«بين المعزين المتَّشحين بالسواد
ثمة طفل يتأمل ثمرة الكاكي» - كيارستمي
عباس كيارستمي، ذاك الفنان الإيراني الذي تغنَّى بالحياة والبشر، وكشف عن المفاتن التي تزدان بها الطبيعة وتجلو بها الروح الإنسانية، فخلَّد اللحظات الوجدانيَّة كالحبِّ وبراءة الموقف، وأسقى الروح أصفى المعنى وأبلغ الشعر فاتحًا الأبواب نحو الأبدية. سينما عباس كيارستمي سينما تأمُّليَّة ترنو بعينٍ صوفيَّة، تتمعَّن في كنه الوجود وتحتفي بالحياة، نسجتْ خيوطَ عالمها من الضوء الإنساني الصافي وعملت على إعادة إنتاج البراءة وإحياء الجمال وفلسفة الحياة.
«يدرك المرء أن لا شيء هناك غير الحياة وهي تأتي من الضوء. هاهنا، السينما والحياة تندمجان في بعضهما البعض، لأن السينما أيضًا هي مجرد ضوء» - كيارستمي
سينماه لا تهرب من الواقع ولا توثقه، بل تعيد اكتشافه وتشكيله بالشعر، تبحثُ في الصلات بين الواقعي والخيالي، والفني والمقلَّد، فالمواضيع الوجوديَّة كالحياة والموت، واللحظات السامية كالحبِّ وبراءة الموقف، هي أبرز ما تطرقت له هذه السينما، كذلك أعطت مساحةً لعالم الطفولة حيث الحس العفوي والاندفاع المتلهِّف في ممارسة الحياة، وهي لم تدعُنا لتغيير نظرتنا وتحسين علاقتنا بالأطفال فحسب، بل سلَّطت الضوء على أنفسنا وجعلتنا نراجع أفكارنا ومواقفنا تجاه القضايا الأخلاقيَّة والوجوديَّة. إنَّها سينما تعالج أزمة أن يكون الإنسان موجودًا وتشقُّ له طريقًا للعبور خلاله.
نشأ كيارستمي وسط أسرةٍ تحتضن الفن، فوالده كان رسامًا وكان يأملُ أن يرث ابنه هذا الفن. إلا أنَّ كيارستمي لم يجد في نفسه الرغبة - وإن حاول - في أن يجعل من صفحة كراسته المدرسيَّة ومن اللوحة في مقتبل شبابه وسيلةً ينقل بها أحاسيسه التي تتموج في كيانه وشكلًا من أشكال العلاج النفسي كما يصف. هذا الارتباط المبكِّر بالفن حفَّز حس الإبداع وفضول الاكتشاف في خلده، قبل أن تتوسَّع مداركه وتختمر أحاسيسه، وتنضج موهبته ويجد ضالَّته في السينما، ليعيد اكتشاف العالم بعين الكاميرا ويعمل على إعادة تشكيله وتلميعه وزخرفته بالضوء.
بدأ كيارستمي مسيرته المهنيَّة مطلع الستينيَّات من القرن الماضي كمصمِّم غرافيكس واستمر في ذلك قرابة السبعة أعوام. وقد تحدَّث عن هذه التجربة في حياته بأنَّها كانت مفيدة، فقد طورت إمكانياته وصقلت قدراته. وفي عام 1969 التحق بالمعهد الوطني لتنمية الأطفال والمراهقين، وكان فيلم «الخبز والزقاق» (The Bread and Alley - 1970) أول تجاربه السينمائيَّة. وقد شكَّلتْ أفلامه الروائية مع أفلام مخرجين آخرين، على غرار داريوش مهرجوئي وسهراب شهيد ثالث ومسعود كيميايي وبهرام بيضايي، ما عُرِفَ بالموجة الإيرانيَّة الجديدة.
خلال هذه الفترة رصد سلوكيَّات الأطفال والمراهقين بعينٍ وجوديَّة، ولمس وجدانهم وتتبّع جذور الشغف النقي لديهم، وكذلك كشف حجم الهوَّة بين البالغين والمراهقين وصور العجز في فهم الطريقة التي يفكر بها هؤلاء، ففي فيلمه «التجربة» (The Experience - 1973) عرض لنا قصَّةً عابرةً لفتى مراهق يقعُ في غرامِ فتاةٍ ثريَّة، فصور مشاعره المرتبكة وقلة حيلته في التعبير عن ذاته وتأكيدها، لنستشعر مرحلةَ المراهقة حين يختلُّ المسار الوجودي في الذهن الحالم، ونتفهَّم طبيعة مشاعره ومواقفه حين يعرض نفسه كخادمٍ في منزل معشوقته. أما في فيلم «المسافر» (The Traveler - 1974) فصوَّر النظرة الحرَّة للأطفال التي يرون بها الوجود والمَواطن التي ينتصرون فيها للحياة بداخلهم ويبذلون لأجلها أغلى التضحيات، وذلك في شخصيَّة قاسم (حسن درابي)، الفتى الريفي اليافع والشغوف بكرة القدم الذي تملَّكته رغبةٌ مجنونةٌ لمشاهدة مباراة كرة قدمٍ لمنتخب بلاده في طهران بعد أن قرأ إعلانًا في جريدة، إلا أنَّه لا يملك سعر التذكرة، ممَّا يدفعه للُّجوء إلى العديد من الوسائل غير المشروعة، كالسرقة والاحتيال، للحصول على ثمن التذكرة، ويسافر في رحلةٍ وجوديَّةٍ مفعمةٍ بالمعنى نحو العاصمة. عادةً ما يضعنا كيارستمي في مفترق طرقٍ حيث يستوي الوجودي والعدمي، وتصبحُ كلُّ النظم والقوانين العقليَّة لا قيمة لها باستثناء اللحظات الوجدانيَّة التي نستطيع فيها أن نحلم ونمارس الحياة، فقاسم والفتى المراهق نماذج نقية لتصور كيارستمي الوجودي.
غالبًا ما تحتفي سينما كارستمي بالطبيعة والحياة المتقشِّفة، وبرصد الممارسات اليوميَّة والمواقف الحياتيَّة للبشر، فيسرد من خلالها القصص المفقودة والحكايا المدفونة، والتي تسلِّطُ الضوءَ على الوجوه الضائعة والأسماء المنسيَّة. ومع كلِّ رحلة تمضي بها كاميرا كيارستمي، تستحثُّنا عديد الأسئلة الذاتية والوجودية ولا تقفُ عند النظرة أو الطبقة الأوليَّة لموضوع الفيلم، بل تحفِّزُ آفاق الحسِّ الاستدراكي لدينا، ففي ثلاثيَّة «كوكر»، المكوَّنة من الأفلام «أين يقع منزل صديقي؟» (Where Is the Friend's House? - 1987) و«الحياة ولا شيء سواها» (And Life Goes On - 1992) وكذلك «بين أشجار الزيتون» (Through the Olive Trees - 1994)، يقدِّمُ كيارستمي قصائدَ تأمليَّةً عن البشر واللحظات الوجدانيَّة الخالدة، وذلك بحبكةٍ بسيطةٍ وكادرٍ متقشِّفٍ أشبع صورَه غزارةَ المعنى، فالإحساس بالمسؤولية لدى أحمد (بابك أحمد بور)، في فيلم «أين يقع منزل صديقي؟»، لإرجاع كرَّاسة زميله بعد أن وجدها في حقيبته مصادفة، مدعاةٌ للتأمُّل حيث يدفعه ضميره بأن يواجه المتاعب والعقبات ويجول في رحلةٍ بين القرى كي يجد منزل صديقه محمد رضا نعمت زاده (أحمد أحمد بور) الذي هدَّده المعلم بالفصل بحال لم يلتزم بواجباته. ينتقي كيارستمي مادته من اللحظات الوجدانيَّة التي يتحرَّر فيها العود الوجودي وينحت منها في الذاكرة الشعرية للزمن، فالإصرار البطولي لدى أحمد لإرجاع كرَّاسة زميله، والعاطفة الأفلاطونيَّة العنيدة التي تجيش في وجدان حسين (حسين رضائي) تجاه طاهرة (طاهرة لدنيان) في «بين أشجار الزيتون»، من خلال رحلة البحث بين القرى والتلال عن منزل الصديق، أو مسافةِ السعي للوصول لقلب طاهرة وما يواجهه الأبطال من منغِّصات وعراقيل استخدمها كيارستمي أدلةً ليبرهن بها على سحر الحياة وتشبث الروح بها، الحياة التي تستمرُّ بأتراحنا وأفراحنا، بنا أو بغيرنا، والتي لا نملك سوى أن نتقبَّلها ونستمتع بلذَّاتها، وذاك هو الفن.
