تجمع عدد من الغرباء في الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1895 عند باب مقهى غراند في باريس؛ استعدادًا لحضور أول عرض سينمائي تجاري في التاريخ، حيث عرض حينها الأخوان لوميير -عن طريق اختراعهم السينماتوغراف- فيلمهم الأول (عمّال يخرجون من مصنع لوميير)، الذي يعتبره كثيرون أول فيلم وثائقي في التاريخ، وهو عبارة عن مشهد من قرابة دقيقة يصور عمّالًا يرتدون قبعات كبيرة وأزياء باريسية معقدة، يخرجون من مصنع الأخوين لوميير بعد انتهاء ساعات العمل. ربما الآن -بعد أن مرَّ علينا أكثر من قرن من الإبداع السينمائي- لا يمكن أن نشعر بشيء ونحن نشاهد عملًا بتلك البساطة، لكن بالنسبة لمَن حضر العرض في مقهى غراند آنذاك كان الأمر أشبه بالسِّحر. فأن يشاهدوا صور مجموعة من البشر يتحركون على حائط كان بالنسبة لهم أشبه بما قد يشعر به طلبة المرحلة الأولى في مدرسة هوغوورتس للسحر في (هاري بوتر) وهم يشاهدون اللوحات -على جدران المدرسة- تتحرك وتتكلم.
إن اكتشاف السينما ووصولها إلى شكلها الحالي لم يتم بمرحلة واحدة. فقد مرت السينما بعدة محطات قبل الأخوين لوميير وبعدهما، حتى وصلت إلى الشكل الذي نعرفه الآن، فقد سبق سينماتوغراف الأخوين لوميير اختراع توماس أديسون في أمريكا الذي طوره مع وليام ديكسون وأطلقَا عليه اسم الكينِتوسكوب؛ وهو جهاز يقوم بعرض شريط من الصور المتحركة على عجلة دوارة، يمكن النظر إليها عبر فتحة صغيرة. ولقد استلهم أديسون جهازه الكينِتوسكوب من عدة اختراعات سبقته تعتمد على الصور المتحركة بطريقة أو بأخرى، مثل: المصباح السحري أو الفانتاسكوب أو الإلكتروتاكيسكوب، وربما المثال الأهم في مرحلة ما قبل أديسون هو ما قام به البريطاني إدوارد مويبريج عندما صوَّر عدة لقطات لحصان في أثناء حركته، وقام بعرضها عبر كابينة؛ لتبدو عند عرضها تباعًا كأن الحصان يتحرك، وهو ما يعتبره بعضهم أول تجربة سينمائية في التاريخ. ربما الاختلاف الجذري بين جهاز أديسون وما سبقه وجهاز الأخوين لوميير: أن الكينِتوسكوب يمكنه عرض شريط الصور المتحركة لشخص واحد في كل مرة، لذا لم يكن بإمكانه توفير الصفة الاجتماعية للسينما، وهي ما جاءت بها السينماتوغراف؛ فلطالما كانت مشاهدة الأفلام مع مجموعة من الغرباء من أساسيات التجربة السينمائية الكاملة، فالجلوس مع عشرات الأشخاص -بدون معرفة مسبقة- في غرفة مظلمة ساعتين لمشاهدة فيلم معين يعطي إحساسًا محببًا بالألفة الاجتماعية.
ما إن انتشر السينماتوغراف وذاع صيته حول العالم، حتى ظهرت محاولات من مخترعين وصناع أفلام من مختلف البلدان؛ لدفع هذا الاختراع باتجاه السرد القصصي، وإلى ما هو أبعد من تصوير قطع من الحياة اليومية التي كان الأخوان لوميير يصورانها في أماكن مختلفة. هنا ظهر جورج ميلييس الذي كان حينها ساحرًا وله عروض مشهورة في مسرحه الخاص، حيث كان يكتب عروضه وينتجها ويصممها بنفسه. كان ميلييس أحد الحضور في عرض السينماتوغراف الأول، وأُعجب به لدرجة أنه عرض على الأخوين لوميير شراء جهاز السينماتوغراف بعد انتهاء العرض مباشرةً، لكنَّ الأخوين لوميير رفضا العرض. لقد أدرك ميلييس حينها الإمكانيات التي يمكن تطويرها عبر هذه الآلة، وكيف بإمكانه -كساحر- أن يستغلها في عروضه الخاصة؛ لذا قام برحلات عديدة بحثًا عن اختراع مشابه للسينماتوغراف، حتى قام بشراء جهاز يُدعى الأنيماتوغراف، وقام بتطويره هندسيًّا، حتى أصبح بإمكانه استخدامه للتصوير والعرض تمامًا مثل عمل السينماتوغراف، وبدأ بتصوير عدة أفلام، لكنها لم تختلف كثيرًا عن إنتاجات الأخوين لوميير أو أديسون، لكن السينما -شأنها شأن عديد من الاختراعات في التاريخ الإنساني- قد لعبت الصدفة دورًا أساسيًّا في تطويرها؛ ففي أحد الأيام كان ميلييس يصور أحد مشاهد الحياة اليومية التي يصورها في أفلامه، وتوقفت الكاميرا عن العمل، وبعد عدة ضربات على الجهاز من ميلييس بغضب أكملت الكاميرا تصوير المشهد، وعندما قام ميلييس بتحميض الفيلم المصور، وجد أن المشاهد تداخلت مع بعضها لتنتج صورًا غريبة، كحصان مكان العربة والنساء مكان الرجال، فقد قامت الكامير بدمج الصور قبل التوقف وبعده، وهنا جاءت الفكرة لميلييس لاستغلال هذا الخطأ التقني بتصوير مشاهد سحرية وخدع بصرية، ومنه بدأ تطوير عدة تقنيات استُخدمت -لاحقًا- في التصوير كالتعريض المتعدد وتقسيم الشاشة وغيرها الكثير. هنا بدأ ميلييس تحويل عروضه السحرية على المسرح إلى أفلام، فما كان يصوره إلى جانب التقنيات التي كان يبتكرها بدا أقرب إلى الخدع السحرية، إذ طور عدة مؤثرات تصويرية وصلت ذروتها في فيلمه الأشهر (رحلة إلى القمر - A trip to the moon 1902)، الذي أصبح رمزًا لسحر السينما، ولا يزال صناع الأفلام ومحبُّو السينما يحملون ذكرى هذا الفيلم وصانعه في قلوبهم، وآخر التحايا لهذا الرجل كانت في فيلم مارتن سكورسيزي (هوغو - Hugo 2011)، الذي كان رسالة حب وتقدير من سكورسيزي لساحر السينما الأول ميلييس وأفلامه.
في تلك الفترة كان الجميع يتسابقون لإضافة شيء جديد إلى هذا الوسيط الحديث، سواء كان حركة تصويرية جديدة أو تقنية عرض أو أسلوبًا سرديًّا وغيرها. فظهر عدد من صُنَّاع الأفلام الذين خلدتهم كتب التأريخ السينمائي روادًا في هذه الصناعة، أسهم كل منهم -بطريقة أو بأخرى- في تطوير لغة جديدة وخاصة بالوسيط السينمائي، وربما لم يدركوا آنذاك أن تلك اللغة التي ساهموا في تطويرها ستصبح الماكينة الثقافية الهائلة التي هي عليها الآن ومرآة اجتماعية وسياسية. ومن الذين ساهموا في تلك المرحلة ما يُطلق عليهم بمدرسة برايتون، والتي تشمل مجموعة من صُنَّاع الأفلام مثل سيسل هيبوورث، أول مَن استطاع تطوير تقنية صارت تعرف اليوم بالحركة البطيئة، وروبرت بول أول مَن نقل السينما من أفلام اللقطة الواحدة إلى مشاهد مختلفة ومتوازية لتصوير استمرارية الحدث من عدة زوايا، وجورج سميث وجيمس ويليامسون أول مَن استخدما اللقطة القريبة في التصوير وهي التي أعطت أهمية أكبر للممثلين في السينما وكانت الخطوة الأولى في الطريق إلى النجومية بالنسبة للممثلين بعد أن كانت الأفلام تُعطي الأهمية الكبرى للمكان والحدث.
في فرنسا التي كانت سبّاقة ثقافيًّا في كل شيء، ولا سيما السينما، فإنه ليس غريبًا أن تخرج منها أول مخرجة سينمائية في التاريخ، حيث قامت المخرجة آليس غي، في ستوديو جومون، بإخراج أكثر من 500 فيلم، ولا شك أن عددًا منها كان محملًا برسائل نسوية، فكانت غي بذلك أول مَن اكتشف قدرة السينما على أن تكون محركًا فكريًّا وثقافيًّا مؤثرًا.
وهكذا توالى صُنَّاع الأفلام من مختلف البلدان على إضافة التقنيات والابتكارات سردًا وتصويرًا شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت السينما في السنوات اللاحقة ملاذ الحالمين ممَّن لا يكتفون بحدود الواقع، ولا يمكن الآن أن نتخيل شكل الحياة من غير السينما، يقول الشاعر سركون بولص في قصيدته (مرثية إلى سينما السندباد) التي كتبها بعد سماعه خبر هدم صالة السينما التي ارتادها في شبابه:
«وهل يمكننا أن نُحبَّ الآن؟
كيف سنحلمُ -بعد اليوم- بالسفر؟
إلى أي جزيرة؟».
فولادة السينما وفرت لنا فرصة أن نعيش من التجارب ما لا تكفي حياة واحدة لعيشها، ولولا السينما -كما تقول إحدى شخصيات فيلم (يي يي - 2000 yi yi) لإدوارد يانغ: "إن الإنسان بوجود السينما أصبح يعيش ثلاثة أضعاف ما كان يعيشه قبل السينما".