في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، طرحت إيمان مرسال تساؤلاتٍ عدة حول صورة الأمومة في المتن العام، وإن كانت هوية المرأة تختفي تدريجيًا وراء انضمامها لكيان الأمومة المُوحدّ، أم أن هويتها كأمّ هي انعكاس لهويتها الأشمل كامرأة! إنّ علاقة الأم بأبنائها هي علاقة أعمق بكثير مقارنة بسطحية تناولها في المتن العام، من خلال رسم صورة مثالية واحدة تتسم بالتضحية المطلقة، ويخلق ذلك التصور الخياليّ مشاعر مُتناقضة لدى طرفي العلاقة، ما بين الذنب القاتل لدى الأم التي لم يبقَ لها إلا حياتها لتضحي بها، ورغبتها في أن تجني ثمار ما أنفقته من وقتٍ ومجهودٍ وحياةٍ بأكملها لتنتج النموذج الإنساني الأمثل، وما بين رغبة المراهق الجامحة في أن يكون هو ذاته فيفهمها ويعيشها، وخوفه من أن يفشل في أن يكون الابن النموذج، طاقة الشدّ والجذب تلك، هي المحرك الرئيسي لعلاقة كل من مراهقينا مع أمهاتهم.
كتبت إيمان مرسال: «ما يشغلني هنا هو ليس كيف استقرّت ملامح محددة للأمومة داخل المتن العام، ولكن كيف ننصت إلى ما يخرج عليه ويعارضه، كيف يمكن أن ندرك أن الأمومة الموسومة بالإيثار والتضحية، تنطوي أيضًا على الأنانية وعلى شعور عميق بالذنب؟ كيف يمكن أن نراها في بعض أوجهها صراع وجود، توترًا بين ذاتٍ وأخرى، وخبرة اتصال وانفصال تتمّ في أكثر من عتبة مثل الولادة والفطام والموت».
إنها تساؤلات كافية لإيجاد خطًا متصلاً ما بين أفكار إيمان مرسال عن الأمومة، وتجسيد كل من المخرجين إكزافيير دولان، ومايك مايلز، وجريتا جيرويج لهذا الكيان، ومن هنا نلقي نظرة فاحصة على ملامحِ الأمهات وتصويرهنّ سينمائيًا، من خلال حكاياتٍ ثلاث:
1- «مامي»(Mommy 2014)
هنا يتناول الفيلم حكاية العلاقة المشحونة بين أمٍّ (داي) وابنها المراهق (ستيفن)، معاناة الأم للنجاة بابنها المُصاب باضطراب فرط الحركة هي صلب القصة، بخلفية تنكشف خلال الأحداث والتي لها علاقة بفقدانِ النموذجِ الأبوي. داي، إلي جانب كونها أمًا، هي سيدة وحيدة، خسرت زوجها، ومحاطة بصعوبات مادية مستمرة، وتحارب من أجل الحفاظ على مستوى اجتماعي معين، ما زالت متخبطة في فهم ذاتها، وفي تعريف ما يدور حولها، مندفعة في كثيرٍ من الأحيان ولديها ميل قوي لتدمير الذات.
2- «نساء القرن العشرين» (20th Century Women 2016)
حكاية أخرى لأمٍّ وابنها المراهق (دورثيا) و(جيمي)، علاقة هادئة في تحولاتها وانفعالاتها، يتضمن الفيلم ثيمة أفلام الغرب الأمريكي، المرتبطة بأبطال يشهدون تغيّرات اجتماعية محورية كقيام حضارة. وفي حقبة السبعينيات شهدت الأم تحولات ثقافية محورية، وكأبطال أفلام «الويسترن» تواجه صعوبة في التأقلم، وينعكس ذلك بقوة على فهمها لنجلها وعلى تطور علاقتهما، وتستمر محاولاتها في فهم موسيقى الروك والعالم المتغير حولها. ودورثيا مثلها مثل (داي)، سيدة وحيدة وهادئة، ما زالت تبحث عن الحب ومعانيه، تشهد على تغيّرات ثقافية لا تستطيع مجاراتها، فترفضها على استحياء، تنعم بحياة عملية مستقرة، لكنها تتهرب من شعورها المستمر بالوحدة وفشلها في الحياة العاطفية.
