثر غورًا، حتى تغدو «سوهو» SoHO -منطقة متوترة في وسط المدينة، تقع مباشرة كما يوحي الاسم جنوب شارع هيوستن- مرآةَ ملهى تعكس مسالكَ الهروب المتوهَمة. الفيلمُ يراوح وهو يمزج خليطًا من الفكاهة والرهبة تؤثّران في حالة «بول» العقلية. يصوّر سكورسيزي «بعد الدوام» على أنه «محاكاة ساخرة لأفلام النوار وأفلام الإثارة»، ويلمّح لنا بأساليب مجازية تُضمر معنى ما ولكنها في حقيقتها لا تدل على أي شيء، وفي الوقت ذاته يوظّف مفهوم الفكاهة الذي يعتقده بصفتها «أداة ولعبة». إنّ ما يتوارى وراء الضحك مشاعرُ أساسية يحس بها أكثر البالغين دون التصريح بها علنًا: ما من عدالة، كل شيء يدير ظهره عني، لِمَ لا أحظى براحة؟

بعد انتهاء عمله، يجلس «بول» في أحد المطاعم وبين يديه رواية هنري ميلر «مدار السرطان»، وإذ به يتفاجأ مفاجأة سارّة حين تتحدث إليه امرأة شقراء غريبة تدعى «مارسي» (روزانا آركيت). إنها امرأة جذابة، واثقة وذات سلوك تآمري. تجذبه «مارسي» إلى عالمها، وتخبره عن زميلتها في السكن -«النحّاتة»- وتحثّه على القدوم إلى سوهو وتفقُّد أعمال صديقتها. وبالنسبة إلى «بول» العامل في مكتب بِروتين رتيب، فإن سوهو هي الجانب المظلم من القمر. ولكن ونظرًا لما أغراه من «مارسي» فإنه يستقل سيارة أجرة ذاهبًا إلى العنوان الذي أعطتْه إياه، ويا لها من جولة مرعبة تنتهي بأن يفقد كل الأموال التي كان يحملها معه. وهنا تبدأ مشكلاته. عند دخوله الشقة، يقابل «بول» «كيكي» صديقةَ «مارسي» والتي لعبت دورَها «ليندا فيورنتينو»، وإذ بها تعمل عاريةً إلا من حمالة صدر. إنها تصنع بجرائد مبللة تمثالًا لرجل جاثٍ، يداه مرفوعتان بالدعاء، ووجهه غارق في الرجاء. تستدعي ذاكرةُ «بول» ومضاتٍ من لوحة «إدفارد مونك» التي يُسمّيها خطأً «الصراخ».

يبدو جليًا أن «بول» قد ضل مساره، وما من أثرٍ لـ«مارسي». وحين تظهر أخيرًا، تظهر بغير الحالة التي رآها بها سابقًا، فقد أصبحت صموتة، وأقلَ ودًا. يسير «بول» نحوها فتصدّه، وتذكر شيئًا عن ندوب، واغتصاب، وحروق. مذعورًا مما سمع، يغادر «بول» الشقة، ولا يتتبّعه إلا تمثالُ «كيكي» الحزين. وبينما يُرخي الليلُ سدولَه، يُضيّع «بول» «مارسي»، ويلتقي بآخرين ثم يتركهم أيضًا. يحدث كل ذلك وهو يحاول جاهدًا العودة إلى منزله. إنه «عوليس» في بنطال خاكي.

لقد كانت أوديسته وحشيةً ومفاجئة، ولكنَّ بعض الإشارات تغدو مألوفة مع الوقت، مثل سلسلة المفاتيح التي نراها في جميع أنحاء الفيلم. إنها تُرمى في الهواء وتُمرَّر عبر البارات وتُلقى على المناضد في لقطات «كلوز أب» مغالية. في وقت سابق تَقذف «كيكي»(1) مجموعة مفاتيح عبر النافذة، فتتجه بسرعة نحو رأس «بول». الكاميرا هنا تنتقل باستخدام لقطة وجهة النظر ذهابًا وعودةً بين منظور «بول» ومنظور المفاتيح. هذه الإشارات المتتالية للمفاتيح توحي بما لا يدع مجالًا للشك أن الفيلم ينفي بطله. يَفترض «بول» أنه إنْ وجد المفتاح الصحيح، فإنه على الأقل سيعلم بوجود بابٍ في نهاية الشارع، الباب الصحيح، بابه هو. وإنه لمن المعقول أن يظن ذلك، لكنّ السؤالَ المُلّح في هذا الفيلم -ودعونا نستخدم كلمات «بول» هنا: «ما الذي تريدونه مني؟ بِمَ أذنبت؟»- سؤالٌ لا تجيب عنه المفاتيح. ورغم ذلك نرى «بول» يتشبث بها، ويخفى عليه أنه لا سلطة له على المفاتيح، بل هي التي تسيطر عليه.

