مايكل أنجلو أنطونيوني: ثُلاثيّة الحداثَة وأشياءٌ أخرى.

October 5, 2022

«أنطونيوني كانَ هُنا»:

    ينتمي المخرج الإيطالي والعالميّ (مايكل أنجلو أنطونيوني - Michelangelo Antonioni) إلى مجموعةِ المخرجين السينمائيين الفنانين، المتشبعين بالثقافةِ والأدب، والفنون الموسيقية والتشكيلية المختلفة، ضمن فترةٍ تاريخيةٍ مهمة من تاريخِ تطوّر السينما العالمية، التي حاولت التعبير عن إرهاصات مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وفترة الحرب عام ١٩٤٥، ومرحلة ما بعد الحرب. وُلد (مايكل أنجلو أنطونيوني) في اليوم التاسع والعشرين من أيلول عام ١٩١٢ في مدينة (فيرارا)، المدينة العتيقة في سهول (البو)، وتربى وترعرع في أسرةٍ عريقة عاشقةٍ للعلم، والمعرفة والثقافة والفنون، وتخرّج من كلية الاقتصاد في جامعة بولونيا، وانتقل في بداية الأربعينات للعيش في مدينة روما، وقد أثّرت هذه البيئة الطبيعية على إبداعات المخرج الأكثر شهرةً ليس في إيطاليا وحدها، بل في العالمِ أجمع. لقد دخل (مايكل أنجلو) إلى عالم السينما من فنون الرسم والتشكيل والكتابة معًا، من خلال مجموعة مقالات صحفية، نُشرت في الجرائدِ المحلية، قبل أن يصبح ناقدًا سينمائيًا في العديد من المجلات السينمائية المتخصصة، واستحق أنطونيوني في الواقع الاهتمام الكبير الذي رافقه في حياته السينمائية منذ عام ١٩٥٩، عندما قدّم فيلم «المغامرة» قبل عامٍ واحد فقط من انطلاقة «سينما الموجة الفرنسية الجديدة» سنة ١٩٦٠ التي تألفت من نقادِ مجلة «كراسات السينما»، الذين تحولوا إلى الإخراج، ومن بينهم (جان لوك جودار، وإريك رومير، وكلود شابرول، وفرانسوا تروفو).

من الواقعيةِ الجديدة إلى الحقيقةِ الواقعة:

    يعتقد المخرج السينمائي المفكّر، بأنّ لطريقتنا في العيش خصوصية كبيرة، وأنّه بات علينا أن نواجه الحياة بالمعيارِ الحقيقيّ، وهذا المعيار هو الذي يشكل أساس الواقعية الإيطالية الجديدة، بمعانيهِ الأوسع والأعمق. إنّ صناعة عمل فنيّ حسب رأي (مايكل أنجلو) لا يعني أن تبتكر أشياءً من لا شيء، بل أن تُعيد صناعة التعبير عما هو قائم -فعلاً- وما هو حقيقيّ. في السنواتِ التالية للحرب المليئة بالخوف والأحداثِ المرعبة والقلِقة، والتشاؤم وضبابية مستقبل العالم، لم يكن من الممكن أن تتحدث السينما عن أي شيءٍ آخر غير هذا في سياقاتٍ مختلفة، اجتماعية، ونفسية، وفكرية؛ لأنه يستحيل على أيّة رؤية سينمائية للعالم أن تستند فقط إلى المعيار الفردي، وعليه فإنّ استمرار النمو البشري بنفس المعدل الحالي، خلال القرن القادم -من وجهة نظر مايكل أنجلو- من المرجّح أن يُحدِث كارثة وبائية، أو ذرية لنسفِ الجنس البشري، ستتوقف الأرض عن الوجود يومًا ما، ولا نعرف متى ستحرقها الشمس، أو ستتجمد المياه من شدة البرودة، حين تغيب الشمس الدافئة عن الوجود، ويضيف مايكل أنجلو: «يمكننا أن نتخيل تحوّلات أكثر جذرية، كتبدّل في شكلِ ووظائفِ الأعضاء، أو تغيّر في نموذج السلوك الإنسانيّ، لقد أصبح الإنسان الآن لا مبالٍ لما يقع لإخوانه البشر، وهذهِ هي الأسئلة التي يجب أن نبقيها في أذهاننا اليوم، حين نعمل في صناعة الفيلم».