3- «ليدي بيرد» - (Lady Bird 2017)
حكاية ثالثة عن أم وابنتها المراهقة، (ماريان) و(كريستين «ليدي بيرد»)، وهنا تظهر العلاقة معقّدة، وتبدو أكثر النماذج المركبة والحقيقية، ماريان تحاول الوصول بابنتها للنموذج المثالي، وهي سيدة عاملة من الطبقة المتوسطة، مشغولة بالتفاهات اليومية المرهقة، وتتعامل مع اكتئاب زوجها، وتطلعاتها المستقبلية باهتة، صاحبة نبرة حادة وساخرة في كثيرٍ من الأحيان، أما الابنة فهي متمردة لأقصى حد، أكثر نموذج متأثر برغبة المراهقة الجامحة في تحقق الذات، حتى إنها ترفض استخدام اسمًا لم تختره، ونبرتها حادة وساخرة كأمها.
ربما نستطيع بعد هذا الاستعراض السريع، أن نجد في كل نموذج من بين الأمهات الثلاث، شخص يختلف تمامًا عن الآخر في طباعه، وما يشغل كل منهم من حياةٍ لتُعاش، وهو كافٍ لكسر النمط الواحد في تجسيد الأمومة؛ ولكن دعونا نجد في التصوّر المثاليّ للأمومة، ذاك الخط الذي يصل بين كل منهم، دعونا نبدأ مع تلك الصورة في محاولة لتناول بعض من أفكار وخواطر الشاعرة والكاتبة إيمان مرسال عن الأمومة، من خلال الأعمال الثلاثة.
- الذنب:
«يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يُوحد الأمهات على اختلافهنّ، إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوة والحب والعمل والصداقة، هو أيضًا نِتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام، وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية». الذنب لا حدود له، هو مُلازم في كل حين مع كل ممارسة يومية؛ لأن هناك بالتأكيد مَن يضحي بما هو أكثر من ذلك، ولأن التصوّر العام يستحيل تحقيقه، وهو ما يخلق فكرة أنّ الأمومة هي الديناصور الذي يلتهم الباقي، ففرصة أن تتماشى أبعاد الهوية اللامتناهية بموازاة بعضهم البعض تُعدّ مستحيلة، وهو ما يجعل كل من (داي) و(دورثيا) و(ماريان) أمهات فقط، أي، إنه من المستحيل أن تأخذ المشاغل البعيدة عن ممارسة الأمومة ما تحتاجه من اهتمام لكي تتطور، وهو ما يجعل (داي) لا تمتلك أية طريقة أخرى لمواجهة العالم، إلا بعدوانية تشبه عنف ابنها المراهق، كل ما يحوم في رأسها حول الخوف والغضب يُدفن إلى حين إشعار آخر، فـ(داي) -في ظني- لديها مشاكل أبعد بكثير من ابنها، مشاكل ذاتية كاسحة لكنها تختفي وراء كيان الأمومة.
أما (دورثيا) فالفكرة أيضًا موجودة ولكن بحدةٍ أقلّ، فمشاكلها المتعلقة بحياتها العاطفية وشعورها المستمر بالوحدة، ليست بشيءٍ غامض باعترافها، لكنه ثابت هناك لسنين دون أن يتطور لأنها أم، فالذنب الذي تحمله يجعل في ظنها أن التطلع للنموذجِ الأسمى يقتضي ممارسة الرهبنة لخدمة الأمومة.
أما (ماريان) فقد جعلت من الأمر هوية راسخة ومثالية، أمومتها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمثالية ابنتها، وهو ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمدى الذي ستكون فيه أمًا، أمًا فقط.
- الصراع:
إن نشأةَ صراع الأمومة والبنوة -في تصوري- نتيجةٌ حتمية لرهان الأمّ على الأمومة، والأمومة وحدها. لا تريد أن توقن أي من أمهاتنا الثلاث أن هناك لحظة محددة تقتضي ترك زمام الأمور للمستقبل والقدر، ولم توقن أي منهن أن النموذج الطفوليّ لأبنائهم والذي صُنع على أيديهن لن يُخلّد إلى الأبد؛ لأن الأمهات غير مُدركات أن العالم خليق بتغيير أي إنسان، في اللحظة التي يشتبكان فيهما معًا خطوة بخطوة، ولأن صورة الابن هي بالضرورة انعكاس لمدى اتقانها كأم، ولأن ما بُذل من تضحيات يتراكم كشعور تلقائي لا يستطيع أن يرى الابن جاهزًا لمواجهة العالم بمفرده، ربما لأنها لا تؤمن بقدرته، أو لأنها لا ترى لنفسها دورًا أخر.
يبدأ الصراع في اللحظة التي تنشأ فيها رغبة الابن في الانفصال بذاته، ولأن الأم لم تنفصل بذاتها يومًا، تخلق لديها تلك الطاقة، لأن اللحظة التي تدرك فيها الأمهات أن العلاقة بينهما لن تغدو علاقة اعتمادية بعد الآن تشعرهنّ بالخطر، وتجيء تلك الأشباح في صور مختلفة لتنوع النمط ما بين كل أم، فَـ(داي) أخبرت ابنها بأنّ: «الشيء الوحيد الذي سيحدث، هو أنني سأحبك أكثر وأكثر، وأنت ستكون الشخص الذي سيحبني أقل فأقل؛ ولكن الحياة تسير هكذا، ونحن نتفاعل معها، إنّه الترتيب الطبيعي للأشياء، وسوف تفهم ذلك يوم مًا»، أما عن دورثيا فقالت: «إني أعرفه أقل يومًا بعد يوم، لا يمكنني أن أكون هناك، لا يمكنني أن أكون بجواره، يجب أن أترك الأمر»، وفي (ليدي بيرد) يخبر الأبُ (كريستين) عن أمها قائلاً: «لا تعرف كيف تساعدكِ وهذا يحبطها».
- رعب الفطام:
«أغرقي رأسكِ فيّ
اخترقيني..
ولنكن متجاورتين
متشابكتين كثنائية القلب
اِلمسيني..
كما يلمس الإله الطين
فأنتفضَ بشرًا».
كتبت إيمان مرسال عن تلك الأبيات للشاعرة السورية سنية صالح: «لا يوجد غضب ولا عنف في أمومة صالح، لكن هناك أم خائفة من الانفصال، من انجراف الابنة بعيدًا عنها، إنها تطلب من ابنتها أن تخترقها و تغيب بداخلها، أن تقوم بما هو عكس فعل الولادة، فتعود للرحم مرة أخرى».
رعب الفطام هو شبح ينبع من الصراع الأولي؛ ليس لأنه خوف على الابن من مجابهة العالم وحيدًا، فالأمر ليس مماثلاً لخسارة شخص تحبه، أو تكمن صعوبته في لحظة الوداع، ولكن هو أيضًا بشكلٍ ما خوف من العدول عن ممارسة الأمومة بنفس الطريقة، هو بحث متأخر عن الهوية والذات، ربما لأن توقف الابن عن كونه ابنًا يحتم أن تواجه كل أم ما تعمق من أنسجة خيالات وأفكار التهمها الذنب وراء الفكرة الأسمى.
محاولات (داي) المستميتة في العبور بـ(ستيفن) لبر النجاة، هي أيضًا محاولات للعبور بهويتها كأم؛ لأن ما تعمق الآن من مشاعر غضب وفقدان لمعاني ستتضح فيما بعد في لحظة بشكلٍ أقوى، وحينها لن تجد مكانًا آخر لتدفن فيه هذه المشاعر. أما بحث (دورثيا) المستمر عن علاقتها بابنها حين كان طفلاً، هو بحث عن أمومتها في أكثر مراحلها اللامعة، وغضب (ماريان) من كل نسمة حرية تتنفسها (كريستين) ربما يكون انعكاسًا لمخاوفها مما قد تواجهه حين تعود مرة أخرى لتصبح مملوءة بنفس الأشباح بعد مرور تلك المدة. إن في رعبِ الفطام ذنب مشترك؛ ففي النهاية لا تريد أمٌّ أن تكون عائقًا أمام المستقبل، ولا يريد ابن أن يكون خيبة أمل.
إيمان مرسال في كتابها تفتح حوارًا، ودعوة لتناول الأمومة بموضوعية ربما لا تتناسب مع قدسيتها الإنسانية، ولكن في النهاية هناك دائمًا أسئلة لا بد أن تُطرح عن تداعيات التصور المثالي للأمومة، والفكرة ليست معنية بالطرح النسوي لفكرة المرأة الكاتبة أو الفنانة أو العاملة؛ بل هي معنية بالذاتِ الإنسانية، عن خطورة أُحادية تعريفها وتوظيفها، عن تداعيات تعمق المخاوف والخواطر وراء كيان موحد، معنية بدراسة الأمومة والبنوة، ذلك التشابك، وتلك الطاقة، التي أتصورها ربما أبهى بكثير في خصوصيتها وتعدد أنماطها، بدلاً من تطلعاتها المستحيلة للنموذج الأمثل، لأننا وأبطال الأفلام حين تنمو بيننا وبين أمهاتنا تلك الصراعات، فإننا نجد في خصوصية علاقتنا بهم طريقًا للنجاة.