أشياء أخرى تظهر كذلك بين فينة وأخرى: ساعات حائط، ساعات يد، مفاتيح إنارة، أزرار، وهواتف، ومال. والكاميرا تحاول بثبات أن تسلّط الضوء على هذه الأشياء التي تضحى مركزَ الفيلم، وتحتفظ بمركزيتها على الرغم من تعدد الشخصيات التي يلتقي بها «بول» في طرقات سوهو. وقد استلهم «سكورسيزي» و«بالهوس» -كان هذا التعاون الأول وليس الأخير بينهما- هذا من الأسلوب الدكاكيري fetishistic لـ«ألفريد هيتشكوك»، ففي مرحلة ما، نشاهد «بول» في الوضع الجانبي وهو يتحدث مع «مارسي» عبر الهاتف، والكاميرا -صعودًا ونزولًا- تمسح سماعة الهاتف الملتصقة بأُذُنه، وفي هذا استحضارٌ للقطة من فيلم Marnie حيث تملأ سماعة الهاتف الشاشة. واستمرارًا في الأمثلة الهيتشكوكية، يُلبِس «بعد الدوام» الجَمَاداتِ لباسَ العاقلات، حتى لكأنها تصير كائناتٍ واعية (تتغير المعادلة في نهاية الفيلم، حين يصبح «بول» بطريقةٍ ما كائنًا غير واع).

تظهر في الفيلم إشاراتٌ أخرى لأفلام «هيتشكوك» -Rear Window, Suspicion, Notorious- إلا أن الإلماحة الأبرز كانت في حضور الشقراوات الأربع اللاتي يغرِين «بول» للوقوع في شبكة مصيره المعقدة. ومن وجهة نظره المشوبة بالقلق فإنهنّ قد خرجن جميعًا للنيل منه، بدءًا بـ«مارسي»، التي تزعزع إحساسه بالواقع وتتحدى رجولته بتجسيدها لعددٍ من أنماط الشخصيات السينمائية: الفتاة اللعوب، القاتلة الفتّاكة، المرأة المتأزمة، وهي متبوعة دومًا بعاشقتها المتيمة «جولي» (تيري غار)، والتي بدورها ترى في «بول» تذكرةَ عبورٍ للتخلص من عملها المنتهي في المكان الذي يحمل اسمًا يوحي بالنهاية: «بار الختام». وهناك «كاثرين أوهارا» التي لعبت دور «غيل»، والتي لا يلتقي بها «بول» إلا بعد أن يفقد كل تركيزه وطاقته. «غيل» تملك شاحنةً لبيع الآيس-كريم وتبدو في أول وهلة امرأةً بمقدورها المساعدة، ولكن «بول» ينطلق هاربًا تحت المطر بمجرد انتهائه من استخدام هاتفها، يطارده -بصافرة من «غيل»- رجلُ عصابة غاضب. أما حين تمدّ «كوايت جون» (فيرنا بلوم) لـ«بول» يدَ المساعدة، فما المهربُ الذي توفره له إلا سجنٌ وجودي في حد ذاته.

