بعد مرور أكثر من عشرة أعوام على إنتاج فيلم «وجدة» للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، بتكلفة إنتاجية بلغت أربعة ملايين دولار في ذلك الوقت (2012)، والذهاب بالفيلم إلى مهرجانات سينمائية عديدة، من بينها مهرجان فينيسيا الدولي، ومهرجان لندن السينمائي، كما وافقت أكاديمية العلوم والفنون الأمريكية (أوسكار) على دخوله ضمن الترشيحات الأولية لجائزة أوسكار عام 2013، وحصد الفيلم لعدة اعتبارات تاريخية، منها أول فيلم روائي طويل لمخرجة سعودية، وأول فيلم روائي طويل يتم تصويره بالكامل داخل المملكة العربية السعودية، وطبعًا أول فيلم سعودي يترشح للأوسكار، وأمور أخرى لا يهدف المقال إلى إحصائها، يظل هناك سؤال مؤرق، أين ذهب فيلم «وجدة»؟ بل أين يمكن أن تذهب الأفلام من هذه الفئة، التي تهتم بالموضوعات الفكرية والاجتماعية الضاغطة، لا الأمور الفنية التي تحتفظ للأعمال السينمائية بالديمومة، هذه الفئة من الأفلام التي ما زالت تُنتج -محليًا- حتى اليوم؟
كل الظروف لصناعة فيلم عظيم فنيًا كانت متاحة لهيفاء المنصور في ذلك الوقت، ظروف يمكن اعتبارها صعبة اليوم، لكن المخرجة الرائدة أهدرتها من أجل قضايا فكرية واجتماعية كانت ستُحلّ بطبيعتها، أو بطبيعة التحولات المتلاحقة، اجتماعيًا وسياسيًا، لأن تلك الموضوعات كانت عبارة عن أوراق لعب، تحترق فعاليتها مع مرور الزمن، وأي متابع للشأن العام كان بإمكانه توقع ذلك.
أما بالنسبة إلى العمل الفني، فبقاؤه في الذاكرة مرهون بفنيته، وقيمته الجمالية، ولم يكن من الصعب على هيفاء المنصور توقع أو معرفة ذلك، لكنها فضلت أن تضحي بوجودها الفني، مقابل تحقيق دورها بوصفها ناشطة حقوقية في قضايا المرأة، وهذا تحديدًا ما تنبّه إليه الناقد طامي السميري في حينها، عندما ذكر في مقالة له نُشرت في جريدة الرياض في عددها الـ16539 الصادر في الخامس من أكتوبر لعام 2013، عن الفيلم: «ما يميز أي فيلم سينمائي هي رؤية المخرج السينمائية للموضوع الذي يقدمه في فيلمه. وهيفاء المنصور تبدو كمخرجة سعودية مثقلة بالحالة السلبية تجاه المرأة السعودية في المجتمع، لذا تحاول أن تطرح هموم ومشاكل المرأة السعودية سينمائيًا، لكنها من فرط حماسها وتعلقها بالهم النسائي قد يذهب بها هذا الحماس إلى أن تكون ناشطة سينمائية أكثر من أن تكون مخرجة سينمائية».
لا ينكر أحدٌ قوة ولا قدرة السينما على التأثير في شتى القضايا الإنسانية، بل إن النظريات الفيلمية الكبرى كثيرًا ما كانت تنطلق من تصوراتها لتلك القضايا، وقضية المرأة من أكثرها أهمية دون شك. الفرق الجوهري هو طريقة تقديم الفكرة أو الموضوع أو القضية فنيًا، وهذا ما يذهب إليه اثنان من سادة التنظير السردي، هما روبير بينجي، الذي يقول: «ما يُقال لا أهمية له، الذي يُهم هو طريقة القول»، وكلود سيمون، الذي أثبت ذلك حينما قال: «إن الفكرة لا وجود لها إلا بفضل شكلها»، فلو أن هيفاء المنصور اهتمت بالإضافة للموضوع بالقيمة الفنية والجمالية، كنا سنجد فيلمها حاضرًا حتى هذه اللحظة، وكان سيؤسس -بالإضافة إلى مكتسباته سابقة الذكر- لوجودٍ فني وقيمي على مستوى الصناعة السينمائية في السعودية، وكان سيمثل مرحلة جديدة بالفعل للوجود السينمائي الذي يذوب وينصهر في الضمير الجمعي، الذي يتسبب في حفظ الفيلم في ذاكرة الصناعة، لا في دراسة إحصائية تهتم بالأرقام والتواريخ. لقد أهدرت هيفاء المنصور إمكانية أن نقول: «خرجت السينما الروائية السعودية من عباءة "وجدة"»، كما خرجت السينما الإيرانية -على سبيل المثال- من ضرع فيلم «البقرة» للمخرج داريوش مهرجويي عام 1969.
