سينما الواقعية الجديدة المصرية: الملاذ أم التريند؟

September 20, 2023

في العامين الأخيرين، لاحظتُ أنه لا يكاد يمر عليَّ أسبوع واحد إلا وقد أرسل إليَّ بعض أصدقاء العمر منشورًا أو مقالًا يتأمل ويتغزل في تفاصيل أفلام موجة الواقعية الجديدة في مصر. نمت الملاحظة وتحولت إلى فضول دفعني إلى تأمل مشهد السينما المصرية كما عاصرته صبيًّا نهاية القرن الماضي ومطلع الألفية وصولًا إلى كهولتي الحالية.

كانت سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة حافلة بمشاريع سينمائية ناجحة على مستوى الإيرادات والانتشار. انتمت معظم هذه المشاريع السينمائية إلى ما اصطُلح عليه بـ[سينما الشباب]، والتي قد نُؤرخ بدايتها بالنجاح الكبير لفيلم «إسماعيلية رايح جاي» الذي عُرض عام 1997، ثم النجاح المدوي لفيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» صيف 1998، هذا النجاح الذي سينطلق من خلاله مشروعا أحمد السقا ومحمد هنيدي، ليصبحا من أهم نجوم شباك السينما خلال العشر سنوات التالية، وسيلتحق بهما أحمد حلمي ومحمد سعد بعد نجاح بطولتهما المشتركة في فيلم «55 إسعاف» عام 2001. ستطغى على موجة سينما الشباب أفلام الكوميديا ممثلة في: هنيدي وعلاء ولي الدين، ثم محمد سعد وأحمد حلمي، ولاحقًا أحمد مكي. وأفلام الحركة البوليسية ممثلة في: أحمد السقا، ولاحقًا كريم عبد العزيز لمدة عشر سنوات تقريبًا، مع ظهور متقطع لتجارب كوميدية مختلفة حملت بعدًا اجتماعيًّا أو دراميًّا مثل «فيلم ثقافي» و«ليلة سقوط بغداد». وفي أواخر عام 2010 كانت معظم هذه المشاريع سالفة الذكر في طور الأفول، وجاءت ثورة يناير في عام 2011  لتُحدث -ضمن ما أحدثته من ارتباك في واقع المصريين- نوعًا من الفراغ في مشهد السينما، وبالأخص أمام جمهور الثورة الشاب، فراغ لم يتمكن نجوم السينما الشباب من ملئه، بل وازداد خفوت نجمهم مع الصعود المتسارع لمشروع محمد رمضان المثير للجدل، وظل الفراغ متاحًا ومتسعًا، حتى انتزعه ضيف غير متوقع، لم يكن مشروعًا جديدًا أو معاصرًا، بل كانت هي الأفلام ذاتها، التي أطلق عليها بعض معاصريها [سينما صراصير البلاعات].

 

الولع بالواقعية الجديدة: الملاذ السينمائي أم التريند والحنين للماضي؟

في إيجاز لا يخلو من خللٍ، يُطلق مصطلح الواقعية الجديدة على موجة الأفلام المصرية التي ظهرت في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، واستمرت حتى منتصف التسعينيات، واشتهرت بأعمال عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد، على سبيل المثال لا الحصر. اشتركت هذه الأفلام في اقترابها من الواقع المعاش، وتصويره دون أي تكلف أو تنميق، والتصقت كاميرا خان بالشوارع وسطوح العمارات، بينما التقطت عدسة الطيب حكايات المصريين المكدودين في الحياة اليومية في زمن عز فيه القوت وتشوشت فيه كثير من القيم، ولربما كانت حدة تفاصيلها وصراحتها ما جلب على هذه الأفلام لقب [صراصير البلاعات]، ولكن هل دار بخلد صُنَّاع الواقعية الجديدة وشاتميها أن الأمر لن يستغرق إلا قرابة ربع قرن، حتى تصبح هذه الموجة هي الأكثر احتفاءً من جيل لاحق محاصر بالهزائم والأسئلة؟ لماذا تحول كل من فارس (الحريف) والأسطى حسن (سواق الأتوبيس) وأحمد سبع الليل رضوان (البريء) إلى أيقونات تزداد ألقًا بمرور السنين؟

 

أهو التريند؟

المتصفح سريعًا لأقسام السينما في معظم المنصات، سيجد مقالات متعددة تتأمل سينما الواقعية الجديدة، وتحاول اكتشاف مزيد من التفاصيل الخفية في أفلامها، ولن تخلو صفحات وسائل التواصل الاجتماعي من لقطات من أفلام مثل «الحريف» و«البريء»، تظهر الفينة بعد الفينة في سياقات مختلفة، ولذلك فإن شُبهة التريند قد تحمل بعضًا من وجاهة، وأي احتفاء قد لا يخلو عادة من الرغبة في مسايرة الموضة والتوجه العام، ولكن التريند مهما علا ضجيجه واختلفت موارده، يظل في أغلب الأحوال قصير العمر محليًّا وعالميًّا، والأمثلة كثيرة. هذا لو سلمنا بأن فكرة التريند في حد ذاتها تقلل من شأن كل ما يتصل بها، وهو ادعاء مجحف.

 

تجلٍّ آخر من صور الحنين إلى الماضي:

للوهلة الأولى قد نظن أن الاحتفاء الحالي بأفلام الواقعية الجديدة هو امتداد لحالة الهروب من السخط على الواقع الحالي وهزيمته في مقارنات دون كيخوتية مع الماضي؛ لعل أشهرها مقارنات الحقب المعاصرة مع حقبة الملكية، وبمد الخط على استقامته قد نقول إن مقارنة فيلم مثل «الهروب» لعاطف الطيب بأي فيلم حديث قد تبرهن على الفكرة نفسها. ولكن مَن يتأمل ظاهرة الحنين إلى الملكية، سيعرف أنها تنطلق من التطلع إلى وضع اجتماعي أكثر رفاهية، وهو الضد الكامل لكل أفلام الواقعية الجديدة التي ارتكزت على واقع المعاناة والهزيمة للطبقات المتوسطة والفقيرة بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل. بعبارة أخرى: لم تتناول الواقعية الجديدة سوى الواقع نفسه الذي يهرب منه المتعلقون بأستار تخيلاتهم عن مصر الملكية.

 

خلطة الواقعية الجديدة الناجعة- عاطف الطيب نموذجًا:
كانت رحلة الطيب السينمائية قصيرة الأمد، ولكنها حفلت بعدة أفلام انتزعت مكانتها في قوائم الأفضل في تاريخ السينما المصرية والعربية. لم تتسم أعماله بتقنيات تصويرية متطورة أو ميزانيات إنتاجية ضخمة، ولم ترتكز على عناصر الإغراء والصدمة والحركة. وجاء بأبطاله من الظلال البعيدة عن المركز، وانطلق معظم أبطاله من النقطة نفسها وهي الهزيمة وضرورة خوض معركة غير متكافئة من أجل البقاء والثأر ممن امتهنوا كرامتهم وسرقوا منهم أبسط وأغلى ما امتلكوا؛ الوطن والحياة. لم يأتِ الطيب بتيمة سينمائية غير مسبوقة، بل إننا قد نجادل في أن المواطن المطحون الباحث عن الحياة كان البطل المفضل لمعظم تجارب السينما المصرية بمختلف ألوانها. لكن ما تفردت به سينما عاطف الطيب في تناولها للواقع المعاش وأبطاله المنسيين -كالأسطى حسن- هي أنها صنعت من نفسها صوتًا مدويًا له. ولعل أهم ملامح تفرد سينما الطيب -في وجهة نظري- هو اشتباكه الصريح مع السلطة في كل أفلامه، انتقم لكل أبطاله من كل من سلبوهم الحق في الحياة، مرة يُشهر بهم ويفضح فسادهم مثلما فعل مصطفى خلف/ أحمد زكي في مرافعته الشهيرة في فيلم «ضد الحكومة»، ومرة أخرى ينهال عليهم ضربًا كما فعل الأسطى حسن/نور الشريف في نهاية فيلم «سواق الأتوبيس» وهو يسب كلَّ لصوص الوطن، ومرة يذهب إلى أبعد من ذلك في فيلم «كتيبة الإعدام» ويصدر حكمًا بقتل السرقة والفساد بقبضة كتيبة إعدام شكلها من المظلومين ومَن تبقى من رجال السلطة الشرفاء. إن رؤية الطيب السينمائية حادة ونافذة، يعرف صاحبها عدوه ولا يفلته ولا ينشغل عنه بمعارك رخيصة التكاليف. لم يحتج الطيب وغيره من رواد الواقعية الجديدة سوى أتوبيس، أو ربما مبنى قديم، أو لقاء قصير بين رفاق السلاح والوطن، أو ربما شوارع القاهرة فقط ليصنعا أيقونات أصيلة تثأر لمعاناة الناس وهزيمتهم المتكررة. لم يطلب الطيب منَّا ضبط إعدادات الشاشة ولا رفع الصوت أو خفض الإضاءة، بل راهن فقط على أصالة قصصه وارتباطها بناسه، فكسب الرهان؛ حيث تعرفت فيها الأجيال اللاحقة على نفسها ووجدت ذواتها التائهة وأحلامها المسروقة وبعضًا من رد الاعتبار في أفلام الطيب وغيره من رواد هذه المرحلة.

