الخوف له عدة تعاريف، له من المثالب والمعايب وله من الفضائل والفوائد، ولا يمكن حصره ولا نسبه لإيجابية أو سلبية. يتأرجح ما بين التوجس الذي نسعد به لاحقاً، والشجاعة التي فضلناها عليه فلم تكن البطولة المرجوة، بل كانت إصغاء أعمى قاد إلى التهلكة. أو لنقل هو الغريزة التي تراودنا وتحذرنا مما قد يهدد حياتنا. ولا أقصد هنا فقط الرهاب المرتبط بالهلع والذعر، كالذي خُلِقَ بي منذ ولادتي رغم ارتباطي الوثيق بالمدينة الساحلية القريبة من شاطئ الخليج العربي —الخُبر—فالبحر بالنسبة لي أشبه بأن يطفو المصاب برهاب المرتفعات بالقرب من السحب على أمل أن يخذل الجاذبية، بينما يدعوه الصوت الفاتن المجهول بالأسفل بهيئة دوار، فأنا مستعد لأن أكون مخلوقاً أقرب إلى جذع خشبي من فقر كثافته لأتفادى قعر القاع السحيق المجهول. وقد تتكالب الظروف والصدف لتجتمع المخاوف الداخلية بالخارجية كما حدث مع مفوض الشرطة "برودي" من فيلم "الفك المفترس" لستيفن سبيلبيرغ—الصادر في صيف عام 1975—والذي كان مصاباً برهاب يسمى "ثالاسوفوبيا"، وعلى الرغم من رهابه، فإنه كُلّفَ ليكون مسؤولاً عن سلامة مرتادي الجزيرة السياحية "أميتي" الشهيرة بمصايفها الشاطئية. ولكن في هذا الحديث سأحاول أن أتفادى القليل من التعمق في الاضطرابات والهلع المرضي، وسأذكر الخوف من الأجسام المادية الملموسة، كأن تكون لقمة سائغة للمخلوقات التي تعيش بالبحر مثلاً!
ولكن ما هي المخلوقات المعنية بهذا القول؟ أهي سمكة البيرانا، أم قناديل البحر المكعبة أو الهيدروفينيا، كون اسم "القرش" يعتبر منفراً بوقعه على الآذان، كالحملةِ التي أراد بها المفوض —من فيلم الفك المفترس— تحذير السياح من القرش بعد أول حادثة افتراس، حتى تصدى له أحد المستثمرين في الجزيرة، خشية تحوّل الأمر إلى رهاب نفسي أكثر من كونه توعوي، وكأنه مخلوق إبليسي؟ فحتى الدعاية التلفزيونية التي قدمتها شركة يونيفيرسال للفيلم حضرت بهذا السياق: «كأن القدير خلق الشيطان، وأعطاه فكاً» ترسيخاً لعلو كعبه.
قال المستثمر:
«أن تصرخ على السياح: "سمكة باراكودا!"
سيقول الجميع: "ماذا؟"
ولكن إن صرخت: "هناك قرش!"».
فأنت تحكم على الجزيرة التي تعتمد على السياحة الشاطئية بالإفلاس. وسيذعر الناس كالوطاويط الفزعة، وهذا يقودني مجدداً للعامل النفسي الذي أردت تفاديه بالبداية، وكأنه يذكرني باقترانه بكل ملموس، فإن كان البحر قرين الغدر فالقرش قرين اللارحمة، وأعتقد بأن مشاهد الأفلام الحالكة المحفورة بذهننا منذ طفولتنا غير الخالية من الرقابة الأبوية، تسببت بشيء كبير من هذا الرهاب المترسخ في اللاوعي. فمحلياً كان هناك الفيلم الكويتي الأول "بس يا بحر" الصادر عام 1972، والذي أوضح لنا أن للبحر مكتسبات، إلا أن خسائره أعظم، كالمشهد الذي قامت فيه والدة الصياد—الذي وافته منيته أثناء سعيه—بإعادة اللؤلؤ أو الدانة للمكان الذي جناها منه، قاذفة إياها، قائلة: «خذ الله يغنينا عنّك»، طالبة منه أن يتركهم وشأنهم ويبعد عنهم شروره، فقد كانت العائلة مُطارَدة بلعنة هذا العالم الأزرق ومخلوقاته، إذ تعرض زوجها —والد الصياد— قبل ذلك لإعاقة جسدية جراء التهام القرش لإحدى ذراعيه بوحشية باردة ذكرتني بوصف القبطان كوينت في الفيلم الأول حين قال: «ما هو مميز في القرش، أن لديه عينين لا حياة فيهما، عينان سوداوان مثل عيون الدمى، عندما يتجه نحوك لا يبدو أنه حي، حتى يبدأ في نهشك، تلك العينان السوداوان تصبحان بيضاوين، ثم تسمع الصراخ العالي الرهيب».
الصراخ المطابق لفجيعة السائح —الشاب— الروسي على أرض الواقع، الذي صاح في والده: «والدي، أنقذني!» وهو يستنجد به، قبل أن يمزقه قرش شاطئ الغردقة في البحر الأحمر، ليتحوّل البحر أحمرَ بالفعل، وقد تشربنا بسبب هذه المصيبة معلومات كثيرة، من قبل مجتهدين وعلماء بيئة وجيولوجيا بحرية، بل ومن قِبَل المتأثرين بالأفلام التي أضافت جانباً درامياً أضرّ بالحقائق التي اجتُزأت لتضيف بعداً كابوسياً، فانفلت الأمر حتى لامس أطراف الاستنتاجات المؤامراتية كآلية تحجم من إهمال الاحترازات الأمنية، كوصفها حادثة حصلت بفعل فاعل، ولا يمكن لها أن تتكرر لاحقاً!
ولكن الخطأ الفادح الذي قيل بأنه سيضر بالسياحة هناك ليس القرش، بل الرجعية في التعامل مع الأمر، كردة فعل العاملين هناك وضربهم له بعد اصطياده؛ ما يدل على الذهنية الوقائية والثقافة التعاملية مع تلك المعضلات، فما الذي يختلف بين مشهد ضربه وترديد «أكل الزباين» وبين المشهد السينمائي لانتقام والدة الطفل —إحدى ضحايا قرش فيلم "الفك المفترس"— حين رصدت مكافأة كبيرة لمن يقتص منه، في لوحة كبيرة وُضعت أمام الملأ وأعين السياح، ومشهد الشاب في فيلم "بس يا بحر" حين سأله زميله عن نيته من قدومه إلى رحلة الغوص هذه، إلى جانب جمع اللؤلؤ، ليرد عليه قائلاً: «لأنتقم لوالدي»، مضيفاً بأنه ليس شرطا أن يعرف "الجرجور" بعينه، فجميع الجراجير أعداؤه. النماذج في الصور السابقة تحركت كردة فعلٍ لإخماد الخوف أو مجابهته، دون أن نذكر الحادثة الأسوأ بيئياً، والتي حصلت في إندونيسيا: القرويون الذين قتلوا 300 تمساح، انتقاماً لرجل واحد فقط من المقاطعة —ظُنَّ بأنه ضحيتهم— كاستجابة غريزية لا يفهمها الحيوان.
فالحقد برأيي جنوح لا مكان له في منطق التعقل، بل مكانه الانصهار في بوتقة معينة أعلنت نفيرها، فما الحقد إلا خوف وجد نسقه الجمعي كديناميكية اضطرارية أُنشأت لطرد الكابوس المستوطن للأفراد، للتخلص من التهديد الدائم أو المحدق، كآلية تتقلص بها مشاعر الذعر لدى الفرد، لتأخذ حيزها التكافلي، كحمل ثقيل وجد خفته بالتشاركية.
