هناك انتقالٌ قصيرٌ ما بين «عجلة الحظّ والفنتازيا» للياباني ريوسوكي هاماجوتشي، وفيلمه الآخر «قودي سيارتي»، حيث اُختير الأخير لدخول اليابان لجائزة أوسكار أفضل فيلم روائي دولي، وتُعدّ المرة الأولى التي يحصل فيها المخرج على هذا الترشيح، كما يُمثل إنجازًا مُستحقًا بالفعل. وقد كتب الروائي الكبير «هاروكي موراكامي» الرواية القصيرة والتي تحمل نفس عنوان الفيلم، حيث استند عليها هاماجوتشي هنا لبناءِ نصٍ طويلٍ مستلهمٍ من تفاصيل نألفها لكلٍ من المخرجِ والكاتب، وصُنع الفيلم كما لو أنها الخاتمة الأخيرة لعملٍ روائيّ، إذ بأربعة فصولٍ مترابطة يقدم هاماجوتشي «قودي سيارتي» وفق إيقاع هادئ بطيء. ويحدث أن يَتماهى عمل هاماغوتشي الأخير ما بين القصص الروائية القصيرة وفنون المسرح مثل «وصلة غنائية طويلة»، تتقاطع فيها أربعة فصول؛ إذ كان للكاتب «تشيخوف» حضورًا طاغيًا في سينما هاماجوتشي هنا، وذلك بتقديم نسخة لمسرحيته: «الخال فانيا»، يؤديها ممثلون يتحدثون لغتهم الأم، كجزءٍ من الطريقة التي طالما أحبها المخرج، والبطل المسرحيّ هيدتوشي نيشيجيما بدور (كافوكو)، بإسلوبٍ شاعريّ لا يَخلو من صرامته المُعتادة.
ينسج هاماجوتشي خطوط روايتهِ عبر تداخلات لم تكن لتبدو معقدةً أكثر من كونها مجموعة نصوص لأرواحٍ متعبةٍ للغاية، جَمع من خلالها هذا البُعد النفسي لأبطاله وفقًا لهواجس «تشيخوف» بشخوصهِ المُعذّبة، ولمحات الحزن الطفيف الذي يُوشك أن يتداعى بشدة في عوالم موراكامي؛ إذ قُدّم الفيلم بلمحةِ النصّ الكلاسيكيّ الهادئ، حيث بدأ يَنعم كلًا من أبطاله هيدتوشي نيشيجيما، وزوجته أوتو -امراة هاماجوتشي المفضلة بأبعادها الغامضة والمظلمة كما وصفها الفيلم- بهدوءِ ما بعد التواصل الحميمي؛ حيث ترتقي طاقة الخَلق والاستماع لكلٍ منهما تحت توجيه مُحدد يتضمن حالاتٍ من النشوةِ والتعبيرِ والكتابة، فتراهم يتحدثون عن فتاةٍ مراهقة مفتونة بزميلها في الفصل حيث تتسلل إلى منزله لمحاولة استدعاء مشاعرٍ بعينها، مع الاحتفاظ بأشياء تذكارية غير المفقودة، و يتم تعيين خيالهم العفوي هذا كواحد من طبقات سرد القصص التي تتداخل في النهاية، «كما لو أن الفيلم يبدأ بحياة زوجية غاية في الجمال»، إلا أن كل الأشياء تتبدل، فبعد عامين من مأساة شخصيةٍ مليئة بالاستياء الذي لم يتم حلّه، ينتقل «كافوكو» إلى هيروشيما محاولًا أن يبتلع ما تبقى له من ذكرى «أوتو» التي قد رحلت بالفعل، تاركة خلفها تساؤلات لم يكن ليجد لها إجابات حقيقية، وهناك يلتقي «كافوكو» بـِ«توكو ميورا» بدور «ميساكي واتاري»، تلك الشابة المنطوية والتي لم تتعلم إلا شيئًا واحدًا في حياتها (قيادة السيارة بمهارة)؛ حيث يتردد «كافوكو» في البداية فيما إذا كان يريد سائقًا بالفعل أم لا، يُصبح لوجود الآخر في النطاق المألوف لديه مصدرًا غير مُحبب، غير أنه يستسلم وفقًا لاشتراطاتٍ قد حُددت سلفًا.
تتألق سيارة الفنان باللون الأحمر الساطع في الشوارع والطرق السريعة، «مثل معبدٍ متنقلٍ للحرية والعزلة»، جسّد فيه بطلا الفيلم مشاعر التنقل اليوميّ من خلال طريق العودة والمغادرة، إذ يُمثل طريق العودة بدواخله منزل محبوبتهِ الراحلة، وطريق المغادرة يمثل تداعيات ماضيها العالق فقط في مُخيلته. وفي صمتِ تلك الفكرة تتحول عجلات السيارة الحمراء إلى ما يُشبه بكرات دوارة لشريط كاسيت في جهاز تسجيل، وللحظة، يندمج كل شيء، السائقةُ والفنان، كما لو أن الصوت الملتقط بِعذوبةٍ شديدة على الجهاز يعمل كوقودٍ للسيارة -وهو كذلك بمعنى ما-؛ لأن صوت «أوتو» الحزين أخذ يصاحبهم مثل شبحٍ صوتيّ مِيلاً بعد ميل، وما ينمو من خلال تلك الأجواء حالة يصعب من خلالها التمييز بينهما، فكلاهما يصبح واحدًا في سلسلة متصلة لأشياء مشتركة، كما لو أن العالم من حولهما قد تلاشى وأصبح غير ذي صلة.
