لم تكن حقول الآداب والفنون في يوم من الأيام خاوية من الرسائل المضامينية والمعاني الدلالية، فهي وإنَّ بدت في ظاهرها شكلًا من أشكال التسلية والمتعة، إلا أنَّها لم تخرج كمنتجٍ نهائي دون أن تتشبع من الحكايات والسير والأحداث والنوازل العظام. إنَّ "الشاشة الكبيرة" التي لم تكن يومًا كبيرة في حجمها فقط، بل لها دور كبير في رفدك بحصيلةٍ معرفيةٍ قادرة على توسيع رؤيتك للعالم بآفاقٍ لا حدود لها، فكلّ شيء أمامك يتحدث ويتحرك، مستهدفًا في ذلك مشاعرك وذاكرتك بشكل مباشر، فأنت حينها أمام الحياة/الحقيقة وجهًا لوجه. لذلك فإنَّ السينما هي إحدى الأدوات التي تساهم في تشكُّل رؤيتك حول ذاتك والعالم من حولك.
لماذا «أوبنهايمر»؟
تكمن أهمية فيلم «أوبنهايمر» (Oppenheimer - 2023) بأنَّه مادة تاريخية فريدة من نوعها، سمتها الأساسية إظهار وحشية المركزية الغربية في قالب درامي مشوق. وعلى الرغم من أن التركيز كان منصبًا على خلق حالة من الارتباك حول شخصيَّة بطل السيرة، فتارة يكون في خانة الضحية المغلوب على أمرها، وتارة أخرى بوصفه شريكًا في الجرم، ولا شكَّ أنَّ هذه الإشكاليَّة هي أبرز الإشكاليَّات التي تواجه صنّاع الأفلام عمومًا عند تناول شخصيَّة جدليَّة مثل أوبنهايمر، كونهم لا يرغبون في إطلاق حكمٍ جازم يوقعهم في إشكاليَّة أخلاقيَّة بالدرجة الأولى. ومع ذلك، وبعيدًا عن الربط العاطفي الذي يدفعك نحوه الفيلم طوال ساعاته الثلاث، إلا أن العين الناقدة سترى أنَّها ليست مهتمَّةً في المقام الأول بموقع أوبنهايمر، بل بكمية المشاهد التي كشفت سياق الأخلاقيَّات الغربيَّة التي تقودها طبقة رأسماليَّة متوحشة.
ستجد نفسك أثناء مشاهدتك للفيلم أمام حالة من انعدام الضمير الإنساني، وذلك يعود إلى خضوعها لازدواجيَّة المعايير بشكلّ واضح وفج، كما ستستوقفك الرغبة الملحة في الانتقام واستعراض العضلات، أي أن الأمر لم يكن انتصارًا على العدو ومحاولة ردعه وكف يده عن العبث بمصير الشعوب، بل القضاء عليه وتدميره، وإحكام السيطرة الكاملة على مفاصل القوَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة في العالم، وفرض أجندة فئة بعينها، إما بالقهر أو الإجبار أو بالابتزاز.
بعد أحداث السابع من أكتوبر في العام المنصرم في غزَّة، وما تبعها من عدوان على القطاع المحاصر والمنهك منذ عقد ونصف العقد، ستجد تلك المشاهد وهي تخرج من إطار الشاشة الكبيرة، ومن عمق ذاكرتك السينمائيَّة، لتتجسد أمامك كأحداث حية، بالإضافة إلى تصريحات تدفع باتجاه الانتقام والتصفية، بل بإبادة شعب بأكمله بالقنبلة النووية. إنَّ التاريخ يعيد نفسه تمامًا، ولكن هذه المرة بصورة أبشع وأفدح، بما يتناسب طرديًّا مع الانحدار الذي نعيشه على المستوى القيمي في المقام الأول، والذي ساهمت هذه الطبقة في التأصيل لقواعده وتعميمها بصفتها الحق وما يقابله شرٌّ مطلق، في نفي تامٍّ لحرية الاختيار وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
عتبة مُقدسة
بسبب ما نعيشه من اختلاط المفاهيم وتمييع الحقوق، وجب سرد مقدمة أساسية مُلخصها أنَّ قضية فلسطين هي إحدى الأزمات التي أفرزتها الكولونيالية كأداة من أدوات الهيمنة الإمبريالية، فهي ليست صراعًا دينيًّا أو أهليًّا، أي ليست نتيجة تعارض وتباين مصالح بين طرفين لهما ذات الحقوق المشروعة، بل هي قضية تحرُّر وطني ضد كافة أشكال وأنواع الاستعمار القائمة منذ 1948م. وعليه فإنَّ الاعتقاد بتساوي الطرفان في ملكيَّة الأرض وحق العيش عليها ضرب من المغالطة المنطقيَّة، إذ يقوم كيان الاحتلال بجلب أوروبيين وأمريكان وروس وأفارقة، وإحلالهم قصرًا بدل السكان الأصليين عبر استخدام أدوات القتل والنفي والتشريد والتمييز، أي خلق واقع لا وجود له، ثم فرضه كحقيقة لا يُقبل الاعتراض عليها وتغييرها.
لقد جاء هؤلاء الغربيون محمّلين بكلّ ما تمثله البقعة الجغرافية التي ينتمون إليها ثقافيًّا من تفشي النزعة العنصرية ضد العرب، فهم يعتقدون بأفضليتهم وتقدّمهم على سائر شعوب العالم، ما يمنحهم الحق في تبرير احتلال أراضيهم، وأي محاولة للتصدي لهذا الظلم والسعي إلى عودة الحقوق إلى أهلها، تقابلها تصريحات تكشف كمية التطرف الذي يحملونه تجاه الآخر، والتي يتم ترجمتها لاحقًا عبر ارتكاب المجازر وإبادة الأبرياء والمدنيين.
في سياقهم!
من أكثر مشاهد الفيلم قبحًا كان عندما توسط أوبنهايمر جمع من الساسة في أحد الغرف المغلقة، وكان هدف الاجتماع هو التالي: المفاضلة بين المدن اليابانية المراد قصفها بالقنبلة النووية، وبعد أن وقع الاختيار على عدة مدن بشكلّ مبدئي، تم استثناء إحداها ليس بناء على حجم الخسائر البشرية والمادية المتوقعة للمدينة المستهدفة، بل لما تحتله المدينة من مكانة في قلب المسؤول الكبير الذي قضى بها شهر العسل مع زوجته.
هذا الاعتباط الرامي إلى الاستهانة بأرواح الأبرياء يأتي ضمن سياق عام يعززه الفيلم منذ البداية، وهو أن الإنسان بعلمه وإمكانياته قابل للتطويع لصالح طبقة استغلالية هدفها التكسب منه اقتصاديًا وسياسيًا، دون أن يحول أي اعتبار أخلاقي أو قيمي دون وقوع ذلك. كان مشهد اتخاذ قرار استخدام القنبلة ضد اليابان صادمًا إلى أقصى حد، حيث كان الحوار يدور حول عدم فائدة ذلك عسكريًّا، فنحن أمام عدو مهزوم ومدمر نهائيًّا، ومع ذلك بُرِّرَ إلقاء القنبلة بداعي استعراض العضلات وإرهاب الراغبين في منافستهم على تسيُّد العالم.
في ختام الفيلم، عرض واحدٌ من أكثر المشاهد الفارقة، وهو المشهد الذي استقبل فيه الرئيس الأمريكي أوبنهايمر في البيت الأبيض، فبينما كان مدير مشروع منهاتن يبوح لرئيس الدولة عن شعوره بالذنب بسبب ما خلفته القنبلة النووية من قتلى ودمار هائل، كان ترومان يسخر منه ويؤكد بأن لا علاقة له بأمر إلقاء القنبلة من عدمها، فهو بصفته الرئيس من يمتلك حق اتخاذ القرار، وهو الأعلم بحيثيات الأمور من موظَّف يعمل ضمن مشروعٍ قومي تموله الولايات المتحدة الأمريكية. بعد هذا المشهد استمر أوبنهايمر، بحسب الفيلم، بصفته شخصيَّةً مدانةً بقتل الأبرياء مهما فعل، وانحصرت وظيفته في التقاط الصور واستلام الدروع التذكارية.
فيلم غزة
تعودُ أحداث هذا الفيلم إلى عام 1945، أي قبل قيام العصابات الصهيونيَّة باحتلال الأراضي الفلسطينيَّة بثلاثة أعوام. وبعد هذه الأحداث بـ 78 عامًا، تجسَّدت مشاهد الفيلم بكلِّ ما فيها من قبحٍ على أرض الواقع، ولكن هذه المرة كان مسرح الأحداث في غزة، فيما القاسم المشترك بين الجريمتين أنَّهما أديرَتا من عقلية واحدة. لا شك أن ما حدث في السابع من أكتوبر حطَّم أساطير متعدِّدة حول العدو وخرافة جيشه الذي لا يقهر، وتعاظم ذلك مع استمرار خسائره العسكريَّة والمادية والمعنوية منذ التوغُّل البري حتى ساعة كتابة هذه السطور، لذا استحكمت قراراته جنون العظمة، ودخل سريعًا في دائرة الانتقام ليعوض ما خسره ولن يستطيع استعادته مرة أخرى.
من المُلاحَظِ أنَّ قرارته تتقاطع تمامًا مع مادة الفيلم، حيث تمت المطالبة بتغييب أي نزعة إنسانية في التعامل مع هذه الهزيمة التاريخية، فنرى أن وزير دفاع الكيان المحتل يواف غالانت يفاخر بأنَّ جيشه فرض حصارًا شاملًا على غزة تضمن قطع الماء والكهرباء، بالإضافة إلى منع الإمداد بالوقود والطعام، معلنًا العزم على إبادة سكان القطاع بوصفهم حيوانات على شكل بشر. وبعد ما لحق من دمارٍ هائل بغزة صرح نائب رئيس الكنيست نسيم فيتوري بأنَّهم إنسانيون، ومع ذلك طالب بضرورة حرق غزة فورًا، وشدَّد على أهمية منع دخول الوقود والماء إليها. فيما دعت النائبة عن حزب الليكود ريفيتال تالي جوتليف قوات جيش الاحتلال لاستخدام كلِّ ما في جعبتها من صواريخ يوم القيامة وإطلاقها حتى لا يبقى في القطاع فلسطيني حي.
وأمام هذه الرغبة الدموية في الانتقام، والتسابق على دفع الآلة العسكرية المهزومة إلى رد الاعتبار، جاء تصريح الوزير عميحاي إلياهو القائل إنَّ أحد خيارات الكيان في الحرب على غزة هو إسقاط قنبلة نووية بحجَّة أنَّ القطاع لا يقطنه أحد غير المقاتلين، وهم لا يستحقون إلا القتل والإبادة. هذا التصريح الفاجع للعالم بأسره أعاد للأذهان كارثة القنبلة التي جُسدت أحداثها في فيلم «أوبنهايمر»، فنحن أمام حالة سعار للانتقام في أبشع صورة مما سبقها قبل قرابة ثمان عقود، حيث القتل العشوائي وقصف المستشفيات والمساجد والكنائس، ومنع دخول المصادر المُعِينة على استمرار الحياة في حدها الأدنى، وعلى رأسها الطعام والشراب والمواد الطبيَّة، بالإضافة إلى قطع الكهرباء والمياه والإنترنت. اللافت أن العالم في قريته الصغيرة المتناقضة يشاهد ذلك على الهواء مباشرة، حيث القيم الإنسانية تتساقط والأخلاقيات تسيل دمًا، وكلُّ ذلك بلا رادعٍ أو مانع، ما عدا أقلية حية هنا وهناك تقوم برفض الظلم، وتقاطع داعميه إبراءًا للذمة والضمير.
بعد قرابة الثلاثة أشهر من الآن سنجد أنفسنا أمام فيلم سينمائيٍّ متقن العناصر، فنحن أمام البطل المُلهم الذي ينتصر بأقلِّ الإمكانيات على عدوه بسبب إيمانه بحقِّه في أرضه والبقاء فيها، كما نرى الصواريخ والدبابات والجندي المدجج وهم يستهدفون الأطفال وكافة الأبرياء بصفتهم أهدافًا مشروعة، والأرض تُقلب رأسًا على عقب لتكون ركامًا وأشلاء، وكلُّ ذلك دون الحاجة إلى ممثلين أو كومبارس أو خدع تقنية.
«اقتلوهم جميعًا»
صرح جيمس وودز منتج فيلم «أوبنهايمر» حول ما يجري من غزة في منصة X تحت وسم (اقتلوهم جميعًا)، فقال: «أعيدوهم إلى العصر الحجري.. ادفنوهم مع أحشاء الخنازير!».