ولعل الأفلام التي تناولت هذا الصراع تأرجحت ما بين التنوير والعماء، ولكني حتمًا أتفق مع الناقدة ساشا ستون في مقالتها المحكية التي تحدثت فيها عن ذكرياتها مع فيلم ستيفن سبيلبيرغ —"الفك المفترس"— والذي شَاهَدَته برفقة أختها 40 مرة، دون أن أولي انتباهاً للرهاب الذي خلقه في بيئتها وقتها وفي بيئتي، فالخوف هنا سأتقبله كضريبة مقابل الجمال السينمائي. قالت: «أَفضل الأفلام، مثل أسوأ الناس، يمكن أن تترككم مع الندوب، ويمكن أن تبدل خوفكم بالشجاعة، وإن كنتم محظوظين، ستبث فيكم الأمل. وحين ينعدم الأمل ربما تكون هناك أسماك قرش، وفصول صيف ضائعة منذ زمن طويل».
وهناك أيضاً الخوف النقيض للأجسام المادية الملموسة، وهو الخوف من الأجسام غير المادية المحسوسة، وهذا الخوف فضفاض نوعاً ما، كونه عديم الهيئة، أو كما يطلق عليه بصيغة الجمع "الجن"، والغريب في هذه المفردة الأم هو أنها تقع على كل ما هو مُبطن وخفي عن العين، من أقصى فرحة لأقصى جزع، وأقصد بذلك الجن والجان والجنون والأجنة والجنة!
والمفردة المقصودة بصورتها "العفريتية" نجدها في السينما والواقع تتغذى على الأجساد حين تتلبسها، وعلى المشاعر وهشاشة الإيمانيات، فعندما نأخذ رواية "طارد الأرواح" المقتبسة عن قصة حقيقية للروائي ويليام بيتر بلاتي، أو الفيلم الصادر عام 1973 —المشتق من الرواية— والذي أخرج المشاهدين من قاعة السينما مُحملين بمشاهد أتعبت الحجاب الحاجز لديهم وتسببت بضيق تنفس، بسبب الخوف الذي كانوا شاهدين عليه. نجد العدو فيه يمتلك هيئة ضبابية غير واضحة، يتلبس المرء بصورة جدلية تكتشف بها التنازع، فتارة تظن بأن لا شأن للعلم بذلك العذاب الساكن بجسد الفتاة الصغيرة المعذبة، لتقرن هذه اللعنة مباشرة في العبادات الوثنية والإبليسية والإله بازوزو وشيطان الظهيرة وغيره حسب التفسيرات الدينية، وتارة أخرى تعود لتنتزع روايتهم معتنقًا التفاسير النفسية العقلانية المفندة لفكرة التلبس، مقتنعًا بشرحهم للميثومانيا والظواهر الدموية النادرة مثل الستيغماتا. تشهد بالعمل على صراع أبدي بين كل ما هو اتزاني وإيماني في تفسير المخاوف التي تعصف بالإنسان دون حول منه ولا قوة. وهذا ليس مُستغرَباً، فقد شهدنا مثله على الصعيد الواقعي، في حقبة شيوع الرقاة الشرعيين، واختلافهم مع المجتمع الطبي في تفسير الصرع مثلاً.
ولكن هذا العدو —برأيي— هو الأشد فتكاً من القرش، فمن دعاية يونيفيرسال لفيلم "الفك المفترس" والتي ذكرناها مسبقاً —«كأن القدير خلق الشيطان، وأعطاه فكاً»— ندرك عادة أن قدرة المشبه به تتفوق على المشابه له، فالأخير —القرش— عُيّن كامتداد ضعيف بالإمكان تفاديه، أما المحسوس فيحضر من باب التنبيه الشهير: احذر من العدو الذي يراك ولا تراه.
المستفاد من هذا الحديث هو أن للخوف أنواعا وأرناقا وألوانا، وتشابهٌ قد يتحوّل إلى تباين كبير ما بين الواقعي والمتخيل، وبإمكاننا التحدث باستفاضة عن أشكاله على نحو شبيه بصورة الساحر حين يُخرج من فمه مناديل متصلة ببعضها، ولكننا ذكرنا ما يستعصي على الإنسان مجابهته وتحييده وتغيير مساره. ذكرنا ما يغير مساراتنا للأبد أو ينهيها.