إيران .. النساء وخيوط العنكبوت القاتل

March 8, 2023

عندما طُرِحت علي فكرة كتابة هذه المراجعة السينمائية -وحين أقول "طُرِحت" القصد منها محادثة طويلة مع صديق اقترح علي كتابتها وتحت الحماس وافقت، لأجعله ينتظر وينتظر. كعادتي بدأت بتتبع كل شيء يخص الفيلم والمحيط الذي سينشر فيه هذا النص، الذي إن جاز لي تسميته "مقالا". فوقعت يديّ على اقتباسٍ يقول: 

«عندما أكتب عن الأفلام فإنّي أنتقي الأفلام التي أحبّها. وقلت هذا مرارًا: النقد، في رأيي، فعل حبّ. من العبث، ومن غير المجدي، الكتابة عن نصٍّ أو فيلم تكرهه. هذا لن يفيد أحدًا.  أمين صالح - السينما قصيدة». 

حينها فقط واجهت نفسي بهذا السؤال: هل أعجبني الفيلم؟ ما الذي أعجبني فيه؟ ما الذي أغضبني؟ لأنني أتذكر تمامًا أن ردة فعلي الأولية كانت الغضب، كنت منزعجة وربما مضطربة. في نقاشي مع صديقي لم أذكر أنه أعجبني بقدر ما كررت بأنه استفزني، وكنت أُرجّح بأن سبب غضبي هو المحتوى العنيف ضد النساء، لكن بعد المشاهدة الثانية أصبحت الرؤية أوضح وربما وقتها كنت أرتدي قبعة الناقد فكانت الزاوية التي أشاهد منها الفيلم مختلفة عن زاوية المشاهدة الأولى والانغماس الأول.

تقع أحداث الفيلم ما بين يونيو 2000 إلى يونيو 2001 في مدينة مشهد المقدسة في إيران. من جهة، سعيد عامل البناء المتواضع الذي يأخذ على عاتقه "واجب" تطهير المدينة المقدسة وأطراف الضريح الرضويّ الشريف. ومن جهة أخرى، الضحايا، المتمثلون في أول شخصية نراها: امرأة عارية الصدر تدخن لا مبالية أثناء تجفيف شعرها، وآثار الكدمات واضحة على ظهرها وذراعيها. والثالوث المقدس تكمله الصحفية آنسة رحيمي التي وجهت الضغط الإعلامي على الحكومة والشرطة لاستنكارها واستغرابها استمرارية القتل وغياب قدرة -أو رغبة- المسؤولين على الوصول للمجرم. يتتبع سعيد النسوة «غير الشريفات» اللاتي يدنسن الأرض التي ارتوت بدماء الشهداء في الحرب ومن قبلها الثورة، ويقتلهن… بكل برود يقتلهن بأحجبتهن. لقد نجح علي عباسي في  «العنكبوت المقدس» باختيار الثيمة العامة للفيلم، ووقتِ إصداره في ظل الظروف الحالية التي تعيشها إيران مع الثورة على النظام على خلفية مقتل «مهسا أميني» على أيدي الباساج أو الشرطة الدينية في طهران لسبب تافه هو أنها لم ترتدي الحجاب بشكل لائق يرضي المتطرفين.

لم يكن عباسي أول من تناول قضية سعيد هنائي فهناك فيلم وثائقي اسمه And Along Came A Spider يوثق مقابلات مع المجرم، عائلته وزملائه والقاضي المسؤول عن القضية -أنصح بمشاهدته-. ولو ظن أحدكم أن مشاهدة هذه القصة كفيلم سينمائي تسبب اضطراباً واستفزازاً، فإن مشاهدتها كوثائقي أكثر إزعاجاً ورعباً. 

سعيد هنائي… العنكبوت القاتل

«سأقضي عليهنّ واحد تلو الأخرى. لن أتوقف.»

هل ننظر له كبطل للحرب العراقية الإيرانية أم كمجرم؟ هل نراه الرجل المتطرّف الذي اتخذ القتل وسيلة لعبادة الله أم نراجع أنفسنا ولا نتجاهل رغبته الجنسية في هؤلاء العاهرات والتي لمحتها الآنسة رحيمي وأكدتها تقارير الشرطة بعد القبض عليه؟ هل علينا أن نضع في الحسبان نظرته لنفسه بالشفقة لأنه لم يصِر شهيدًا ولم يعد رفاتًا لأمه من أرض القتال، أم علينا أن نمعن النظر في ثقته العالية بذاته التي أظهرها في جلسات المحاكمة كما لو نصّب نفسه وليًا لله يعود له الحق في سلب حيوات تلكم النسوة؟ شخصية مثل سعيد كان لا بد لها أن تكون معقدة وصعبة، فهي وليدة الكثير من العوامل المتداخلة وتمثّل باضطرابها وعنفها وعاطفتها وجهًا من أوجه مجتمع ما بعد الحرب والثورة الإيراني، ولهذا هي شخصية تستحق أن تدرس ويكتب عنها. 

حين أقنع سعيد أول ضحية بالذهاب معه لمنزله، نراها مرهقة، آثار الضعف والإدمان واضحة وجلية عليها، كأنه اختار الحمل الأضعف بين القطيع حتى لا يقاومه، وعلى درج العمارة من خلفها يمسك بأطراف حجابها ويشده، وفي دقائق تموت بين يديه ويربطها خلف ظهره وعلى الدراجة النارية ويرميها في أقرب أرض مهجورة. تزداد ثقته بنفسه بعد الضحيةِ التاسعة وتمددِ شهرته في الإعلام، فيشتري الصحيفة التي تحمل لقبه في صفحتها وكأنها وسام يتوشّح به، ويبدي ابتسامات مسروقة حين ينصت لمن يسانده ويؤمّن على أفعاله وكأنها أوامر إلهية. نستطيع أن نرى ولو بشكل بطيء جدًا كيف تزداد ثقته وينمو عنده جنون العظمة. 

يُستقبل بعد القبض عليه بالتهليل والتصفيق، تتسع ابتسامته مع كل صوت من خارج السجن، ثقته بأن النظام سيقف في صفه عمياء؛ كونه لم يرتكب جريمة لأنه لا يرى أن دماء هؤلاء الضحايا دماء حرام كما يمكن أن نشاهد في الوثائقي، والمسألة هنا تتجاوز بعدها الشخصي لتصل إلى الدولة، حيث أن سريان الحدود الدينية فيها -حسب الفتوى- لا يقتصر على المحاكم النظامية فقط، بل كذلك الحكم المجتمعي يوضع في الاعتبار. وهذا ما كان يستمدّ منه سعيد بطريقة أو بأخرى شرعية لأفعاله. هذا القانون مضحك جدًا، وهو يسمح بتحول البلد إلى غابة يقتل القوي فيها الضعيف. وفي حالة سعيد، إهمال الشرطة والنظام للتحقيق الجاد للقبض عليه هو ما سمح له بأن يتمادى، حتى وقعوا تحت مقصلة الإعلام والتفاعل المجتمعي في طهران التي تعتبر متمدّنة أكثر من مشهد المتطرفة دينيًا إلى حد ما.

في الفيلم نشاهد القاضي الذي سيتولى ملف القضية يقول: «الفتوى وجهة نظر فقهية وليست دستورًا»، فهل نعتبر ما استند إليه سعيد في أفعاله فتوى أم دستورا؟ وهل اختلاف آراء الشيوخ يضع المرء في حيرة اتبّاع واجتهاد شخصي، أم يضعنا في موقف المرء الذي يتبع ديناً لا يستطيع فيه الفقهاء أن يتفقوا على حرمة الدماء كما جاء في القرآن الكريم!  

يقف سعيد في المحكمة للمرة الأخيرة، بعد أن تغذى على ضحكات الناس ومساندتهم له كأي مشهور، ليقر أمام المحكمة بمرافعة محاميه الذي حاول إثبات عدم سلامة صحته العقلية والنفسية، ويقف فاردًا صدره مملوءًا بنفسه: «باسم رب الشهداء والصديقين… أنا مجنون. مجنون بالإمام الثامن. مجنون بالإمام الرضا. مجنون باقتلاع جذور الفساد… إذا كان وفاء المرء بواجبه يعني أن يكون مجنونًا فأنا مجنون. أريد أن أنظف العالم من الرذيلة. ما الخطأ في هذا الجنون؟ مجنون بالله. مجنون بالله». لم يبد عليه الخوف أو فقدان الأمل بالنظام حتى بعد إصدار حكم الإعدام عليه، كان يمشي كمن تحمله أصوات مسانديه، بثقة العارف بالنجاة، لكن الخوف تسلل عليه بعد أن أيقن ألا مساندة قادمة ولا معجزة إلهية ولا حتى دعاء قادر على أن ينجيه من مصيره المحتوم، الرعب يدب في جسده وهو يُجرّ إلى نهايته. وكان ندمه الوحيد أنه لم يستطع "إكمال" واجبه والقضاء على كل نساء الليل.