ليس «هيتشكوك» وحده السلفَ الأدبي الوحيد الحاضر في الفيلم، فتأثير «كافكا» لا يمكن غض الطرف عنه. وقد كان الحديث المتبادل بين «بول» والحارس المخيف (كلارنس فيلدر) عند «نادي برلين» مستقطعًا من موعظة قُصّت في أواخر رواية «المحاكمة» لـ«كافكا». في تلك القصة، يقف حارسٌ خارجَ مكان يدعى «القانون»، فيأتي رجل محاولًا الدخول، إلا أن الحارس يرفض. يسأله الدخول مجددًا، ومجددًا يرفض. وتستمر الحال لعدد من السنين، إلى أن يحاول الرجل رشوةَ الحارس الذي يقول له: «سأقبل بهذا فقط لكيلا تشعر أنك قد أهملتَ شيئًا». في الفيلم يُقتبس هذا القول الكئيب صراحةً حين يعرض «بول» على الحارس مبلَغًا ليقول الحارس: «سآخذ المال فقط لأنني لا أريدك أن تشعر أنك لم تحاول كل شيء». يُظهر كلا الحارسين سخاءً مفاجئًا، لكنه سخاءٌ يؤبّد الأملَ الكاذب. والأملُ الكاذب أشد وطأة من الرفض الصريح. في موضع آخر، يردد مأزقُ «بول» صدى بطل رواية المحاكمة «يوزف ك»، الرجل المتهم بجريمة غير محددة، فنشاهد «بول» عندما كان مختبئًا من العصابة، يسترق النظر إلى إحدى النوافذ فيرى امرأة تردي رجلًا قتيلًا، فيقول في نفسه: «ربما أُلام على هذا أيضًا».

لم يكن عذابُ «بول» إلا انعكاسًا للحالة الصعبة التي كان يمر بها «سكورسيزي» في تلك الفترة من حياته، ففي عام 1982 فشل فيلمه «ملك الكوميديا» فشلًا ذريعًا على الصعيد التجاري. وفي السنة التالية -1983- أُلغي مشروعه الحلم في اقتباس رواية نيكوس كازنتزاكيس «الإغواء الأخير للمسيح»، فقد أُوقف قبل أسابيع فقط من الموعد المحدد للتصوير، ولم يستأنف العمل فيه لغاية عام 1987 (بإيعاز من شركة يونيفرسال). ومن أجل النهوض من تلك الكبوات، احتاج «سكورسيزي» أن يثبت لأقرانه -ولنفسه أولًا- أنه ما زال قادرًا على العمل في هذا المجال، فبدأ بقراءة النصوص، حتى سلّمه «ديون» و«إيمي روبينسون» (نجمة فيلمه «شوارع لئيمة») نصًا للطالب المتخرج من جامعة كولومبيا «جوزيف مينيون». و«مينيون» قد تأثر بعض الشيء بالمونولوج الإذاعي «أكاذيب» لـ«جو فرانك»، والذي يُعتبر مفتاحًا في تقديم مَشاهد «مارسي». وبعد مروره بخيبة أمل مهنية، كان منطقيًا لـ«مارتن سكورسيزي» أن يعمل على قصة رجل يواجه عددًا من العوائق، رجل كأنما يتآمر الكون عليه. وقد فُتن كذلك بالتحدي المتمثل في العمل على ميزانية صغيرة (قُدرت بأربعة ملايين دولار)، وكذلك بالعمل خلال جدول زمني قصير، الأمر الذي أعاده إلى أيامه الأولى في الإخراج.

يصف «سكورسيزي» فيلمَه هذا بأنه «محاولة كي أريهم بأنهم لم يقتلوا روحي»، وقد دلل على هذا الحافز في كل كادر، فالشاشة زاخرة بالتعابير البصرية، وهَوَس «سكورسيزي» السينمائي يُعرض بطريقة تكاد تكون عدوانية، فإلى جانب إشاراته إلى «هيتشكوك»، ثمة إلماحات إلى «فريتز لانغ» و«ماريو بافا» و«آلان دوان». بالإضافة إلى عمل «سكورسيزي» الجليل، تبرز كذلك إسهاماتُ المحررة «ثيلما سكونميكر» المهمة، فالفيلم يلجأ لاستخدام اللقطات الاعتراضية(2) [insert shots] أكثر من استخدامه اللقطة العامة(3) [master shot]، مما يساعد في خلقِ مزاجٍ بالانفصال، ورتمٍ خاطف يسبب النفور. لقد سيطرت كل شخصية على زاويتها الصغيرة في سوهو، وأطلق «سكورسيزي» لغرابتهم العنان. أما موسيقى «هاورد شور»، فقد منحتْ شعورًا بالشتات والغربة، وهي تستمد شعورَ الخواء من مدينة نيويورك آخر الليل، كما أن المراوحة بين الدو-ووب [doo-wop] وموسيقى البَنك [punk] تعطي البيئةَ التي صُور فيها الفيلم إحساسًا بالتمدد. إن «مارتن سكورسيزي» حوّل فيلمه باستخدام جميع هذه العناصر إلى لوحة من السلاسة الفنية، لكن الذي قاد الفيلم حقيقةً هو توقه اليائس للعودة إلى اللعبة، وقلقه من أن يكون خارج الفن الذي أَحبّ.

مما لا شك فيه أن «بعد الدوام» تعبير عن الأزمة التي مر بها المخرج، لكنه كذلك كبسولة زمنية تُصور مراحل الاستطباق وزيادة الفصل الاجتماعي في مدينة نيويورك، ففي الثمانينيات، امتلأت مانهاتن بالـ«يبيز»، وانفجرت أسعار الإيجارات، وأُبعدت الطبقة العاملة والفنانون إلى الأقاصي وما وراءها. واليوم سوهو متخمة بالمحلات والمطاعم الراقية والمعارض الفنية، ولم تعد تلك المدينة المعزولة والمقفرة التي مر بها «بول»، وإنْ بدتْ المنطقةُ لمشاهدي اليوم غريبة مثل جزيرة أطلس الغريقة، فإن «بول» كذلك لم يشعر بالألفة فيها، فمثلًا حين تخبره «مارسي» بأنها تعيش هناك، يجيب: «أوه! جميل». من الواضح أنه لم يغامر قط بالخروج من منطقته. ونظرًا لذلك فقد أذهله أن أحدهم يعيش بالفعل داخل سوهو. إنّ جهل «بول» قد سمح لـ«سكورسيزي» -الذي صوّر نيويورك دائمًا من وجهة نظر حميمة- أن ينظر إلى مدينته عبر عيون غريبة.

لقد حقق «بعد الدوام» ما صبا إليه «سكورسيزي»: تجربةَ صنعِ ما يُنشّطه، وهو الفيلم الذي أكسبه جائزة أفضل إخراج في مهرجان «كان» السينمائي. ولكن في المجمل، قوبِل الفيلم بردات فعل متغايرة، ولم يحظَ بانتشار كبير حين عُرض، مما خوّله أن يكون فيلمَ «كالت»(4) كلاسيكيًا، فأولئك الذين يحبّونه يحبّونه بشغف ويخلصون له، ويمكن أن نشعر بهذا الإخلاص في الحلقة التلفزيونية «بيرد بعد الدوام» Beard After Hours من مسلسل «تيد لاسو» المعروضة في عام 2021. هذه الحلقة تحيةٌ إلى الفيلم وتتقاطع مع قصته، حيث إن الشخصية لا تعرف طريق العودة إلى بيتها، في ليلة مليئة بالمفاتيح الضائعة، والأندية الليلية، والحراس المستبدين.

رغم ذلك، وعلى عكس بعض أفلام «سكورسيزي» التي صَوّرها منذئذ -«الأصدقاء الطيبون»، «ذئب وول ستريت»، «الأيرلندي»- لا نجد اسم «بعد الدوام» يتردد حين الحديث عن مسيرة المخرج. وما ينبغي ذلك، فالمخرج قد أشار إلى الفيلم بأنه الفرصةُ للعمل وللعودة إلى المسار الصحيح، إلا أنه لم يكن تمرينًا في الأسلوب وحسب. ومن الطريف أن الفيلم كذلك نداءٌ من القلب(5) وأحد أكثر أفلام «سكورسيزي» شخصيةً. لاحَظَ «توم شون» في كتابه «مارتن سكورسيزي: استعادة» أن المخرج قد كان في هذا الفيلم في «لحظاته الكاثوليكية الأشد هزلًا»، وهذه الملاحظة استمدّت صحتَها من اللقطة التي يجثو فيها «بول» على ركبتيه شاكيًا إلى رب لا يبالي. ومردُّ الطرافة أن هذه الصورة طرقت شيئًا حقيقيًا. ولا نقول إن الفيلم تحفةً فحسب، بل إنّ صوتَ الفنان فيه قد صدح بوضوح وعلو.

الهوامش:

.1 «كيكي» اسمها بالإنجليزية Kiki على وزن Key-Key (مفتاح).
2. لقطة تعترض السياق لتركز على موضوع أو مادة عن كثب.
4. لقطة تعرض جميع الشخصيات والحركات المهمة في كادر واحد.
5. فيلم له قاعدة جماهيرية محددة تعشقه بشغف، رغم عدم انتشاره على مستوى واسع.
6. بالفرنسية في الأصل a cri de coeur
7. اضغط هنا للإطلاع على المصدر

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى