لا تخفي القاهرة وجهها، بل تواجه به كل من يمرُّ عليها، ساكنيها، حيواناتها، ومهاجريها الذين نزحوا إليها. فها هي قاهرة مراد مصطفى بغرائبيَّتها وريشها وأجنحتها الضعيفة، تتمثَّل في عائشة، أو كما يناديها المحيطون بها: عيشة. فتاةٌ في العشرينيات من عمرها، نزحت إلى القاهرة من السودان، حيث تقيمُ في حي عين شمس وتعملُ كمقدِّمةِ رعاية. تمشي عائشة في القاهرة بخمارٍ طويلٍ وعينٍ تالفة، تجمعُها علاقةٌ غير واضحةِ الملامح مع طبَّاخٍ مصري، وعلى الجانب الآخر، تتعاون مع عصابةٍ مصريَّةٍ، حيثُ تساعدهم في سرقة المنازل التي تعمل فيها، مقابل الأمان. وكَّلما حاولت أن تنسحبَ من هذا العمل، لا تأتي التبعات كما تتمنَّى.
عائشة محاصرةٌ من كلِّ جانب، بدءًا من الحي الخطِر الذي تعيش فيه، حيثُ ترتعُ العصابات، وانتهاءً بالتهاباتٍ غريبةٍ بدأت تظهرُ على بطنها، تدهنُها عائشة بأنواعٍ مختلفةٍ من المراهم بلا جدوى، حيث سيتَّضح فيما بعد أنَّ هذه الالتهابات عبارةٌ عن ريشٍ بدأ ينبتُ على جسدها. تلتقطُ عائشة منابت الريش وتنزعها بملقطٍ صغيرٍ للشعر، لكنَّها ما تلبث أن تنمو وتتكاثر.
يأخذنا الفيلم في رحلةٍ غرائبيَّةٍ طويلة، لكنَّه رغم ذلك يظلُّ على سطحِ الأشياء والمشاعر، محاذِرًا الغوص عميقًا. فعائشة التي تتجرَّع أنواعًا شتى من المعاناة، تبقى جامدةً نسبيًا، لكن يظهرُ هذا العذاب على جسدها الضئيل، فمن المنطقي، بعد كلِّ ما مرَّت به، أن تتحوَّل هي نفسها إلى نعامةٍ عملاقة، نعامةٌ كانت تلاحقها أولًا في ليل القاهرة، تتبعها، تمشي خلفها، ولا تجزعُ عائشة من أن تحدِّق في عينيها بجمود.
لا تقول عائشة الكثير، فهي تسمحُ للأشياء بالحدوث، تنتقلُ من منزلٍ لآخر، وحين تبدي اعتراضًا بسيطًا، يُقال لها: «أنتِ هنا ليس لديك الحق في الاختيار».
تشكو عائشة من أحد المرضى الذين ترعاهم، وذلك لأنَّه لا يتوانى عن استغلالها جنسيًّا. ولكن دائمًا ما يكون الردُّ هو نفسه: «اعتبريها نوعًا من الرعاية». يتفاقم غضبها الصامت شيئًا فشيئًا، وتراودها فكرة التخلص منه. في إحدى المشاهد الفظيعة، تجده ميتًا على سريره من السمِّ الذي وضعته له، وتلك النعامة التي تلاحقها قد أكلت من بطنه، فما تلبث عائشة إلَّا أن تنقضَّ عليه وتلتهمُ أمعاءه. غير أنَّه ما يلبث أن ينادي عليها لتصنعَ له كوبًا من الشاي، فتغوصُ في صمتها أكثر، ولا يقودها غضبُها إلى أيِّ مكان.
هناك اختلاطٌ بين العالم الجوَّاني، الغرائبي، لعائشة وبين الواقع. لكنَّها القاهرة على كلِّ حال، وأنتَ في القاهرة لا تعرفُ ما هو الواقع فعلًا، فهذه الغرائبيَّة مكوِّنٌ أساسيٌّ لمدينةٍ مثل هذه، فإذا خرجتَ من قاهرة مراد مصطفى إلى قاهرة الشارع، قد تجد فعلًا نعامةً ما تلحقك، أو عائشة أخرى تلبسُ قفَّازات سوداء لتخفي منابتَ الريش على جسدِها.
ثمَّة استخدامٌ للغةٍ فجَّةٍ في الحياة اليوميَّة، لغةٌ تشبه القاهرة التي تقسو على الجميع بلا هوادة. في هذا الفيلم، تظهرُ عائشة، المرأة المهاجرة، السوداء المنسيَّة، على أنَّها الحلقة الأضعف. إنَّها تنسحقُ حرفيًّا تحت عجلاتِ القاهرة، حيث الجميع يحاول استغلال الجميع، في دائرةٍ لا متناهيةٍ من الظلم. مثالٌ على ذلك: أثناء استلام عائشة لراتبها، تُنعتُ جميع الفتيات في الطابور بلفظ "البِتْ"، وفي العامية المصريَّة تُستخدمُ هذه المفردة بغرض الانتقاص؛ وبعد استلام المال، يقول لها الرجل المسؤول: "غُوري" في إهانةٍ صريحةٍ مرَّةً أخرى. لا يحق لهؤلاء الفتيات الاعتراض، وهذا أمرٌ يُذكَّرنَ به طوال الوقت، إما بالكلام أو الفعل، فأثناء استلام الراتب، اعترضت إحدى الفتيات على نقصانه، لتعاقبَ بسيلٍ من الشتائم المهينة والضرب المبرح.
يصوِّر هذا الفيلم عالمًا مليئًا بالهشاشة، فحتى العصابات التي تتصارع مع بعضها، والتي تتكوَّن من أبناء شارعٍ مصريين وطرفٍ آخر من المهاجرين الأفارقة، وعلى الرغم من وجودِ الصراع والأسلحة والنيران التي تطلَقُ من كلِّ حدبٍ وصوب، غير أنَّني أجد الهشاشةَ تحيطُ بهم من كلِّ جانب، فلا أحد يحاولُ الهيمنة بقدرِ ما يحاولُ النجاة وحسب من ليلِ مدينةٍ مثل القاهرة، الذي لا يقلُّ قسوةً عن نهارها.
تمضي عائشة متَّجهة نحو المقابر، تمشي في الشوارع، تركب المواصلات العامة، تتنفَّس هواء القاهرة المترب، تنظِّف المنازل، تغيِّر ملاءات السرير، تعدُّ الفطور للنساء العجائز، تجلب كرسيًا بعجلاتٍ لطفلٍ مُقعد، تفعلُ كلَّ شيءٍ بوجهٍ يعلوه الانكسار، دون الانغماس فيه. إنَّها تتحرَّك على نحوٍ آلي، حتى داخل علاقة الحبِّ الوحيدة مع الطبَّاخ المصري، تبدو منكسرةً أيضًا، وفي حالتها هذه، لا يعدُّ الحبُّ ملاذًا بأيِّ حالٍ من الأحوال، حتى وهي تسندُ رأسِها على كتفه خلال الطريق المؤدِّي إلى منزلها.
من خلال عائشة، تُروى حكاياتُ عددٍ كبيرٍ من المهاجرين حول العالم، حيث ما من وجودٍ حقيقيٍّ للبيت، فالبيت بالنسبة لهؤلاء هو عبارةٌ عن مجموعةٍ من المنازل المؤقَّتة. كما أنَّ العلاقات من حولها ليست قائمةً على المودة، بل على المنفعة في المقام الأول. نرى عاطفةً ضئيلةً داخل هذه العلاقات، فمرَّة احتضنت عائشةُ صديقتها التي ستهاجر إلى أوروبا، لكنَّها لم تكن صديقةً فعلًا، بل فتاة تساعدها على سرقةِ البيوت. وهذا الحضن الطويل، لا أظنُّه كان يعني شيئًا حقيقيًا، فمشاعرُ عائشة جامدة، وربَّما تشعر بالألم، لكنَّه غير واضح، إلا من خلال الريش الذي ينبت على جسدِها ويغيِّر ملامحه شيئًا فشيئًا.