لعل السؤال المنطقي الآن: ما الذي سقط فنيًا من هيفاء المنصور في فيلمها «وجدة»؟ في البداية يمكن أن نحيل إلى مشكلة المبالغة في الحكاية، هذه المشكلة التي كان سببها في اعتقادي ارتكازها على القضية الفكرية، لا على البُعد الإنساني، ما جعل الحكاية تتجه إلى محاولة القبض على جميع الموضوعات التي كانت تؤرق المرأة السعودية حينها، من قيادة السيارة، إلى الضغط عليها باسم الدين، إلى العادات الاجتماعية المجحفة، وهذا الحصر ليس من وظائف الفن، الذي يعتمد على التلميح والتركيز على التفاصيل الصغيرة، فالفن ليس أداة فكرية بالدرجة الأولى، وليس منصة للخطابة والتوجيه الاجتماعي أو الإرشادي.
ومشكلة الحكاية سحبت إليها مشكلات أخرى، من ضمنها محاولة تبرير الأحداث غير المنطقية، وربطها بقضايا أخرى قد يكون لها بالفعل أبعاد تخدم فكرة التأملات الفكرية في موضوع المرأة السعودية، لكنها لا تخدم الأمور الفنية التي من خلالها يكتسب الجنس الفني استحقاقه، فلا يمكن على سبيل المثال قبول إسقاط موضوع زواج القاصرات وزجه بوصفه كحدث عابر في الحكاية الأصلية للفيلم، كنوع من التبرير لأحداث أخرى متعلقة بمشكلة الفيلم، فالفيلم يناقش استحقاق فتاة في العاشرة من عمرها، اسمها وجدة، في اقتناء دراجة هوائية، كنوع من الرمزية لموضوع قيادة السيارة، ثم يمر عبر مشاهد الفيلم موقف لفتاة في صفها المدرسي نفسه، تُري زميلاتها صور زوجها، وأي متأمل لهذه اللقطة الصغيرة سيرتبك حتمًا ويتساءل حول أولوية التعاطف مع الحالتين، فالطبيعي أن نستدل بالأكثر بشاعة على الأبشع، في حين أن الذي حصل في هذه اللقطة عكس ذلك، وقس على ذلك أمورًا أخرى مشابهة، من ذهاب وجدة وحدها إلى سكن العمال، إلى سكوت أمها عن بعض الأمور البديهية في الحفاظ على سلامة ابنتها، والتركيز في المقابل على موضوع غياب اسم ابنتها عن شجرة العائلة، تبريرًا لفكرة زواج أبيها من امرأة ثانية، بحثًا عن إنجاب الولد.
وإذا كان هناك ما سيبقى لفيلم «وجدة» فنيًا، والذي سيجعله علامة فارقة في السينما السعودية في المستقبل، فهو بعض المَشاهد العبقرية، ذات التعبير السينمائي البصري، والأصيل في الفيلم، مثل مشهد أرجل الفتيات في الطابور الصباحي، وتعابير وجه الممثلة البارعة رغم حداثة سنها، والتي لعبت دور وجدة في الفيلم، الطفلة وعد محمد، وكذلك الصورة الفنية العظيمة التي أعتقد أنها ستبقى في ذهن كل من يشاهد الفيلم مهما مر الزمن عليه، وهي صورة الدراجة الهوائية أثناء مرورها من فوق السور، وهي محملة فوق سيارة تحميل الألعاب، والتي خطفت لبّ بطلة الفيلم وجدة، ولبَّنا بوصفنا مشاهدين للفيلم السينمائي، فقد بدا من خلالها كأن الدراجة الهوائية تسير في حلم الطفلة أثناء طيرانها، والأجمل من ذلك هو انسيابية الصورة مع مضمون وفكرة الفيلم. هنا أتساءل، ماذا لو كان المستوى البصري للفيلم في جميع لقطاته أو معظمها على الأقل على هذه الدرجة من جمال الصورة السينمائية؟ كان الفيلم حتمًا سيحجز مكانه في ذاكرة السينما السعودية، لا في ذاكرة تاريخها.
أود أخيرًا أن أذكّر بأن محتوى المقال وإن كان يتحدث عن فيلم «وجدة»، فإنني قصدت به الإشارة والسؤال عن مدى وعي صنَّاع السينما السعودية من الشباب اليوم بأهمية الانتباه إلى هذا النوع من السينما، التي أعتبرها تنتمي إلى سينما الكاميرا القلمية، التي ترتكز على الصراع الفكري الدائر على صفحات كتاب الرأي، وعن مغبة استعمال السينما في مثل هذا النوع من الصراعات، فالسينما في النهاية فن تعبيري يمكنه أن يحمل أي مدلولات، فكرية أو فلسفية أو سياسية أو اجتماعية، وهذا طبيعي جدًا، ولكن تظل العبرة في طريقة التناول الفني لأي موضوع منها، أو لها جميعًا في عمل واحد إن أمكن ذلك، بشرط أن يكون الهدف تقديم القيمة السينمائية فنيًا وجماليًا، وعدم التضحية بهذه القيمة مهما كانت المكاسب الأخرى.