 

زمن الواقعية الجديدة غير؛ طمعًا في جمهور أفضل ورقيب أكثر رأفةً:

يطل الحنين إلى الماضي برأسه مرة أخرى كطريقة لتأمل الاحتفاء المعاصر بسينما الواقعية الجديدة، وتبرير تفرد هذه التجربة بوعي أكبر بجمهور تلك المرحلة، وصدر أرحب للرقابة في القرن الماضي.

قبضة الرقيب تزداد شدتها أحيانًا وترتخي قليلًا في أحيان أخرى، إلا أن المتتبع لألوان الفن المختلفة سيرى بوضوح أن صوت الرقيب العالي وقبضته الغليظة حاضرتان دومًا وتتدخلان بقسوة في تقليم أظافر المبدعين وإعادتهم إلى الحدود المسموحة. فمثلًا -قبل سينما الواقعية بسنوات- مُنع عرض فيلم «شيء من الخوف» بأوامر الرقابة، ولم يخرجه من أزمته سوى أوامر الشخص نفسه الذي قيل إن الفيلم كان ينتقده رمزًا، الرئيس جمال عبد الناصر. تدخل الرقيب بقسوة عندما أخرج عاطف الطيب تحفته «البريء»، وقام بمنع عرض الفيلم قبل أن يقرر عرضه بعد بتر النهاية الأصلية. مرت السنوات وخسر الرقيب في النهاية.. كالعادة.

 أما عن اختلاف طبائع جمهور السينما عبر الزمن؛ فجدير بالذكر أن أحد أكثر أيقونات الواقعية لمعانًا وجماهيريةً حاليًا -وهو فيلم (الحريف)- فشل فشلًا مؤلمًا في دُور العرض عند صدوره، وقطع بطل الفيلم ومخرجه علاقتهما ببعض بسببه. ومع ذلك لم يصلنا أي تصريح منسوب إلى خان أو الطيب يندبان فيه حظهما ويلومان مجتمعها الذي لم يفهم فنهما، أو يتهمانه بأنه غارق في المحافظة حتى تحجر عقله وأنه لم يهب ذودًا عن مبدعَينِ مثلهما. ولم يُنصِّبْ أيٌّ منهما نفسه شهيدًا من شهداء الفن قتلته المحافظة والرجعية، بل مضَيَا في صنع مزيدٍ من الأفلام البديعة مثل «زوجة رجل مهم» لمحمد خان و«الهروب» لعاطف الطيب.  

 

الزمن متشابه، لكن الرهان مختلف:

راهنت موجة الواقعية الجديدة على القصة، فأزاحت كل أستار الزيف عن الواقع، وعرَّت الظلم، وشاكست السلطة، وكانت صوت مُشاهِدها، ومرآةً شديدة الجرأة لعصرها، فازداد بريقها بمرور الزمن.. بينما فضَّلت موجة سينما الشباب -التي حظيت بظروف أفضل- اللعبَ على المضمون، فلاذت بالكوميديا والحركة، في قوالب شابها التكرار الذي ضاعف من الفجوة الكبيرة بالأساس بين هذه الأفلام وحاضنتها الاجتماعية، إلى أن انتهى بها الحال إلى الارتباك والأفول عند أول منعطف، وللمفارقة فإن مشاريع سينما الشباب القليلة التي اقتربت من مساحة الواقعية الجديدة مثل «فيلم ثقافي» لا تزال تحتفظ ببعض من بريق وحضور بين أوساط المهتمين بالسينما المصرية.
ويبقى لنا أن نسأل: "هل كان بمقدور موجة سينما الشباب أن تصنع أيقوناتها؟".
إنه سؤال يستحق بعض التأمل.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى