هكذا بكل بساطة يمكنني القول إن فيلم «شمس المعارف» للأخوين قدس، فيلم جميل، لا أكثر ولا أقل، ومن دون محاولة مبدئية لمعرفة السبب المنطقي، القائم على التحليل والتأمل، شاهدته المرة الأولى مع أبنائي، وشعرت بانعكاس جمال الفيلم على ضحكاتهم البريئة، التي أثقلتها الحمولة العاطفية الزائدة والقاسية في مسلسلات الأنمي، وبعد انتهاء الفيلم قالوا جميعًا وبصوت متحد: «إنه فيلم جميل»، وأضاف أحدهم ما معناه: «إن تجربة مشاهدة فيلم سعودي تجربة رائعة»، وأنا صدقت ذلك، ببساطة لأنني استمتعت بالفيلم كذلك، ولأن صدى كلامهم كان مرسومًا على صفحة وجوههم.
من خلال متابعتي لردود أفعال فئة الشباب السعودي على المنتجات الحديثة للسينما السعودية في السنوات الأخيرة، أجد أنهم يميلون إلى العمق في التحليل، الناشئ ربما من جوع منطقي للفن والجمال، ومن متابعاتهم للسينما العالمية، لكن الملاحظ في هذا العمق التحليلي أنه يميل إلى حالة التطلب، وأحيانًا إلى الرفض، في محاولة هي أشبه بمحاولة تحقيق الذات من خلال قول الرأي المختلف، تذكرني بحالة إنسانية في قصة «هوس العمق» للألماني باتريك زوسكيند، صاحب رواية «العطر» ذائعة الصيت، ولا بأس طبعًا في الذهاب للعمق والاختلاف، بل هو مطلب مهم لرفع مستوى توقعات التلقي، لكن المطالبة بالعمق تحتاج إلى منهجية نقدية لدى المتلقي نفسه، فالشباب إذا ما أرادوا الذهاب إلى مناطق العمق، هم أيضًا في حاجة ماسة إلى معرفة حدود هذا العمق ومنابته، حتى لا يمر من أمام أعينهم تجارب عميقة تتذرع بالسطحية أو البساطة، تمامًا مثلما حدث في فيلم «شمس المعارف» الذي بدا جماله بسيطًا للغاية، ونابعًا من أمور قد لا يتنبه إليها مَن يبحث عن العمق في ذاته، فيسفح من أجل ذلك العمق اللذة الكامنة في البساطة، التي قد يكون في جوهرها أصل من أصول مطالبهم.
حسنًا، الآن سأحاول أن أستنطق الجمال البسيط والعفوي، وربما العبيط، في فيلم «شمس المعارف». أقول العبيط وأنا أعني الكلمة، فالفيلم صُنِّف بالكوميدي، بمعنى أن هناك مساحة لهذا النوع من التعاطي مع الفن، ولا أقصد هنا الإسفاف؛ على العكس، أقصد بلوغ ذلك النوع من الكوميديا العبيطة، التي تمثل شكلًا واقعيًا من أشكال الحياة اليومية، التي تسهّل الوصول إلى الضحكة البسيطة، التي قد تظهر في وجود شخصية مثل شخصية الأستاذ عرابي الذي لعب دوره باقتدار الممثل المبدع صهيب قدس. وبالإضافة إلى تصنيف الفيلم، أجد أنه كان يحاول السخرية من الذات المطالبة بالعمق، هذه الذات التي تُمثِّل وجودَها في الفيلم شخصيةُ حسام الخياط بطل الفيلم، والذي أدى دوره الفنان الذي يشبه نفسه كثيرًا، براء عالم، فرغم سخريته الجادة واللاذعة من واقع الدراما السعودية، المتمثلة في مسلسل «طاش ما طاش»، وتشدقه بأسماء مخرجين عالميين، وبمصطلحات تقنية في التصوير السينمائي، يقع هو نفسه فيما كان يُحذِّر منه، ليضعنا أمام سؤال جوهري وعميق.
ما هو العمق؟ هل هو في ترديد مصطلحات وأسماء عظيمة لها مجدها داخل عالم السينما، أم فيما يمكن لنا محليًا صناعته، وبنكهة محلية تشبه واقعنا؟ هذا السؤال -بالإضافة إلى توليفة حكاية الفيلم، وعناصره الفنية من تصوير وإضاءة وممثلين بارعين، وقبل ذلك كله نص مكتوب برشاقة وخفة- يمثل بالنسبة إلى المتلقي الواعي جوهرَ العملية الفنية، فليس من السهل تقديم عمل جميل وبه كل هذا التخلي عن العمق، هذا في الظاهر، بينما تشي التفاصيل بغير ذلك تمامًا.
إن الأعمال الفنية التي تناقش موضوع الفن ذاته، أعمال في غاية التعقيد، تحتاج إلى رسم دقيق للشخصيات، وحبكة مقنعة، وانسجام تام مع خطابها، وهي بذلك تمثل مخاطرة كبيرة قد توقع المشتغلين على المادة الفيلمية في فخ التوجيه والمباشرة، لكن الذي شاهدته في فيلم «شمس المعارف» أنه سلم من هذا الفخ، وجَعَلنا -المشاهدين- مشدوهين أمام كمية الانسجام والتجانس، بين فريق العمل المقنع إلى حد بعيد، وبين مادة الفيلم المكتوبة والظاهرة في الكادر. أضِف إلى ذلك نجاة الفيلم من أمر مؤرق لصُنَّاع السينما المحلية، وهو الوقوع في مأزق البطء والرتابة، فالفيلم من هذه الناحية قدّم تجربة فريدة، تتميز بالديناميكية والتوازن الذي أوصل المتلقي إلى لحظة الانفصال عن العالم، والغوص في تفاصيل الفيلم. كل ذلك حصل دون ضغط درامي ممجوج ومبالغ فيه.
ولو دققنا في رِتم الفيلم المتوازن، الذي كوّن حالة الاندماج التي تحدثتُ عنها سابقًا، سنجد أن سببها هو خلو الفيلم من الفراغات أو النتوءات، فلا توجد لحظة من لحظات الفيلم زائدة أو دون هدف يخدم الحكاية، وهذا الأمر يوضح إلى أي مدى كانت الفكرة واضحة لدى كاتب ومخرج الفيلم، وقد ساعد في ذلك الاختيارُ الذكي لتقنية الفويس أوفر voice over، التي زادت من انسيابية الحكاية، كما أن وقت ظهور هذه التقنية في الفيلم وُظّف في أجمل توقيت، ما جعل للفيلم بُعدين متوازيين: بُعدًا حكائيًا، وبُعدًا صوريًا. أضف إلى ذلك تخفيف درامية الحكاية من خلال اللعب على جزئية الرسوم المتحركة، التي جاءت منسجمة مع المرحلة الزمانية التي يحكي عنها الفيلم (2010)، وهذا التنويع الفني حقّق تقاربًا جماليًا متجانسًا مع الفئة التي يستهدفها الفيلم، وهي فئة العائلة على الأغلب، دون التضحية بالفئات الأخرى، التي يحتمل تلقيها للفيلم.
أخيرًا، لا أعتقد أن تجربة فيلم «شمس المعارف» كانت تجربة سهلة، ولا أعتقد أيضًا أنها مرّت دون أن تترك أثرًا في الوسط الفني المحلي، حتى على مستوى التلقي. سيظل هناك مكان محفوظ في ذاكرة السينما السعودية لهذه التجربة، وفي ذاكرة الجمهور أيضًا، وهذه الذاكرة هي التي يجب أن نعول عليها، فهي المقياس الحقيقي لقياس مدى نجاح وقيمة التجربة، وما أجمل أن يرسخ الفيلم في ذاكرة الناس بهذا المستوى من القبول، المحفوف بالمحبة، القائمة على الجمال البسيط، هل أقول العبيط مرة أخرى؟ أعتقد أنني سأغيرها الآن لأقول، الإيهام بالشكل العبيط، لأن الأمر كان فيه قصدية مركبة، من أهم أهدافها تقديم مادة فنية خفيفة ولطيفة، ليس للغرض التجاري فحسب، بل للخفة واللطافة في ذاتها. أكتب هذا الكلام وأنا أبتسم لمجرد تذكُّر شخصية الأستاذ عرابي وحارس المدرسة الذي قام بدوره الفنان القدير، المرحوم سامي حنفي، ويَزَن الذي أدى دوره بعفوية رائعة إسماعيل الحسن، وإنني لا أتعجب من ابتسامة أبنائي، بعد مشاهدة الفيلم، فهذا ما يصنعه الجمال واللطف.