رغم أنَّ عائشة تقضي معظم وقتها خارجًا، غير أنَّها تعيش في عزلةٍ واضحة، فالصمتُ يغلِّفها، وتتكلَّم للضرورة، عندما يجب عليها قول شيءٍ ما. ما من علاقاتٍ حقيقيَّةٍ في حياتها، ما من صداقة، ما من حب، والأسى يغلِّفُ الأشياءَ كلها. تتفرَّج على الصراع دون أن تنغمس فيه، فالشارع، والكلاب المسعورةُ التي تنهش عصابةً من المهاجرين، بسبب خلافٍ مع عصابةٍ أخرى، كلُّ هذا يبدو عاديًا، وهو لا يخيفها إلى حدٍّ كبير، فهي تتعايش، تقول "حاضر" للجميع، تناورُ عتمة القاهرة، ورغم كلِّ شيءٍ تعرف كيف تنجو فيها.
لا تظهرُ مشاعرُ عميقة لدى عائشة سوى في ثوانٍ معدودة. فعلى سبيل المثال، والنيران تقتحم منزلها، تبدي انفعالًا واضحًا وهي تحاول اطفائها، ثمَّ ما تلبث أن تجلس في جمود طويل، والعصابات تتصارعُ في الخارج، وصوت سيَّارات الشرطةِ يحاصرها/يحاصر المكان.
هل استطاعت أن تنجو فعلًا، من خلال بقائها نظريًا على قيد الحياة رغمَ كلِّ ما تمرُّ به؟ أم أنَّها ظلت محاصرة كُليًّا. ورغم أجنحتها النابتة، إلا أنَّ عائشة لا تستطيع الطيران.
بعد مسيرة فنية حافلة بالأفلام القصيرة على غرار «حنَّة ورد» و«عيسى»، يطلُّ المخرج مراد مصطفى بفيلمه الروائي الطويل «عائشة لا تستطيع الطيران»، الذي اختير للمشاركة في قسم "نظرة ما" ضمن الدورة الـ 78 من مهرجان كان السينمائي 2025، وهو فيلم يجمع بين الحضور المتفرد للممثلة بوليانا سيمون وسحر مغني الراب المصري زياد ظاظا، في تجربة سينمائية تحمل الوعد والاختلاف.
حل المخرج مراد مصطفى ضيفًا على "ميم" في حديث حصري تحدث فيه عن رحلة بناء الفيلم ورمزياته وأبعاده وعن توظيف أسلوب الواقعية الغرائبية:
«عائشة لا تستطيع الطيران» عنوانٌ محمَّلٌ بالرمزية. أخبرنا عن رحلة الفيلم أثناء الكتابة والتطوير، ولماذا هذه القصة بالتحديدِ هي التي اخترتَ أن تحكيها؟
بدأت رحلة الفيلم منذ خمسِ سنواتٍ في مرحلة أولى اقتصرت على الكِتابة، ثمَّ قصدت العديد من المعامل للعمل على تطويرِ السيناريو، آخرها معمل تطويرِ السيناريو في كان، كما تمَّ دعم الفيلم بالعديد من المنح. بدأ التصوير عام 2024، في شهرِ أبريل، وانتهى مع نهاية العام.
لماذا اخترتُ هذه القصَّة بالتحديد؟ هذه القصة ليست شيئًا جديدًا أقومُ به لأوَّل مرَّة، بل هي نهاية لثلاثيَّةٍ أعملُ عليها، لأنَّني قمتُ بالشيء نفسه في فيلم «حنة ورد»، أوَّل فيلمٍ قصيرٍ أشتغلُ عليه، ثمَّ في فيلم «عيسى»، لذلك شعرت أنه يجب أن أضع خاتمة لهذه الثلاثية التي تتناول مجتمعات المهاجرين الأفارقة في القاهرة.
بصفتنا مصريِّين فإننا على الدوام لا نملك أفلامًا سوى عن المصريّين، وهذا الأمر شكَّل لي هاجسًا كبيرًا، فنحن لدينا تاريخٌ عريقٌ من السينما، فلماذا لا نصنعُ فيلمًا بطلته غير مصريَّة، نسلط الضوء من خلاله على علاقتها بالمجتمع الجديد في مصر، بالأخص مع وجود ثلاثة ملايين سوداني يعيشون في مصر الآن. الأمر الآخر هو أنَّني نشأتُ في منطقةٍ شعبيَّة، اسمها عين شمس، تقعُ في قلب القاهرة، وهي منطقة مكتظَّة بالمهاجرين الأفارقة والمصريين والعصابات، كلُّ شيء يتقاطع فيها. وأنا كنت متعلِّقًا بهذا العالم وبالعوالم التي نشأت على مقربة منها، وبالناس هناك، وكنت أرى في تلك البيئة شيئا نحتاجُ كصنَّاع أفلامٍ أن نحكي عنه، ليس فقط من خلال فيلمٍ وثائقيٍّ يوثق الحياة المعاشة، فهذه لم تكن السينما التي أنتمي إليها، بل من خلال فيلم روائي. فكل ما كنت أريدُه هو أن أضع كل ذلك في فيلمٍ فنِّي، مليءٍ بالأكشن والدراما الاجتماعيَّة.
استُخدِمت الواقعيَّة الغرائبية بكثافةٍ في الفيلم، من النعامة وحتى الريش النابت على الجسد. ما الذي دفعك لدمجِ هذا الأسلوب تحديدًا، وهل كنت تخشى أن يشتِّت هذا الخط الغرائبيِّ على المعاناة الواقعيَّة في الفيلم؟
أبدًا، فما أردته هو صناعة فيلمٍ لا يقتصر فقط على حياة مهاجرةٍ إفريقيَّةٍ وتصوير معاناتها، لأنَّني ضدُّ فكرة التمحور حول القضايا الكبرى، والسينما ليست سلاحًا فقط لحقوقِ الإنسان وما إلى ذلك، بل هي أداةٌ للتعبير عن دواخلك بشكلٍ سينمائيٍّ وعلى نحوٍ فنِّي، وليست مجرَّد قضايا نناشد بها.
فالجزء السحري في الفيلم بالنسبة لي هو طريقةٌ لكسرِ تابو فيلمٍ يحكي عن مهاجرةٍ إفريقيَّةٍ تعيش في مكان ما وتواجهُ العديد من الصعوبات. صنع هذا الجزء السحري شقًا جديدًا للفيلم له علاقة بدواخلها هي، وأنَّا ضد فكرة تقديمِ المهاجرين كضحايا فقط مثلما تفعل معظم الأفلام الأوروبيَّة، فهذا يسرقُ كفاحَهم الشخصي، ويسرق مجهودهم في النضال والدفاع عن نفسهم، لذلك أردت طوال الوقت تقديم البطلة كشخصيَّةٍ قويَّة، وفي نفس الوقت ليست ملاكًا، حيث أردت تقديمَ جميع جوانبها، المضيئة والمظلمة على حد سواء، فهي تقومُ بأشياءَ جيِّدةٍ وأشياء أخرى سيِّئة في نفس الوقت، شأنها شأن أيِّ إنسانٍ في هذا العالم الحقيقي الذي نعيش فيه. لكنَّها أيضًا أقوى، لأنها أيضًا تمضي لوحدها في عالمٍ وحشيٍّ تجد نفسها فيه مضطرَّة للدفاع عن نفسها، مثلها مثل النعامة في الفيلم، فالنعامةُ كائنٌ يبدو في غاية اللطف لكنها في المقابل تدافع عن نفسها بعمقٍ حين تتعرَّض إلى المضايقات.