يتأمل فيلم «قودي سيارتي» محنة ميساكي الداخلية ببرودٍ مُفتعل، «السائقة التي تعاني ذنبًا لم يُغتفر دُفن تحت أنقاض ذكرى قديمة ميتة». ميساكي غير مندفعة بقوة كبيرة ولكنها كمن يترك الألم يَصرخ في وقته الخاص، ينهار بطريقة مجزأة، وتحديدًا عندما تتلقى هي وكافوكو أخيرًا تلك الراحة الإلهية للتنفيس عما بداخلهم، فكان لذلك الاحتواء العاطفي الطويل إطلاقًا مذهلًا لأحزانٍ مشتركة، فقد حافظ كُلًا منهما على رباطةِ جأشٍ، وحالةٍ من الكبت الشديد تتغذى على مبرراتِ اختلاقها ذاك، حتى يتشبث كلاهما بالشيء الذي يحبه أكثر من غيره، ثم يكشف عنها هاماجوتشي كحالة الانتظار الطويل لشيءٍ ما نريده، ولكننا نعجز عن الإفصاح عنه، حالة الصمت المُطبق للغضب والحزن معًا؛ إذ من خلال إيماءاتٍ رصينة، وحصنٍ لا يمكن اختراقه، نفقد الرغبة في التخلي عن أي تلميح يكشف شُخوصنا الحقيقية. وخلال مشاهدات البروفات اليومية نحس بالتواصل الدقيق لِـ«كافوكو» مع فريقه، بما في ذلك النجم المعاصر كوجي تاكاتسوكي «ماساكي اوكادا»، والذي أظهر تقارب تم إنشاؤه بالفعل حيث كان لدى الأخير علاقة بالفعل مع «أوتو» الزوجة المتوفاة، تاركة تاكاتسوكي أيضًا كضحيةٍ أخرى لخيالاتها القصصية، بتساؤلاته التي لم تخلو من حُزن وألمٍ دفينين. فعندما أكمل تاكاتسوكي الرواية الناقصة لِـ«كافوكو»، سيطرت حالة من الصمت المهيب على المشهد، ومع إتفاقٍ غير مباشر بين كلًا من السائقة والفنان تُشدد من خلاله على أنه لا يوجد ما يستدعي الكذب بالفعل، مما يكشف القناع عن ضحايا «أوتو» أخيرًا وعن كونهم أشلاء متصلة ببعضها البعض وصولًا إلى «كافوكو»، كما لو أنها تحصر ممثليها في عوالمٍ خاصة وتنسج من خلالهم ذلك اليأس المحطم للأرواح، فَـ«أولئك مَن كُتبت لهم الحياة، مجبرون على تذكر من سبقوهم بالرحيل، شاؤوا أم أبوا».
يستخرج الفيلم الرمزية البصرية المهيبة من الأحداث التي تبدو عادية، وذلك في الصور الدقيقة لكاميرا المصور السينمائي Hidetoshi Shinomiya وعلى سبيل المثال: «لقطة ليد يوسوكي وميساكي من خلال فتحة سقف السيارة مُمسكين بالسجائر حتى لا يتغلغل الدخان في السيارة الحمراء المقدسة بالنسبة إليهما»، وتُجبِر المحادثات الطويلة في المقعد الخلفيّ في بقاء الكاميرا على وجوههم، وتسجل نطق وردود فعل الآخر دون زخرفة أخرى، كحالة من التواصل التي تتلخّص في أن ما لا يُفهم من خلال اللغة يُفهم غالبًا بالشعور المشترك بالوحدة. ويُشكل صوت الشريط المسجل طوال الفيلم الحلقة الحزينة ما بين الفنان ومسرحيته، وما بين أوتو، ويوسوكي؛ حيث يحافظ على بروفاته الطويلة بيأسٍ تام كما لو أنها محاولة بدء محادثة لم تنتهي بعد، أو خلق أخرى جديدة كان قد خسرها بالفعل في تلك الليلة.
يُعيد هاماجوتشي صياغة البُعد الإنساني بصورٍ سينمائية لحياة واقعية، تتشارك فيها خطوط حياة أبطاله، ويريد من خلالهم إيصال معنى دقيق للحياة بتعقيداتها المختلفة، وتحديدًا لأولئك الذين طالما نشعر بالفعل بأننا نعرفهم جيدًا، وفقًا لظروفٍ حياتيةٍ مشتركة، تهزّ بدورها مبادئ الإنسان وإيمانياتِه. حيث نتخلى مع مرور الوقت عن دورنا في إطلاق الأحكام شريطة الاحتفاظ بالآخر، للإحساس به كما لو أنه أصبح جزءًا من الهوية التي تكبر معنا، احتضان الألم الإنساني كمحاولةٍ أخيرةٍ لتهدئة أرواح مذعورة بالفعل، الرحمة اللامحدودة للآخر حتى نستطيع بدورنا أن نخلق ذلك الوهج الآمن لاستمرارية التواصل. وبلغة الصمت المهيب للأشياء، وبعيدًا عن تركيبات اللغة وتعقيداتها، يَصدح الفيلم بمواساة «سونيا» للخال فانيا، كدفعةِ أملٍ أخيرةٍ وصامتةٍ تنبع من روح الفنان نفسه. لقد مزج هاماجوتشي ببراعةٍ «قودي سيارتي» بروح الفن؛ إذ يُعيدنا ما قدمه إلى طُرق لا يمكننا أبدًا استيعابها أو تخيلها دون الاتصال بالفنّ، فأن نتصل بعناصر مختلفة تمامًا في قطعة عملٍ سينمائية واحدة، «يذكرني ذلك فقط بالقوة المطلقة للجوانبِ العلاجية للفن الذي نرتبط به شخصيًا، ونتفاعل معه».