يتطرق فيلم "عندما بكى نيتشه" (When Nietzsche Wept) المُنتَج عام 2007، إلى جوانب من تاريخ التحليل النفسي والأفكار الفلسفية عبر تناول حياة الفيلسوف الألماني الأشهر فريدريك نيتشه، والمحلل النفسي جوزيف بروير، إضافة إلى حضور شخصيات تاريخية أخرى مثل عالِم النفس الأبرز في التاريخ سيغموند فرويد، ولو سالومي، وذلك من خلال اقتباس رواية الطبيب النفسي والأكاديمي الأمريكي المعاصر إيرفين يالوم، والتي تحمل الاسم نفسه، وتتناول الحقبة التاريخية المتأخرة من القرن التاسع عشر والتي عاشت تفاصيلها هذه الشخصيات.
يقوم النص الروائي لإيرفين يالوم على اقتباس شخصيات تاريخية بارزة، واستعراض سياقاتها الاجتماعية وأفكارها في قالب سردي متخيَل، فالأفكار والفلسفات والسياقات الاجتماعية والصفات الشخصية مستلهمة من حقائق تاريخية، أما الحبكة السردية فمُتخيلة، وهذا ما قام به يالوم -الطبيب وأستاذ علم النفس في جامعة ستانفورد الأمريكية- في ثلاث روايات هي: "مشكلة سبينوزا" و"علاج شوبنهاور" والرواية التي اقتُبس منها الفيلم الذي نتحدث عنه هنا: "عندما بكى نيتشه".
الفيلم من إخراج الأمريكي بنشاس بيري، والذي تتضمن مسيرته الفنية إخراج وإنتاج ثلاثة أفلام فشل منها فيلمان فشلاً ذريعًا، وهما "شيكاغو 8" و"الأمير" وكتب بيري وأسهم في كتابة سيناريوهات أفلامه، وهو الذي اقتبس نص يالوم الروائي وحوّله إلى سيناريو الفيلم الذي نتناوله هنا، وأدّى الأدوار الرئيسة في الفيلم الممثل الإنجليزي "بن كروس" والذي قام بدور الطبيب جوزيف بروير، أما دور نيتشه فقد أداه الممثل الأمريكي "أرماند أسانتي"، وأدى "جيمي إلمان" دور فرويد، و"كاثرين وينيك" دور لو سالومي.
يبدأ الفيلم بحوار مباشر بين الطبيب جوزيف بروير ولو سالومي، تطلب فيه سالومي من الطبيب قبول علاج أحد أعظم وأذكى الفلاسفة الأحياء والذي ستغير أفكاره وجه ألمانيا والعالم، على حد تعبيرها، وهو أستاذ فقه اللغة والفيلسوف فريديريك نيتشه، بشرط ألا يعرف نيتشه أن بروير ينوي علاجه من اليأس والاكتئاب والدوافع الانتحارية، بل يوهمه بمحاولات علاج الصداع النصفي الذي يلازم نيتشه منذ سنوات، فالعلة هنا نفسية ومبرر علاجها جسدي، فلن يقبل كبرياء نيتشه أن يحاول أحد علاجه نفسيًا.
وأمام هذا التحدي يتردد بروير في قبول هذا المريض غريب الأطوار، ولكن خضوعًا لإلحاح سالومي، وتحت سطوة جمالها وافتتانه بها، وبعد أن تعطيه كتابين لنيتشه، يبدأ الموضوع بإثارة اهتمام الطبيب الذي يرى في نيتشه شخصية فريدة تستحق الاهتمام بعد قراءة أجزاء من كتابيه والاطلاع على رسالة الموسيقار الألماني الأشهر ريتشارد فاغنر، والتي يمجد فيها الفيلسوف الألماني المجهول نسبيًا آنذاك.
تتصاعد أحداث الفيلم، ويزور نيتشه عيادة الطبيب بروير لمعالجة صداعه النصفي، وتبدو حوارات الطرفين حادة في البداية، ويحتار الطبيب في علاج مريضه شديد الذكاء والتحفظ، والذي يرفض الخضوع لطبيبه، فيبدأ بروير بتطوير أساليب جديدة للتحليل النفسي، وعبر أحاديثه المنفصلة لاحقًا مع أحد أصدقائه، فرويد، يقرر بروير أن يقدم لنيتشه عرضًا مغريًا مفاده أن يقوم الطبيب بعلاج صداع نيتشه، مقابل أن يعالج نيتشه طبيبه من اليأس وانسداد آفاق الحياة أمامه، وذلك لحفظ ماء وجه وكبرياء نيتشه وإغرائه لتقبل العلاج النفسي المغلف بعلاج الصداع النصفي الذي يعاني منه.
