مثل جريجور تمامًا يبتدئ الفيلم، في بداية فترة دراسة أوبنهايمر في المملكة المتحدة في مختبر كافنديش في كامبريدج تحت إشراف باتريك بلاكيت الذي يفرض على تلامذته ضغوطًا شديدة، عارضًا مشهد رؤى كون خفي يقطتع نومه، ويجعل أيامه مكفهرة، جاعلاً منه شخصًا في حالة من التشوش الدائم، حيث يتلقى لاحقًا توبيخًا من باتريك لكونه يبدو عديم الجدوى في المختبر، وانتقامًا منه يسمّم تفاحته التي يكاد أن يأكلها العالِم الزائر نيلز بور، لكنه سرعان ما يعود إلى رشده، ويهرع للتتخلص منها، ويقابل حينها مدحًا على ذكائه النظري إثر تساؤل يطرحه في ندوة بور، عكس ما كان يبديه في الجانب التجريبي، ملقيًا بالتفاحة في القمامة.
لا يقدم الفيلم تفسيرًا واضحًا لما كان يعاني منه أوبنهايمر نفسيًا، وإنما ينطلق من هذه النقطة لوصف تداعيات ما حصل، ولكن مشهدًا واحدًا لخص حال أوبنهايمر بالنسبة لي، وما سأشهده طيلة الفيلم: المشهد الذي ينصحه فيه بور بأن مختبرات كامبريدج لا تصلح له، وبأنه عليه التوجه لمن يهتم بالجانب النظري للفيزياء الكمية، والتي عرّفها بـ: «الطاقة والتناقض التي لا يمكن للجميع قبولها».
هي التناقضات التي تتضح فيما يكمن من صراع بين الشر والخير في أوبنهايمر، والحيرة بين التطور العلمي وأخلاقيات استخدامه، بين رغبته في فعل كل ما هو ممكن لإنقاذ العالم، وتدميره في الوقت ذاته. بدا واضحًا في الفيلم أن أوبنهايمر كان مدخنًا رفيعًا، وغالبًا ما كان يتجاهل تناول الطعام خلال فترات تفكيره، وما كان ليأكل إلا عندما يقدَم له ذلك، كما لو أنه يرغب في تأنيب نفسه. قرأت في مقالات عديدة عما قاله كثيرون من أصدقائه عن ميوله لتدمير ذاته، ففي حال اختياره لعدم الخضوع والمشاركة في صنع القنبلة، ما كان ليصل لطموحه، ولن يكون حينها لديه سبب كافٍ ليعاقب نفسه عليه، ويحتقرها.
يمكنني القول بأن موقفه يستدعي الازدواجية، فهو أشبه برجل ثري يلهث خلف مزيد من الثراء، متجاهلاً عواقب قراراته الخاطئة، خادعًا نفسه. الأمر بالنسبة إليه أشبه بالقمار، وما يحمله لاعبوه من اندفاع عارم من المشاعر والإثارة. يحب شعور كونه عالمًا مقامرًا بالعالم، يخوض صراعًا مع نفسه لإظهار قدرته على التغلب على الصعاب، ونظام العالم بأكمله، حيث يمكنه الشعور بالقوة والقدرة المطلقة بينما يراقبه الجميع، ويبيح لنفسه حق التضحية بالآخر، ويظل بعدها مثل جريجور سامسا يتألم من تلك التفاحة التي سقطت على ظهره وتعفنت وشلّته عن الحركة. يحضر تحقيقًا أُعِد لتدميره، في غرفة حقيرة، بعيدة عن الأضواء، دون أدنى مقاومة، مستسلمًا لمصيره وشعوره بالخزي، متخذًا دور الضحية، آملاً أن يشفع له العالم بالطريقة هذه، ويطهره مما أشرك نفسه فيه، حيث تقول له زوجته: «هل خلت أنك إن سمحت لهم بتعذيبك ومعاقبتك، سيسامحك العالم؟». ولكن المفارقة الوحيدة بين جريجور وأوبنهايمر هي أن جريجور يعاقب نفسه بلا ذنب جناه في التحول إلى حشرة، أما أوبنهايمر فيخدع نفسه، ويزين ابتكاره بحجة رغبته في المساعدة، حاصلاً بفعلته على لقبَي «أب القنبلة الذرية» و«مُهلك العوالم»، ممثلاً بذلك معضلة السجينين، التي تخبرنا بأنه حتى وإن كان أفضل سيناريو واضحًا أمامنا، فإن التفكير المادي في حالات كهذه سيقود إلى التصرف وفقًا لحالة نفعية برغماتية حتى وإن كان الشخص يدّعي عكس ذلك، حتى وإن كان الفعل سيسوقنا إلى أسوأ السيناريوهات، دون النظر إلى الجانب الأخلاقي من الفعل، ومسؤولية الفرد، وما سيترتب على فعله، غير أن منطق أوبنهايمر يأخذنا إلى عالمنا الحديث حيث تتبارى الدول لإدارة أكبر خزين من الأسلحة النووية، وهو فيلم يجعلك تنظر، وتتعاطف، وتنبهر من حلم أمريكي متعجرف تحقق، الأمريكي الذي أينما وضع خطاه لابد للموت أن يأكل من فيها، بينما يضحكون – الأمريكيين – على العالم بنكتة التحرير والحرية والعدالة، كما يصفهم داروين.
ضحكت جدًا على المشهد الذي يجسد تجريد أوبنهايمر من كافة نفوذه السياسية المباشرة، والذي تتحول فيه علاقة الحكومة الأمريكية الودية القائمة على المنفعة البحتة، إلى علاقة فجة مع الإنسان ذاته الذي اعتصرته، جاعلة منه حشرةً لا دور لها في مشي الحياة، مستحقًا لتجريده من إنسانيته، ورميه في غرفة التحقيق تلك، إلا أنني في لحظة أخرى وددت لو أنه لم يتعرض لذلك، لأنه بدا لي أن كل ما يُفعل معه يساعده أكثر في أن يتلذذ في احتقاره لذاته ورغبته في التكفير عن ذنبه، وهذا ما يجعله يقبل الخضوع لمؤامرتهم ضده. تمتد نزعاته لإذلال نفسه – أو إن صح القول، مازوخيته – إلى نطاق حياته الشخصية، متجسدة في علاقته الرومانسية المضطربة التي تستمر بعد زواجه، بجان تاتلوك التي تعاني من اكتئاب سريري حاد. لا يُظهر الفيلم تفاصيل عديدة تتعلق بتاتلوك، ولكنها في مشاهد متكررة ترمي ما يجلبه أوبنهايمر من ورد لها، وتبدو مشوشة بين رغبتها في التقرب من أوبنهايمر أو الابتعاد عنه، ويعبر عنها بأنها لا تبادله الحب كما يفعل، إلى أن يقرر الانفصال والامتناع عن زيارتها، وتنتحر، فيجد نفسه ملقيًا على الأرض معذبًا من فكرة كونه السبب في موتها. كل هذه المشاهد تشير إلى أن الوعي قد يجعل الإنسان يختار شتى الطرق لتعذيب نفسه نفسيًا وجنسيًا، وهذا ما يعبّر عنه الكاتب النمساوي ليوبولد ريتر فون ساجر مازوخ في شخصية سيفرين في روايته "فينوس في الفراء".
من شدة رهابة ما شاهدته في الفيلم، كنت طيلة الوقت أفكر في الضحايا الحقيقيين لهيروشيما، الذين تعامل معهم الفيلم كهامش، عن "الـجريجورز" الحقيقيين الذين أوقعت عليهم أمريكا تفاحتها التي نفثت سمها عليهم من دون ذنب. هذا ما تناوله كتاب "هيروشيما" لجون هيرسي – المترجم من قِبل عبدالله بن صالح العجيري – الذي يلقي الضوء على قدرة الإنسان على تحويل الآخر طُعمًا لمبتغاه، جاعلاً من الموت محركًا لتطوره، ووددت أن أنهي ما بدأته باقتباس منه. يقول عن الآنسة توشيكو ساساكي، أحد الناجين من القنبلة الذرية: «سقط كل شيء، وفقدت الآنسة «ساساكي» وعيها، هبط السقف فجأة، وانهارت الأرضية الخشبية للطابق العلوي، وتحولت إلى شظايا، وتهاوى الناس من أعلى، ليسقط السقف عليهم، أما هي فقد انقضت خزائن الكتب عليها، وأسقطتها محتوياتها على الأرض، وتسبب ذلك في التواء ساقها اليسرى بعنف من تحتها حتى كُسِرت. هناك في مصنع القصدير، وفي اللحظة الأولى للعصر النووي، تم سحق إنسان بواسطة الكتب».