الضحايا… قتلهن المجتمع قبل أن تصل إليهن أيدي العنكبوت:

كما أسلفنا سابقًا أن معظمهن يتشاركن ذات الإرهاق، التعب، الإدمان، والحمل الثقيل الملقى على عاتقهن لرعاية أسرة أو حماية طفل. تهمس إحداهن بينما تُخنَق بحجابها «لديّ طفلة»، كعذر لممارستها هذا الفعل وكحبل نجاة أخير أو وتر تعزف عليه لإثارة ولو شيء من إنسانية سعيد، لكن لا قلب لمن تنادي.  لقد حكم سعيد والمجتمع عليهن بالنجاسة دون النظر أبدًا إلى السبب الذي جعلهن ينخرطن في مهنة كهذه، ذكرتْ إحدى نساء الليل في الوثائقي بأنها تزوجت في الرابعة عشرة وزوجها من أرغمها على هذا العمل كمدخول إضافي للبيت، وتزيد بأنها تتمنى لو تُشخّص بمرض مميت كي لا تعود لهذا العمل، لكن طالما أن أعضاءها سليمة فزوجها سيدفعها للشوارع كل ليلة. تتمنى الموت في مجتمع مستعد لأن يدافع عن قاتلها بكل بساطة. 

هذه مواقف تجعل الإنسان يخجل من إنسانيته ويتساءل عن ماهية العالم الذي نعيشه وأين تغيب القوانين أمام العدوان وانعدام الأمن الذي يمارسه القوي على الضعيف وفي أحيان كثيرة الرجل على المرأة؟ هل يحق لي أن أطلق لنسويّتي العنان هنا وأن أعتبر أن هذه جرائم جندرية موجهة، فإذا ما سلّمنا أن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج محرم وجريمة يعاقب عليها القانون فلماذا ينزل العقاب على المرأة فقط؟ تذكر إحدى النساء في الوثائقي بأنها تعرضت للضرب والحبس عدة مرات لشهور لأنها قبلت أن تذهب مع شرطي لمنزله! فأين العدل إذا كان من يطبقه هو الجاني؟ كيف تشعر تلك النسوة وغيرهن بالأمان في بلد يراها دماءً مهدورة، ولو شعرة خرجت من حجابك ستموتين! لم أمنع نفسي من رؤية السخرية الفجّة في ظل إرغام النساء على لبس الحجاب وشعور النساء بأن هذا الحجاب يمحي شخصياتهن، يقنن حرياتهن، يخنق حياتهن، فإن بعض الرجال المرضى ينظرون له كوسيلة حرفيًا لخنق النساء -كما فعل سعيد- وليس فقط مجازًا.

بعد مقتل مهسا أميني خرجت النسوة في الشوارع يرفضن كل الذي يحدث، يرفضن النظام الديني، يرفضن غياب العدالة المدنية، يرفضن بأن تحدد هذه القطعة القماشية شرفهن من عدمه، يرفضن أن تكون للرجال سلطة فيما لا يخصهم، وهذه الحرب تعيش في قلب الكثير من الفتيات والنسوة في بلاد كثيرة، كيف للنساء أن تفرض عليهنّ قوانين لم يشاركن في صياغتها ويعاقبن إن لم يتبعنها؟

الآنسة رحيمي… الحارسة في حقل القداسة المشوّه:

«أنا لا أثق بالشرطة.»

رحيمي امرأة قبل أن تكون صحفية، إنسانة قبل أن تكون صحفية. هي شخصية فاقدة لكل إيمان بالشرطة أو النظام من خلفها، لدرجة أنها مستعدة للتضحية بنفسها لكي تحقق العدالة. قصتها بطريقة أو بأخرى تتقاطع مع قصص الضحايا، لذا فهي تفهمهنّ جيّداً، وهي التي تعرّضت لعنف جندري وإقالة من عملها لأنها قررت فضح مديرها الذي فرض نفسه عليها عنوة. هذا قبل أن تبدأ بمواجهة الشرطة والنظام المتمثلين في الضابط المسؤول عن القضية. بنظراته لها وأسلوب معاملته معها، والذي يوحي بأنه لا يأخذها وعملها على محمل الجد، وكأنه ينظر لطفلة تتصنّع لعب دور الطبيب، يجاريها حتى يصل لمراده. فكيف لرجل مثله أن يكون مراده غير أن يفرض نفسه هو الآخر عليها وحين ترفضه وتبعده وتطرده خارج غرفتها يرفض مجاراتها؟! وكيف لنظام كامل ألا يتحرك أمام «ظل عنكبوت قاتل يمد خيوطه فوق مشهد».  وهذا ما عنونت به الآنسة رحيمي مقالها، الذي جرّت به الاهتمام وتسوّلت به العدل من قادة هي نفسها كانت متأكدة بأنهم لن يعاونونها، لأن العنكبوت في نظرهم «ينظف لهم المدينة» ويقوم بعمل هم، كجزء من النظام، لا يستطيعون القيام به لسبب أو لآخر. 

في الوثائقي لم يكن لرحيمي وجود، وكان القبض على الجاني اجتهادًا من الشرطة بعد أن وقعوا تحت ضغط مجتمعي إعلامي، وهنا يراودني السؤال: هل اختراع شخصية مثل الآنسة رحيمي كان موفقًا كي نرى وجه التضامن النسوي متجليًا، أم هي مجرد وجه إضافي من حجر النرد كي نرى الجندرية والمشاكل من وجهة نظر مختلفة؟ رحيمي لم تتراجع دقيقة واحدة، كانت كأي شخصية إعلامية تلهث وراء الحقيقة وتسعى لكشفها، استخدمت كل ما وقعت عليه يداها لتصل للعدل، حتى إنها ألقت بنفسها أمام القاتل، فإلى أي درجة يجب على النساء أن يضحين بأنفسهن كي يحصلن على جزء من الحقيقة والعدل؟ هل سنصبح كلنا الآنسة رحيمي أو مهسا أميني؟ 

بشاعة الرواية وقسوة الحكاية:

مع كل هذه البشاعة والمناظر التي تدمي القلب في الفيلم السينمائي والوثائقي. نرى انعدام الإنسانية والتطرّف الديني الذي طفح على الأرض كلها في ابن القاتل "علي" وهو يشرح بتفاصيل مملة -رواها له والده- كيفية قتل النساء ومدى ضعفهن فبضربة واحدة يفقدن وعيهن أو مع استمرارية شد الحجاب يخنق الحياة منهن «في أقل من ساعتين كان يقضي على امرأة فاسقة»، نراه كيف يستعين بأخته الصغيرة ويمثّل مشهد قتل مروّع وهو يصدح بفخر: «إن جميع سكان المنطقة يرشحونه خليفة لأبيه». بحثت فيما بعد عن الطفل عليّ، لربما لأتأكد أنه أكمل دراسته وعاش حياته ولأطمئّن أن الجريمة لا تنتقل جينيًا وتتوارثها الأجيال، ولأسلّي نفسي بأن الحياة بإمكانها أن تضفي على القسوة لطفا، لكنّي لم أجد شيئًا.

في الوثائقي نرى طفلة إحدى النسوة المغدورات بابتسامة موجوعة تقول: "سأكبر لأصبح صحفية، لأكتب عن أمي، كونها أمي فقط". 

تكبر شابات إيران الآن وهن يصرخن للحرية والحياة والنساء، يشاركهن شباب إيران، يساندوهن ولا يسرقون الضوء منهنّ، إنها ثورة النساء، إنها خروج على الظالم، إنها صرخة للرقص في الحارات، والتقبيل بدون خوف، صرخة في وجه العقول البالية. للوجوه الباسمة والشعارات التي لا تبلى وكل من لا نذكرهم ويذكروننا، صرخة للنساء، للحياة، لتحيا النساء في حرية.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى