انترستيلر: هُوَ الحُبُّ..

January 9, 2023

إِلَى مَنْ تَلْعَبُ بِالزَمَنِ فِي داخِلِي

كَما يَفْعَلُ نَولان فِي أَفْلامِهِ: شَذَى

    أفاد هانز زيمر -موسيقار انترستيلر- مرة بأنه أصر على تسجيل موسيقى الفيلم بداخل كنيسة، وذلك لاستجلاب الروح القدسية منها إلى الفيلم عبر أثير الموسيقى. هذه معلومة طريفة، لكن لو تفحصنا قليلًا في الأمر فلا بد أن نسأل: لماذا؟ ما الرابط بين ثيمة شديدة العقلانية والدنيوية ومحاولة استجلاب قدسية مكان كالكنيسة إلى فيلم ما؟

فيلم انترستيلر أشهر من نار على علم، وحين صدوره في  2014 أثار ما أثار من إعجابات أو استهجانات أو حتى مقارنات بينه وبين أفلام أخرى على رأسها سبيس أوديسي لستانلي كوبريك. وحاليًا، في نهايات 2022 تمت إعادة-إصدار الفيلم لدينا -في السعودية- وبالطبع لم يكن لهذه الإعادة ذلك الصدى اللهم، ربما، بين ثلة من محبي السينما ونولان. ومع مرور السنوات على الفيلم وخفوت الضجة حوله حتى مع إعادة-الإصدار فلا أظنه من المفيد محاولة نقده أو قراءته من نواحيه الفيزيائية ومقارناته مع أفلام أخرى؛ فكل ذلك مطروق ومفروغ منه أو يكاد. 

"لَوْ لَنا فِي الأَرْضِ رُواقٌ واحِدٌ/ لَوْ لَنا تُفّاحَةُ اللّٰهِ جَثَوْنا فِي يَدَيْهِ"

ما أريد الذهاب إليه، وأعتقد بأنه ذات ما أراد الفيلم الذهاب إليه، في تصوراته الأوسع، هو أمر بسيط، برغم تعقيده، والذي سيبدو للوهلة الأولىبعيدًا عن الفيلم؛ ألا وهو الحب. حيث وجدته بمثابة الجواب الوحيد الذي توصلت إليه في فهم محاولة زيمر لتزويد موسيقاه بروح قدسية بمعية أركان الكنيسة. الفيزياء أمر دنيوي مهما بلغت، حتى وإن شقّت الفضاءات. تظل في تلك الحدود لأن منطلقها الأساس هو العقل. بيد أن شيئا يكمن وراء كل هذا، يطوّقُ ولا يتحكّم، يعطي قراءات تجعل رواد الفضاء وعلماءه يتجنبّون التصديق بها. إنه الكوكب الأخير، الكوكب المنجَى كما أشار الفيلم في مشهد النهاية.. هو الحب.

"قُلْ هُوَ الحُبُّ/ وَلا تُصْغِي لِغَيْرِ القَلْبِ/ لا تَأْخُذْكَ الغَفْلَةَ"

أستطيع المجادلة بالقول إن هذا الفيلم وبقدر ما هو فيلم خيال علمي هو، أيضًا وقبلًا، فيلم حُب. بالطبع، ليس فيلمًا رومانسيًّا ولا أي شيء من هذا القبيل. إنما هو فيلم ينتصر لمنطق الحب على منطق العقل. نعم، ربما كان العقل هو ما سينقذ الأجيال القادمة التي لم تُولد بعدُ، بل وربما كان القابلة والحاضنة لتلك الأجيال. لكن الأجيال الراهنة، أعني البشرية التي على الأرض هنا والآن، لن ينقذها سوى الحب. هو حبل النجاة لو انتبهنا. وهذا ما كان يقوله الفيلم في سرده للحلّين المتاحين لإنقاذ البشرية. كان لدينا الحل أ. والذي يتلخص في محاولة إيجاد كوكب جديد يصلح مسكنًا جديدًا للبشر، بعد الأرض الخراب، ننقل إليه شهود النهاية الأرضية. ولدينا الخطة ب. وهي التي تعتمد العِلم في الحفاظ على أجيال جديدة من البشر، بوصفهم أجنة مجمدة، ونقلهم إلى مكان آمَنَ وأسلَمَ حتى يفقسوا عن أنفسهم ويكونوا بشرية جديدةً "على بياض"؛ وهذا الحل يحتّم علينا في اختياره التخلّي عن البشرية مع مصيرها على أرض لم يبق فيها غير الغبار والجوع. إن العقل يقول: فلنحفظ أبناءنا ولو على حساب أخوتنا. أما الحب فلا يقول شيئًا، إنه يوحي وحسب، بالحدْس.

"بَرِيءٌ/ كَمَثَلِ غَزالٍ يُسابِقُ دَرّاجَةً"

في الفيلم نرى أن حُجة العالمة-العاشقة "إميليا براند" -قامت بدورها آن هثواي- للذهاب إلى كوكب "إدموندز" لا تتجاوز قولها -ببساطة وبراءة-"إنها تشعر بذلك" أي أنها تشعر بأن ذلك الكوكب هو الكوكب المراد من الرحلة لإنقاذ البشرية. "تشعر بذلك" بمعنى تحدسه حدسًا ولا تستطيع البرهنة عليه. نعلم من سياق القصة أن "إميليا" في علاقة حب مع "إدموندز" أصلًا. هذه الحجة على اختيار الذهاب إلى أين -كوكب "مان" أم كوكب "إدموندز"- تُنحّى جانبًا في التصويت ويُؤخذ بخيار الذهاب إلى كوكب "مان" الذي كان يرسل إشارات وقراءات مبشّرة؛ أي أن العالِم "روملي" والرائد الفضائي "كوبر" -قام بدورهما ديفيد غيسي وماثيو ماكونهي، على التوالي- قد اختارا تفضيل العقل. وذلك ما أدى بهما إلى كوكب لا شيء فيه إلا الصقيع والثلوج والرياح الباردة في مساحات لا متناهية؛ وكأن في وصف هذا الكوكب، كوكب "مان"، وصفٌ للعقل.. إنه كوكب لا يصلح للحياة!

"وَعَنْ مَذْهَبِي لَمّا اِسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الـ/ 

هُدَى حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ضَلُّوا"

يسرد لنا الفيلم ما يمكن أن يحدث في حالة أردنا اتباع العقل على حساب الحب، وكأن محاولة قتل "مان" لـ "كوبر" ثم فراره إلى المركبة "إندورانس" عبر مكوكه المفرد وما حدث بعد ذلك من انفجاره نتيجة محاولته الفجة في إرساء المكوك على المركبة. أقول وكأن كل هذا يعبّر عما يمكن أن يُفضي إليه العقل؛ القتل ثم الفرار والنجاة بالنفس على حساب الآخرين،.. إذن: هي الحرب. 

"وَالَّذِي لا يَنْتَهِي، لا يَنْتَهِي/ مِثْلَ سِرِّ المَوْتِ/ وَالباقِي لَنا مَحْضُ اِنْتِحارٍ"

يموت "مان" (العقلاني) أشلاءً في الفضاء ويُستكمل السرد في القصة ليوصلنا إلى أنه لا بد من الذهاب إلى الأمل الأخير والمتمثل في كوكب "إدموندز"، غير أنه ما من وقود كاف في المركبة للذهاب إلى هناك. حينذاك يتفتق ذهن "كوبر" عن حل وحيد وهو أن "يقذف" بالمركبة نحو الكوكب المرجوّ وذلك عن طريق الالتفاف حول الثقب الأسود والاستفادة من قوة جاذبيته لـ "قذف" إميليا إلى الناحية البعيدة على "أمل" أن تجده كوكبًا صالحًا للحياة.

"وَيَحْسُنُ صُنْعًا بِنا/ وَيُسِيءُ"

لدينا ثلاث مفردات مفتاحية هنا: حب (رديفة لكوكب إدموندز) قذف، وأمل. لا يبتغي منك الحب شيئا أكثر من أمل أن تصدق به، أمل أن وراءه أمرا يستحق، وهو -الحب- لا منطق ولا ضريبة -في آن معا- له إلا أنه يبتغي منك أن تقذف بنفسك؛ إلى هاوية، نحو جهة بعيدة، فيما بين النجوم أو ما خلفها.. لا يهم، المهم أن تقدم على هذا الفعل، فعل الانقذاف، بعمى تام لا يساعدك فيه إلا أمل غير واثق من نفسه. وهذا الفعل على ما فيه من منافاة للعقل يحتم عليك غالبا أن تضحي، وهو ما فعله "كوبر" بنفسه عندما أفلت زمام مكوكه هاويا بنفسه إلى داخل الثقب الأسود.

"عَسَى عَطْفَةً مِنْكُمْ عَلَيَّ بِنَظْرَةٍ/

 فَقَدْ تَعِبْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الرُسُلُ"

هكذا يروح "كوبر" في بُعد آخر، بداخل الثقب، الداخل فيه مفقود والخارج مولود -حسب التعبير الشعبي- "كوبر" الرائد العبقري لكنه، وقبل هذا، الأب المشتاق لابنته على الأرض، الذي أعطاها الوعد بعودته. وفي داخل الثقب نكتشف، مع بطلنا، بأن الزمن ليس أكثر من مكان متقن الصُنع من عمل أولئك الذين يسميهم الفيلم بـ"هُم". و"هُم" هؤلاء ليسوا أكثر من بشرية مستقبلية تحاول إنقاذنا لاستكمال حلقة تاريخنا الإنساني. وعليه فمهمة الأب الآن ليست قيادة مركبة فضائية بقدر ما هي مهمة العاشق البسيط في إرسال الرسائل من بُعد آخر إلى من يشتاق إليه. أما المشوقة، في حالتنا هذه، فهي الابنة، وقد كبرت وأصبحت فيزيائية على الأرض. عليهِ، فإن رسائل العشاق في الأبعاد الزمكانية ليست مجرد غراميات، إنما هي حل فيزيائي لإنقاذ البشر.

"قُلْ هُوَ الحُبُّ/ يَراكَ"

في هكذا سياق يقلب المفاهيم بخصوص الزمن ووجود بشر في مستقبل ما، سياق يحدونه من جوانبه الحب والأمل المشوب باليأس. تظهر عبقرية زيمر -وهي ظاهرة على طول الفيلم- حيث في أشد لحظات اليأس نسمع نغمات توحي بالأمل، وفي حالات التوهان ننتبه إلى نغمات مشدودة ما بين القلق ووَشْكِ الوصول. نسمعها تأتي من خلفية المشهد، ولا أرى في هذا مجرد تقنية طبيعية في العمل السينمائي، بل هي أكثر من هذا، إنها حدْسُ الحب المسموع، صوت شيء ما وراء المشهد يعرف الفكرة ونقطة النهاية. على الأغلب، عقلانيًّا، هو زيمر بجلالة قدره يغشّشنا -نحن المشاهدين- على طريقته بالموسيقى. لكنني سأقول: لا!.. هو الحب.

"قُلْ هُوَ الحُبُّ: هَواءُ سَيِّدٌ/ وَزُجاجٌ يَفْضَحُ الرُوحَ"

بعيدًا عن الفيزياء بكموميتها ونسبيتها، يوجد لدينا في التصوف المشرقي، مفهوم يقترب من كل هذه النظريات التي بقدر ما كانت تتوسل بالعقل في الفهم، فإنها تصل في نهاية المطاف إلى حالات هي أقرب إلى الوجد الصوفي منها إلى المادية الجامدة. يقول سادتنا في التصوف، شرحًا لوجود العالم، إن عملية الخلق والإيجاد لم تكن أكثر من عملية "فيض" إلهي. هذا الفيض الأول فاض عن نفسه فيوضات أخرى، وصارت كلها تتجاذب في مدى لانهائي. وكأن الفيض الأخير، حيث المجموعة الشمسية والأرض بمن وما عليها، تشتاق إلى الفيض الأول. بحسب نظرة المتصوفة، القائلين بالفيض أو القائلين بالإشراق (السهروردي)، فالكون، الأكوان كلها؟، في حركة وَلَهٍ سرمدية لا تتوقف إلا بقيام الساعة. والمدى، ليس أكثر من مكان لا نستوعبه، هو الدهر. تلك مقولة المتصوفة -بتبسيط مخل، غالبًا- أما المناطقة فقد سألوا، وما سبب حدوث الفيض الأول أصلًا؟ وكان جواب الصوفية ليس أكثر من قولهم: هو الحب!  

"هادِئٌ كَخَيالٍ يُرَتِّبُ أَلْفاظَهُ/ مُظْلِمٌ، مُعْتِمٌ، وَيُضِيءُ/ فارِغٌ وَمَلِيءٌ/ بِأَضْدادِهِ"

لو قلنا إن حركة الأكوان ليست أكثر من موجات عظيمة تتراوح ما بين الفيضين الأول والأخير، وكأنها نظرة بين عاشقين بعيدين عن بعضهما البعض، فلا أظننا نجانب الصواب. سوى أننا نفترض وجود حد، حدين بالأحرى، ما بين الأول والأخير، والحب يعلمنا أنه ما من حدود. كما أن الفيزياء تقول ما يشبه ذلك إذ تفيد بأن الزمن لا محدود. فهل ناقضنا أنفسنا هنا وجانبنا الصواب بالفعل؟ أم هل يكون الأمر برمته مجرد دائرة؛ دائرة عظيمة لا متناهية لا تنفك عن الحركة بنا؟ إنها نظرة شعرية، لا أكثر، وبرغم هذا هي وحدها التي تعطينا "الأمل" في الفهم، المؤقت على الأقل، و"الأمل" أيضًا في لقاء الأب-الفيض الأول بابنته العجوز-الفيض الأخير.

"نصحتك علمًا بالهوى والذي أرى/

 مخالفتي، فاختر لنفسك ما يحلو"

الهوامش:

* أرجو على القارئ الكريم الاطلاع على ثلاث قصائد، أحبذ تسميتها بـ"ثلاثية هو الحب"، ١. هو الحب-ابن الفارض، ٢.هو الحب-محمود درويش،٣. قل هو الحب-قاسم حداد. وذلك لفهم ترابط الاقتباسات أكثر مع النص. وإن لم يكن من أجل المقالة فمن أجل الاستمتاع بأفضل ما قالت العرب تعريفًا للحب.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى