في زمنٍ لم تولد فيه الكلمة بعد، جلس البدائيُّون الأوائل حول النار، يحدِّقون في ألسنتها المتمايلة التي تحوَّلت في عيونهم إلى ممَّراتٍ لعوالم بعيدة. هناك في ذلك الضوء المرتجف وُلد الطقس الأوَّل للحكي. كان الراوي فيه يطلق أصواتًا ممزوجةً بالصمت، يشكِّل بيديه في الهواء صورًا لمخلوقاتٍ عجيبةٍ وطبيعةٍ غامضة. يحدِّق فيه الأطفال والرجال والنساء، فكانت الحكاية المرآة التي تعلِّمهم من أين جاءوا، ومن هم، وأيِّ طريقٍ يسلكون في الغابة المظلمة. لم تكن الحكايات آنذاك مجرَّد أصواتٍ وهمهمات، بل جسرًا بين الإنسان الأول وعالمه، بين خوفه ورغبته، بين واقعه وأسطورته.
هذا هو مهد الأساطير التي يصفها جوزيف كامبل في كتابه «قوَّة الأسطورة» (The Power of Myth) بأنَّها «الحلم الجماعي للبشريَّة»، لغتها الرمزيَّة تحكي عن التجارب الكبرى للإنسان، وتساعده على فهم العالم ومكانه فيه. والأسطورة عند كامبل لها وظائف عدة: منها الميتافيزيقي الذي يُعنى بسرِّ الوجود وما وراء العالم المادي، ومنها الكوني لتفسير الكون وظواهره الطبيعيَّة، وآخر اجتماعي لدعم القيَم والنظم الاجتماعيَّة، ووظيفة نفسيَّة ترشد الفرد في مراحل حياته المختلفة.
وتمضي الحياة وتتغيَّر معها طقوس الحكي، فصار الناس الآن يجتمعون داخل دور العرض بدلًا من الكهوف، ويحلُ ضوءُ آلة العرض محلَّ ألسنة اللهب، وتفتحُ الصورة المنعكسة على الشاشة آفاقًا لعوالم أخرى، يستقون منها العبرة والمتعة: عن حكاياتٍ وُلدت لأوَّل مرة حول النار، وسافرت عبر الزمن مرتديةً عباءات شتى، يصبغها كلُّ عصرٍ بصبغته الخاصَّة.
ومثلما كانت الحكاية القديمة تُنسَج حول النار لترسم ملامح البطل الذي يحمي القبيلة أو يهزم التنين، وُلدت في العصر الحديث أساطيرُ جديدةٌ تستعير الرموز القديمة، لكنَّها تتجسَّد في أبطال خارقين يرتدون العباءات ويطيرون بين ناطحات السحاب... من بين هؤلاء سوبرمان، أحد الأساطير المعاصرة التي ابتدعها الإنسان الحديث، والذي يعدُّ امتدادًا لنموذج البطل الذي لا يُقهر مثل هرقل وأخيل. وإذا كانت الأسطورة القديمة تنبع من حاجة الإنسان لفهم الكون، فإنَّ الأسطورة الحديثة - كرجلٍ خارق - تنبع أيضًا من حاجة المجتمع لتعريف نفسه وسط عالمٍ متغيِّر.
خُلِق سوبرمان عام 1938 على يدِ الرسامَين جيري سيغل وجو شوستر في الولايات المتحدة، وظهر لأوَّلِ مرَّةٍ في مجلات الرسوم كأوَّل بطلٍ خارقٍ حقيقيٍّ في الإعلام المصوَّر، حاملًا مزيجًا من الأمل في زمن الكساد الكبير والاضطراب العالمي. تمثل الشخصيَّةُ في جوهرها (اللاجئ الغريب) الذي يُرسَل من عالمٍ مدمَّر (كوكب كريبتون) ليُربَّى في مجتمعٍ بشريٍّ بسيط، فيُصبح رمزًا للتضحية والاندماج والإخلاص للمجتمع الجديد.
في أوقاتٍ مختلفةٍ، تفاعلت أسطورة سوبرمان مع توتُّراتٍ سياسيَّةٍ وثقافيَّة: في بداياته كان يُستخدَم لمحاربة الفاشيَّة والعنصريَّة، فحمل بُعدًا اجتماعيًّا ونقديًّا يُظهر العدالة باعتبارها مقاومةً للظلم الهيكلي؛ وفي عقودٍ لاحقةٍ واجهت صورتُه تراجع الثقة بالمُثل العليا، فنتج عن ذلك قواعد سرديَّةٍ مظلمة (كما في بعض المٌعالجات الحديثة التي جَهَّزت البطل لصراعاتٍ داخليَّةٍ أو شكٍّ في السلطة الأخلاقيَّة). هذا التقلُّب بين الأمل المثالي والشكِّ النقدي يجعل من سوبرمان أسطورةً مرنةً تتفاعل مع ما يطالب به الزمن من معانٍ جديدة.
يبقى سوبرمان في الثقافة الشعبيَّة عمومًا نموذجًا أسطوريًا متعدِّد الأوجه: ابنٌ متبنَّى يوازن بين أصلٍ خارقٍ وتربيةٍ بشريَّة، مخلِّصٌ أخلاقيٌّ يتماهى مع نماذج دينيَّة/رمزيَّة للمُخلِّص، ومتمردٌ يحمل نورًا وقيمًا ليواجه الفساد… توليفةٌ تجعل منه أسطورةً حيَّة تُعاد قراءتها وتشكيلها بحسب الأزمات المجتمعيَّة، من مثاليَّة القرن العشرين إلى تعقيدات السياسة والهويَّة في القرن الحادي والعشرين.
فيلم «سوبرمان» (Superman - 2025) للمخرج جيمس غن هو أحدث المعالجات لهذه الأسطورة. انهالت عليه الانتقادات فور صدوره من كلِّ حدبٍ وصوب، خاصَّة من السياسييِّن والفنانين، بين مؤيدٍ ومعارضٍ للمعالجة السياسيَّة والاجتماعيَّة للبطل الخارق، من بينهم الممثل دين كاين الذي لعب دور الرجل الفولاذي في مسلسل «لويس وكلارك» (Lois & Clark - 1993-1997). أبدى اعتراضه على تصوير الرجل الخارق كلاجئ، وتقديم والديه بالتبني كقرويين حمقى، وإظهاره بصورةٍ هشَّةٍ؛ يتلقى الضربات باستمرار وكأنَّه بحاجةٍ إلى من ينقذه. فجاء بعدها رد صحيفة الغارديان الأمريكيَّة على انتقاداته، موضحًا أن (سوبرمان)، شأنه شأن غيره من أساطير الأبطال الخارقين مثل آيرون مان والإكس-مين، هو نتاجٌ لحاجةٍ اجتماعيَّةٍ وسياسيَّة، وأنَّ شخصيَّته خضعت دائمًا للتغيُّرات تبعًا لتغيُّر الزمن.
إذا ما ابتعدنا قليلًا عن مشهد الحراك النقدي حول الفيلم، ستتَّضح أمامنا حقيقةٌ مهمَّةٌ وهي أنَّ الأساطير الشعبيَّة كانت وما تزال ساحة صراعٍ بين الأيديولوجيَّات والرؤى المتعارضة، لأنَّ الأسطورة ليست محايدة، لكنَّها أداةٌ فنيَّةٌ تظهر قوَّتها عندما يتناولها كاتبٌ واعٍ بتأثيرها في الوعي الجمعي.
لذلك تُستَغل الأسطورة أحيانًا لشرعنة أيديولوجيَّاتٍ جديدة، وتُحارب أو تُعاد صياغتها لفرض أيديولوجيَّاتٍ سائدةٍ في أحيانٍ أخرى. والأمثلة كثيرةٌ على ذلك: استيلاء النظام النازي على عناصر من الأساطير الجرمانية/الآرية ودمجها في أيديولوجيا تفوُّق العرق الآري؛ محاولة الثورة الفرنسيَّة تفكيك الأسطورة المسيحيَّة/الملكيَّة الإلهيَّة واستبدالها بطقوسٍ مدنيَّةٍ جديدةٍ تتَّخذُ من العقل والفضيلة ثوابتَ مقدَّسةٍ فيما عُرف بـ«عقيدة العقل»، ثمَّ الصدام السوفييتي مع الأساطير الدينيَّة والسعي لتفكيكها كجزءٍ من الإبادة الأيديولوجيَّة، مع صياغة أساطير جديدةٍ عن البطل العامل والثورة. وأخيرًا الأسطورة المدنيَّة الأمريكيَّة عن الأمة المختارة والتقدُّم والقدر المتجسِّد في الاستيطان، وصدامها مع مفاهيم السكان الأصليِّين المرتبطة بالروح والأرض والانسجام، وما تضمَّنه ذلك من قمع سرديَّاتهم ومحاولة استبدالها بأسطورة الدولة لتوحيد الولاء.
شَقَّت أسطورة القيم المدنيَّة الأمريكيَّة طريقها إلى الشعار المركزي المرتبط بسوبرمان منذ أربعينيَّات القرن العشرين: «الحق، والعدالة والطريقة الأمريكيَّة»، بعد أن كان مقتصرًا على «الحق والعدالة» فقط. جاءت إضافة «الطريقة الأمريكيَّة» في سياق الحرب العالميَّة الثانية لتجسيد المثاليَّة المدنيَّة الأميركيَّة، وجرى ترسيخها ثقافيًا بعد فيلم «سوبرمان» (Superman - 1979) للمخرج ريتشارد دونر.
مع مرور الوقت ظهرت قراءاتٌ نقديَّةٌ لهذا الشعار وأعيدت صياغته لاحقًا، ففي السنوات الأخيرة جرى تعديله إلى «الحق، والعدالة، وغدٍ أفضل» أو «عالم أفضل» في بعض القصص، كنوعٍ من التوسُّع العالمي وتفكيك البعد القومي الضيِّق، باستبدال «الطريقة الأمريكيَّة» بفكرة مستقبلٍ أفضل مشترك. يرى البعض في الطريقة الأمريكيَّة تجسيدًا لوصايةٍ سياسيَّةٍ أو توافقًا مع السياسات الأمريكيَّة، ممَّا أثار رفضًا سياسيًّا وثقافيًّا، خاصَّة لدى القراءات المعاصرة التي تحاول تقليص بُعدها الوطني. في المقابل هناك من يدافع عن الشعار باعتباره دعوةً للعودة إلى القيم الأخلاقيَّة المُفترضة لأمريكا، لا ما تمارسه فعليًّا من سياسات.
قبل أن يُقدِم جيمس غن على تحدي الأيديولوجيات المترسخة حول المثالية الأمريكيَّة المكتسبة لأسطورة سوبرمان، هناك محاولاتٌ أخرى وضعت فرضيَّات بديلة لأسطورة البطل الخارق، مثل: ماذا لو هبطت مركبة سوبرمان في أراضي الاتحاد السوفيتي سابقًا؟! كما في فيلم الرسوم المتحركة «سوبرمان: الابن الشيوعي» (Superman Red Son - 2020) للمخرج سام ليو، حيث يُربَّى سوبرمان في كنف الاتحاد السوفيتي، مُكرِّسًا قوَّته للدفاع عن القيم الشيوعيَّة وخدمة الحزب الشيوعي ورئيسه ستالين.
أُجريَت تعديلاتٌ جوهريَّةٌ على أصل البطل الخارق في الفيلم، وكذلك لم يعد العالم ليكس لوثر هو الشرير الحاقد على سوبرمان في السرديَّة، بل أصبح يحاربه حتى يفيق من وهم الشيوعيَّة المتمثِّل في تَحوُّل قيّمه عن "عالمٍ أفضل" أو "غدٍ أفضل" إلى المعنى المتطرف للسلام؛ أي فرض السلام بالقوَّة على العالم، ومحاولة خلق يوتوبيا عالميَّةٍ تخلو من الحروب.
أثار الفيلم حينها جدلًا في الإعلام الروسي الذي اتَّهمه بأنَّه بروباغندا مضادَّةٌ متخفِّيةٌ في زيِّ حكايةٍ خياليَّة.
هذه المعالجة لا تختلف عن محاولات الأنظمة السياسيَّة عبر التاريخ لتكييف الأسطورة بما يخدم رسالتها؛ فهنا لا يُقدَّم سوبرمان كمهاجرٍ يبحث عن العدالة، بل كأداةٍ مثاليَّةٍ لتحقيق مشروعٍ سياسيٍّ عالميٍّ يطمسُ حريَّة الاختيار. وإذا كانت نسخة جيمس غن تضع سوبرمان في مواجهة الشك والرفض بوصفه "الآخر" الذي يسعى لاكتساب الانتماء، فإنَّ نسخة «الابن الشيوعي» تقدِّمه وقد انصهر تمامًا في أيديولوجيا الدولة ليصبح حاميًا لها ووجهًا خارجيًّا لقوَّتها الناعمة والصلبة معًا. وكلا النسختين تكشفان أنَّ الأسطورة ليست مجرَّد بطلٍ يُنقذ العالم، بل مرآةً تعكس كيف ترى الأيديولوجيا "السلام" أو "العدالة" وفق منظورها الخاص؛ فبينما تؤمن نسخة «الابن الشيوعي» بفرض النظام المثالي بالقوة، تذكِّرنا نهايتها أنَّ أي يوتوبيا مفروضة تتحوَّل في جوهرها إلى شكلٍ آخر من أشكال الاستبداد.
إذا تأمَّلنا مليًا الوضع الحالي الذي أفرز المعالجة الجديدة لسوبرمان، سنجدُ أنفسنا في عالمٍ يفتقر فيه الإنسان إلى معنى الإنسانيَّة، بل ويعيد صياغتها على هواه: عالمٌ يعجز فيه الأشخاص عن رؤية براءة الأطفال، ويرون فيهم مشروعًا إرهابيًّا مستقبليًّا يستحقُّ الإبادة؛ عالم تُنتهكُ فيه سيادات الدول بذريعة الدفاع عن النفس ويُحاكم الإنسان فيه بسببِ لون بشرته أو لانتمائه لثقافةٍ ما أو لدينٍ مضطهد؛ عالمٌ تتغنَّى فيه الدول بالحريَّة والعدالة والمساواة لكنَّه يرى في اللاجئ مشروعًا لغزوٍ ثقافيٍّ أو ديني.
ينبثقُ من هذه الأجواء منظورٌ جديدٌ يُعيد تقديم سوبرمان بوصفه لاجئًا يحمل المعنى الحقيقي للعدالة والحق إلى مجتمعٍ مضطرب، محوِّلًا «الطريقة الأمريكيَّة» من شعارٍ جغرافيٍّ إلى سرديَّةٍ عن الانتماء الأخلاقي؛ فهو ليس أمريكيًّا بالولادة، بل يختار الدفاع عن قيم الرحمة والعدالة في عالمٍ يعاني الأمرَّين من الانقسامات.
أثارت هذه المعالجة جدلًا بين من أشاد بجعل البطل رمزًا عالميًّا متجاوزًا الوطنيَّة الضيقة، ومن اعتبر حذف أو تعديل الطريقة الأمريكيَّة محاولةً لتفكيك تراثه أو إضعاف هويته، ووصفها البعض بأنها «ووك» (Woke) أو تغيير سياسي، بينما رأى آخرون أنَّ الفكرة الأصليَّة كانت دائمًا أوسع من مجرَّد شعارٍ قومي. يستغل جيمس غن أسطورة الرجل الخارق، باعتبارها أداةً سرديَّةً مترسِّخةً في وعي الثقافة الشعبيَّة، ويُهشِّم قُدسيَّتها لدى البعض ويُعيد تأويلها، في محاولةٍ لتشكيل منظورٍ نقديٍّ يخاطب السلطة والمجتمع والهويَّة.