تتحول حيلة الطبيب بروير إلى حقيقة، فالطبيب يعاني اليأس وانسداد آفاق الحياة بصورة لا تختلف عن مريضه، ومن خلال الحوارات الفلسفية والنفسية التي تدور بين الطرفين، يحاولان مساعدة بعضهما لفهم وتفسير الحياة ومكنوناتها، وهذه فرصة رائعة لطرح الأفكار الفلسفية وفلسفة التحليل النفسي حول الإنسان والوجود في قالب سينمائي جذّاب من خلال شخصيات بارزة مثل نيتشه وجوزيف بروير وفرويد، إلا أن الفيلم يفشل في تقديم رؤية فلسفية رصينة أو فيلم تاريخي ممتع.
ويعود تواضع مستوى الفيلم إلى عدة أسباب، أبرزها الأداء الباهت للممثلين، وعلى الرغم من وجود أسماء كبيرة في الفيلم مثل بن كروس وأرماند أسانتي، ورغم أن أداءهم لم يكن سيئًا، فإن حضورهم مع الممثلين الآخرين كان باهتًا، وكأن الشخصيات قد حيكت على عجل، فلم تقدَّم هذه الشخصيات البارزة بصورة تُقنع المشاهد بأهميتهم التاريخية وأهمية تلك الحقبة أو صدق معاناتهم وأزماتهم الوجودية، أو حرارة وصدق الحوارات بينهم، والتي تتناول قضايا إنسانية عميقة وأساسية.
ومن الملاحظات على الفيلم، الاستخدام الرديء للعناصر الموجودة في الرواية، فالرواية تتضمن -إضافة إلى الخط الزمني الرئيس للقصة- عددًا من أحلام اليقظة والأوهام، إضافة إلى الأحلام، واسترجاع ذكريات الماضي، وقد استخدم المخرج هذه العناصر بصورة عشوائية لم تخدم القصة التي يحاول معالجتها، فلم ترتبط هذه العناصر بمسار القصة ولم تضف أي شيء للحبكة الرئيسة ولا الحوارات النفسية والفلسفية الدائرة بين الطرفين، كما أدى التنفيذ الرديء للمؤثرات البصرية إلى ظهور الأحلام والتوهمات والذكريات بشكل كاريكاتوري بدائي، يجعلها مثيرة للسخرية لا نافذة على أفكارٍ أهم وأعمق كما جاء في رواية يالوم والتي تحاول مقاربة فلسفات نيتشه ونشأة التحليل النفسي.
كان من الممكن للفيلم أن يظهر بصورة أكثر رصانة وعمقًا وإمتاعًا لو تجاهل الكاتب والمخرج بنشاس بيري الحبكة السردية الرئيسة في رواية يالوم -أي تجاهل القالب الروائي- وصب تركيزه على الأفكار والنقاشات وحوارات الطبيب -المحلل النفسي- جوزيف بروير والمريض -الفيلسوف- فريدريك نيتشه؛ فالرواية تعطي قابلية كبيرة لإنتاج فيلم من أفلام الموقع الواحد والتي تركز على جودة وعمق الحوار وتبادل الأفكار وتصاعد النقاشات، خاصة مع إغراء تبادل الأدوار المستمر بين الطبيب والمريض؛ فبروير يحاول معالجة صداع نيتشه النصفي من خلال الأدوية، لكنه يحاول من خلال الحوارات أن ينفذ إلى أعماق نيتشه لمعالجته نفسيًا، وبينما تبدو فكرة معالجة نيتشه للطبيب بروير من اليأس مجرد حيلة وطريقة يحفظ بها الطبيب كرامة نيتشه من أوهام الضعف والانكسار، فإنها تتحول إلى واقع وحقيقة، خاصة مع جدية نيتشه الكاملة في علاج طبيبه، فتبادُل الأدوار في الرواية يمكن أن يُعكس إلى عمل سينمائي رائع باستخدام قوالب سينمائية متعددة منها على سبيل المثال فيلم الموقع الواحد والحوارات المكثفة، إلا أن المخرج والكاتب والمنتج بنشاس بيري فشل في القبض على روح رواية يالوم وعمقها، واكتفى بالتعاطي المباشر معها ومع قوالبها دون فهم مغزى الصراع فيها، ما انعكس على جودة الفيلم بصورة عامة.