«السينما تبدأ عند دي دبليو غريفيت، وتنتهي عند عباس كيارستمي» - جان لوك غودار
شخصياتُ كيارستمي شخصيَّاتٌ شغوفة، منهمِكَة بالحياة، ومستعدَّةٌ للتضحية دون مراعاة العواقب، فهي تحيا وتسعى بشغفٍ لتأكيد ذاتها. في فيلم «كلوز أب» (Close-Up - 1990)، يقدم كيارستمي صورة مقربة عن الشاب حسين سابزيان، المسجون بتهمة النصبِ والاحتيال وانتحال شخصية المخرج محسن مخملباف، لتقترب الكاميرا من روحه وتبحث عن الأسباب والدوافع، لنكتشف أن سابزيان هو الشغوف الذي اغترف من مشارب الضوء وسقى وردة الحياة، وهو الطفل الذي تأمَّل ثمرة الكاكي وحاول أن يقطفها بين سرب المعزِّين، لتصبح الأدلة التي تدينه شواهد إثبات على بساطة روحه وندرتها. وحين يسأله كيارستمي في أوَّل لقاءٍ عن شيء يريد أن يقوله، يجيب سابزيان: «أخبر السيد مخملباف أن فيلمه "الدراجة" جزء مني»، إنه فيلم عن أثر الفن والشغف السينمائي بل يتعدى ذلك إلى كونه فيلم عن الروح والحياة.
تعمل أفلام كيارستمي على إعادة تشكيل العالم في أذهاننا وإعطائنا مفاهيم ورؤى جديدة تساعدنا على العيش والتلذذ بالوجود، وهو حين يتحدث عن الموت إنما يحاول إظهار الوجه الآخر من العملة، ففي فيلم «طعم الكرز» (Taste of Cherry - 1997)، وهو فيلمٌ حواريٌّ غنيٌّ بالتساؤلات الفلسفية حول الحياة والموت، يتحدَّث عن بديع (همايون إرشادي) الذي يبحث عن شخصٍ يدفنه بعد انتحاره، إلى أن يجد شيخًا طاعنًا في السن يحدثه عن تجربته نفسها، وكيف أنَّه حاول الانتحار بربطِ حبلٍ حول غصن شجرة التوت، إلا أنَّ طعم ثمرة التوت غيَّرت مسار أفكاره وجعلته يعدل عن قراره. بالتالي فإنَّ المسألة كما يخبره ليست في ثمرة التوت، بل في الطريقة التى نرى بها الحياة والتصوُّرات التي نحملها في أذهاننا. وفي فيلم «ستحملنا الريح» (The Wind Will Carry Us - 1999) الذي يحمل اسم قصيدةٍ للشاعرة الإيرانيَّة فروغ فرخزاد، ينزلُ مصوِّرٌ إلى قريةٍ ريفيَّةٍ من أجل توثيقِ الطقوس الجنائزيَّة لعجوزٍ تحتضر، إلا أنَّه ينشغلُ بتفاصيل المكان وشخوصه ورصد يومياتهم، فتتحوَّل رحلته إلى رحلةٍ تأمُّليةٍ واستدراكيَّةٍ للحياة.
أحسَّ كيارستمي بالغربة الإنسانيَّة، ووقف على حافَّة العدم متأمِّلًا شريط الضوء العابر على صفحة العين، استدرك قِصَر الزمن وزواله وشعر بالتحرُّر من كلِّ ثقلٍ وجودي، فاندفع بلهفةِ طفل وجموحِ ثملٍ يترنَّم بالحياة، فنراه يتسلَّق راغبًا في خطفِ بيضةٍ من عش النور، أو نيل قضمةٍ من ثمرة التوت، ليمضي إلى الأبديَّة وقد أثمله الزمن، محمولًا بالرياح ورباعيَّات الخيَّام وقصائد سهراب سبهري، حيث سيجد منزل الصديق - منزله - ويقول له:
«انشقْ عبير العيش في فجره
فليس يزهو الورد بعد الذبول».
الهوامش:
- أمين صالح، عباس كيارستمي: سينما مطرزة بالبراءة، المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، بيروت 2011
- فجر يعقوب، عباس كيارستمي: فاكهة السينما الممنوعة، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق 2002
- كانت تحلق فوق فوهة بركان - قصائد لعبَّاس كيارستمي (ترجمة وتقديم محمَّد الأمين الكرخي)، ضفَّة ثالثة، 14 يوليو 2017