يجري غِن تغييراتٍ على مفهوم الهُويَّة لدى سوبرمان، والذي يحمل مثل غالبيَّة الأبطال الخارقين هُويَّتين: هُويَّة البطل الخارق سوبرمان، والـ"أنا" البديلة (كلارك كينت). يضفي الصراع بين هاتين الهُويَّتين عمقًا وتعقيدًا على الشخصيَّة، ويعكس في الوقت نفسه الصراع الداخلي لدى خالقِ أو مبتكر أسطورة البطل الخارق المعاصر، أي الإنسان نفسه. فالبطل الخارق، في جوهره، وُلد من مُخيِّلة الإنسان الحديث ليحاكي صراعاته وآماله، ومخاوفه وحتى عجزه، وكيف يرى ذاته وهويَّته في مرآة الآخر.
يمكن قراءة أصول هويَّة سوبرمان كاستعارةٍ ثقافيَّةٍ لتجربة المهاجرين الأوائل إلى أمريكا في بدايات القرن العشرين، إذ تعكس تجربة أبويه الروحيين جيري سيغل وجو شوستر باعتبارهما الجيل الأول للمهاجرين اليهود إلى أمريكا. أمَّا الهُويَّة البشريَّة لسوبرمان (كلارك كينت) فيعيد من خلالها بناء نفسه وهويَّته على الأرض الأمريكيَّة، مع احتفاظه في الوقت ذاته بعناصر من هويَّته الثقافيَّة الأصلية. ورغم أنَّ الأبطال الخارقين غالبًا ما يحافظون على جذور هويَّتهم، فإنَّ هذه الجذور خضعت عبر الزمن لتحوُّلاتٍ دمجت بين المخاوف القديمة التي كانوا يعبِّرون عنها، والمخاوف الجديدة لعصرنا الحديث. وهذا تحديدًا ما يتناوله غن في نسخته المعاصرة.
ينشأ صراع الهُويَّة لدى سوبرمان في المعالجة الحديثة من القيم والمُثل التي جاء بها من كوكبه الأم، التي أوصاه بها والده في رسالةٍ مسجَّلةٍ داخل مركبته. لكنَّها غير كاملة، إذ تلِفَت بقيَّتها أثناء دخول المركبة الغلافَ الجوي للأرض. يصبح الجزءُ المفقودُ محورَ اهتمام خصم سوبرمان اللدود، رجل الأعمال والمخترع البارع ليكس لوثر، الذي يقتحم حصن البطل ويدَّعي حصوله على النصف الثاني من الرسالة وفكِّ شيفرته. ثم ينشره للعالم كاشفًا - وفق ادعائه - النوايا الحقيقيَّة لسوبرمان: أنَّ والده قد أوصاه بفرض سيطرته على الأرض، وزرع سلالته فيها حتى يحكم الكوكب بيدٍ من حديد.
تكشف هذه الإضافة الجديدة عن ثِقَل إرث الآباء، وعن الطبيعة الخبيثة المتوارثة التي قد تزرع بذور الشك في نوايا الآخر، وهو انعكاسٌ مباشرٌ لما يعانيه العالم اليوم من أفكارٍ مُنحازةٍ ومريضة. لطالما كان موضوع الشك في نوايا الآخر منبعًا لكثير من الأفلام، ويسير فيلم سوبرمان الجديد على هذا النهج، لكن يضيف إليه أبعادًا جديدةً متماشيةً مع قلق ومخاوف الإنسان المعاصر، تلك التي تفاقمت في العقود الأخيرة بفعل الحروب، ومسميات التطرُّف الإرهابي، والصور النمطيَّة التي يصنعها الإعلام عن "الغريب/الآخر".
بوسعنا فهم الريبة من الآخر والتفسير البشري المتشكك في نوايا شخصية سوبرمان من مقولة وردت في فيلم آخر وهو «اقتل بيل: الجزء الثاني» (Kill Bill: Vol. 2 - 2004) للمُخرج كوينتن تارانتينو، وفيه يرى بيل شخصيَّة سُوبرمان على النحو الآتي:
يستغل جيمس غن وجهة النظر هذه ويجعلها العدو الأول لسوبرمان في الفيلم، فكان عليه أن يثبت لنفسه أولًا، وقبل الجميع، أنَّه لا يتبع نصائح والده العدوانيَّة الاستعلائيَّة، ولا يضمر الشر للبشر الذين احتضنوه. لذلك يتعمَّد المخرج تقديم البطل الخارق في أضعف حالاته؛ إذ يتعرَّض للهزيمة في بداية الأحداث لأول مرة، ثمَّ تنهال عليه المصائب والاتهامات لاختياره الوقوف بجانب مُستضعَفي العالم والتعدِّي على سيادة دولٍ أخرى! ويزيد الطين بلَّة عندما يتلقى خبر رسالة والده عبر وسائل الإعلام. تركِّز كاميرا المخرج على وجهه المذهول، وتعزله عن المحيطين بجعله في بؤرة الصورة، ولا يكتفي المخرج بذلك، بل ينتقل بالقطع بين البث الإعلامي لتصريح ليكس لوثر، وهو يفضح سوبرمان على الملأ، ومشاهد تأثير هذا البث على الآخرين.
يتلقى سوبرمان في هذا الفيلم الضربات من الجميع: لم يعد منيعًا مثل سابق عهده. ينزع المخرج عن الرجل الفولاذي مناعته الخارقة، ليكشف عن هشاشة إنسانيَّةٍ اكتسبها من البشر. وهكذا تتحوَّل معاركه في الفيلم إلى صراع إنسانٍ يمتلك قوَّةً خارقة، لكنَّه يستخدمها للدفاع عن الآخر والتصدي لوجه الشر المتمثِّل في العنصريَّة والحقد تجاه الغريب.
لهذا يخوض سوبرمان المعارك برفقة "عصابة العدالة"، وكأنَّه بذلك يعترف ضمنيًا بضعفه، وعجزه عن إنقاذ العالم أجمع بمفرده. ويدرك في النهاية أنَّ النصيحة الجديرة بالإيمان هي تلك التي جاءت على لسان والده بالتبنِّي، الذي تعلَّم منه المعنى الحقيقي للإنسانيَّة. هنا يقدِّم المخرج تغييرًا لافتًا في خلفيَّة شخصيَّة سوبرمان، إذ لم يمت والده بالتبني في هذا الفيلم، حتى يمنح شخصيَّة الأب واحدًا من المشاهد المحوريَّة الهامة في بناء شخصيَّة سوبرمان، وتلقينه الدرس الأخير: أنَّ أفعاله نتاجٌ لقراراته، وليست متوارثةً من أبيه الحقيقي.
بهذا يُعيد المُخرج تأويل الهُويَّة من خلال سوبرمان: لقد جاء مخلِّصًا للأرض، لكنَّ إحسانه وشجاعته قُوبلَا بالتشكيك فيه، ممَّا فرض عليه أن يتعلَّم الدرس ويتصالح مع هويَّته المزدوجة، وأن يسمو فوق النظرة الفوقيَّة التهكميَّة للبشر. هكذا يعالج غربته الوجوديَّة التي بات يعانيها - كـ"الآخر" - في نظر البشريَّة التي يُعلِّمها المعنى الحقيقيَّ للُّطف الإنساني الذي باتت تفتقر إليه في الآونة الأخيرة، مثلما تعاتبه حبيبته لويس لين على طيبة قلبه وحسن ظنه المُفرط بالآخرين!
في النهاية، لا تعيش الأسطورة إلا بقدر ما تستطيع أن تتغيَّر. وسُوبرمان، كأيِّ بطلٍ أسطوري، ليس كائنًا ثابتًا من حجر، لكنَّه مرآةٌ تتحرَّكٌ مع الزمن، تعكسُ في كلِّ مرَّةٍ ملامح العالم الذي يرويها. ربَّما يختلف الجمهور على صُورته، لكنَّ هذا الخلاف نفسه هو دليلٌ على أنَّ الأسطورة ما زالت حيَّة، تنبض بأسئلة الهوية والعدالة والانتماء.