هل ترى شخصيَّة عائشة شخصية فرديَّة لها خصوصيَّتها، أم أنَّها تمثِّل شريحةً أوسع من النساء المهاجرات، بمعنى هل يمكن اعتبارها كاستعارةٍ جماعيَّة؟
أبدًا، ولو كانت الشخصيَّة كاستعارةٍ جماعيَّةٍ ما كنتُ لأصنع الفيلم، لأنَّني قصدتُ أن تكون الشخصيَّة نادرةً جدًا لدرجة أنَّني وضعتُ شيئًا في وجهها غايةً في الندرة، مثل أن تكون لها عينٌ زرقاءُ وأخرى بنيَّة، فمنذ اللحظة الأولى أردتُ القول إنَّها لا تشبه البقيَّة، ربَّما تنتمي إليهم لكنها لا تشبههم. ومثل النعامة، فهي تنتمي للطيور لكنَّها لا تطير. فهي منهم ومختلفةٌ عنهم، لكنَّها أيضًا أقوى، لأنَّ بإمكانها فعل أشياء لا يستطيع البقيَّة فعلها.
عائشة صامتةٌ في معظم مشاهدها، لكنَّها تعاني من صخبٍ داخلي، كيف عملتَ مع الممثِّلة لإيصالِ هذا التوتُّر الصامت؟
باستثناء فيلمي الأول، وحتى فيلمي الطويل، جميع الأفلام التي قمت بصناعتها تقريبًا لا تحتوي على حوارٍ كثير، فهذا نهجٌ أنا متمكن منه وأستطيع العمل بناءا عليه، سواء أثناء الكتابةِ أو حتَّى مع الممثلين، لأنَّ الكلام يُفقد المشاعر قوتها، بينما تعزز قلَّة الكلام من المشاعر وتذكيها.
إضافة إلى ذلك، فإنّي أعمل دومًا مع ممثِّلين غير محترفين ولم يدرسوا التمثيل، لأنَّني أرى أنَّ مشاعرهم تكون أكثر صدقًا وأصالة، ولأنهم دائمًا ما يملكون شيئًا طازجًا وحقيقيًّا. فأنت وقتها تستطيعُ أن تأخذَ أكثر شيءٍ حقيقيٍّ في الحياة، وعمومًا معظم الممثِّلين في أفلامي هم غير محترفين، ربَّما - فيما بعد - أعمل مع محترفين، ولكن ليس في الأفلام الأولى، لأن الأفلام الأولى يجبُ أن تشبه المخرج إلى حدٍّ كبير، تشبه ذوقه في السينما والأفلام وفي طريقة توجيه الممثلين.
لا أقوم عادة بتوجيه الممثلين أثناء عملي معهم، لأن طريقة التلقي عند غير المحترفين تختلف، ففي حال أخذوا أوامر كثيرة، فإنهم لن يستطيعوا التعامل معها، ولهذا أتركهم يُخرِجون جميع مشاعرهم وطاقاتهم، بيننا تقتصر مهمتي على الحذف فقط دون إضافة شيء.
بالنسبة لمدينةٍ مثل القاهرة، هناك حضورٌ خانقٌ للمدينة جعلها كشخصيَّةٍ بحدِّ ذاتها، كمَّا أنَّها تَظهرُ ككيانٍ ساحقٍ لا يرحم، كما أنَّها تظهرُ كمدينةٍ معادية، هل هذه رؤيتك الشخصيَّة لمدينةِ القاهرة أم هو وجهٌ واحدٌ من وجوهها؟
بالنسبة لي، يتمثل عالمُ عائشة في شغلها ومنطقتها وعلاقتها مع الطباخ، والمدينة هي التي تحملُ بداخلها كلَّ هذه العوالم، فإذا كانت هذه العوالم خانقةً، فالمدينة نفسها تصبح كذلك. طوال الوقت حاولتُ الوصول إلى نتيجةٍ لا يرتاح معها المشاهد، وهذا بالنسبة لي أمر سعيت لتحقيقه حتى يمكن الشعور بعائشة وعالمها والمثلث الذي تتحرك فيه فيه، فهي محاطةٌ بمدينةٍ أكبر من هذه العوالم، وهذه المدينة ليست خانقةً تلقي بظلالها على عائشة فقط، بل على جميع الناس، بضبابيَّتها وترابها، بدرجة حرارتها، بجميع العوامل التي تضغط على الشخصيَّة وتجعلها تنفجرُ أكثر. لذا فإنَّه فيلمٌ أيضًا عن المدينة. وأغلب أفلامي هي أفلامٌ عن المدينة، فأنا ابن المدينة، وهذه المدينة تشكل ضغطًا من نوعٍ ما، وهذا الضغطُ يشكل دافعًا لصنع الأفلام.
مشهد التهام الجسد وظهور النعامة مشهدٌ صادمٌ ومركَّب، ما الذي أردتَ قوله من خلال هذا التلاقي الوحشي؟
أردت القول إنَّنا لو واصلنا الضغط على إنسانٍ بسيط، فإنَّه سيتحوَّل إلى وحش، وعائشة تحوَّلت إلى وحشٍ بالمعنى الحرفي للكلمة: إنسانٌ يأكلُ إنسانًا. هذه اللحظة لم تكن تخرج من رأسي، كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من التوحُّش لدرجة أن يأكل إنسانًا آخر! هذه الدرجة من الوحشيَّة هي أعلى درجةٍ قد وصلت إليها الشخصيَّة في الفيلم. لأنَّ جميع ما حولها قد خلق منها هذا الوحش.
هل يمثِّل المشهد الأخير، حين تُحاصرُ عائشة وتجلسُ في جمود، نقطة اللاعودة أم لحظة الاستسلام الأخير؟
هذا يمثل نهاية الفصل القديم في حياتها، ليس استسلامًا لأنَّها تتنفس الآن أخيرًا، فهي تعرف أنَّ هذا الفصل قد انتهى الآن، وهناك فصلٌ جديدٌ ستبدأ بعيشه، فصلُ خروج الريش من جسدها. لقد عادت للعمل مجددًا في بيت المسنِّين، أي أنَّها تنتهي من حيث ما بدأت. بالتالي فهي لحظةٌ تتنفَّس فيها أكثر من كونها تستسلم.
هناك تداخلٌ واضحٌ بين المصريِّين والمهاجرين في دوائر الاستغلال والضعف، هل ترى أنَّ الهشاشة عامَّة، أم أنَّ هناك من هو أضعف من الآخر داخل هذه السلسلة؟
الصراع في الفيلم هو صراعٌ على السيطرة، ولا شيءَ فيه له علاقة بالعنصريَّة، بل هو مرتبطٌ أكثر بتبدُّل المجتمعات، فقد كان هناك مجتمعٌ يقومُ بالسيطرة والتحكُّم في المنطقة، ثمَّ جاء مجتمعٌ آخرُ يحاول القيام بالأمر نفسه. من هنا نشأ الصراع، وهذا الصراع بالنسبة لي أفظعُ من الصراعِ القائم على العنصريَّة، لأنَّه قد يؤدي إلى كوارثَ كبيرة.
ماذا بالنسبة للمشروع القادم؟
سأقوم بتصوير فيلمٍ قصيرٍ نهاية العام عن مجموعةٍ من المراهقين المصريِّين، فثلاثية المهاجرين الأفارقة قد انتهت بالنسبة لي، وأشعر أنَّني قلت خلالها ما أريد قوله.