الصحراءُ الحمراء وثلاثيّةُ الحداثَة:

    دخل أنطونيوني تجربة سينمائية جديدة في سنة ١٩٦٤ من خلال فيلمه: Red Desert «الصحراء الحمراء»، الذي شكّل وعيًا جماليًا وفنيًا لدى هذا المخرج، خاصةً وأنه استعمل الألوان في الفيلم لأولِ مرة، بعدما كانت أفلامه وأعمال غيرهِ محصورةً في الأبيض والأسود، ومن هنا كان الفيلم بمثابة الطريق الجديد في السينما، عكسته التقنيات المتّبعة، والاشتغال الكبير على الشكلِ الذي ولّد «شعرية طافحة»، وقد وُظّف اللون في الفيلم توظيفًا دراميًا رائعًا، وغيّر في درجاتِ الصورة السينمائية بما يُلائم حالة شخصياته النفسية، كما ذكر أنطونيوني في الفيلم الوثائقي الرائع عن تطور اللغة السينمائيّة، الذي قام بإعداده المخرج الألمانيّ (فيم فندرز) والذي يحمل عنوان: «الغرفة ٦٦٦» يقول فيه أنطونيوني: «في فيلم الصحراء الحمراء، كنتُ أحاول أن أبحث وأسلط الضوء على مسألة التكيّف، مع تقنيات العالم الحديثة، حتى مع الهواء الملوّث المرغمين على استنشاقِه، من المرجّح أن يحمل المستقبل قسوةً لا نستطيع تخيلها». وقد اتّبعَ أنطونيوني مفهوم المخرج بيير باولو بازوليني «الذاتي الحر غيرِ المباشر» في نظريّته (سينما الشعر)، وبالإشارة إلى الدور الكبير، والأثر العظيم للسينما الإيطالية، على صناعة السينما الأوروبية تحديدًا، نرى فلسفةً ولغةً سينمائيةً فريدة من نوعها، يصنعها المخرج الكبير أنطونيوني، سيّد الحداثة، ومخرجها، الذي -برأيي- أحدث ثورةً فنيةً في صناعةِ السينما، وعلى رغم الندبة الكبيرة لما بعد الحرب العالمية الثانية، التي ألقت بظلالها على المخرجين الأوروبيين، إلّا أنّ أنطونيوني خرج من محيطِ هذا الظلِ قليلًا؛ ليرى صورةً أكبر، لم يستطع أحد من قبل أن يراها بهذا الوضوح، إنّها صورة الإنسان باحتياجاته، تكيّفه وتأقلمه مع التقنيات الجديدة، وأساليب الحياة المختلفة، ومن ناحيةٍ أخرى تمتد تجربة أنطونيوني إلى مساحاتٍ أوسع من الألم والرؤى الوجودية الباهتة، التي تعكس عمق الوجع، والمحيط المتهاوي، والبيئة التي لم تعد تقل شيئًا، وهذا ما نراه في الثلاثية الخالدة، بدايةً بفيلم «المغامرة» الأهمّ من بين أعماله الروائية الأولى، الفيلم الذي وضعه على الخريطة الدولية فائزًا بجائزة لجنة التحكيم الخاصّة بمهرجان «كان» الدوليّ، فهذه التحفة الفنية قامت على لغة أنطونيوني الخاصة، وعلى جمالية الخواء والفراغ، وهو البداية التي انطلقت منها شهرة رفيقة أفلامه (مونيكا ڤيتي) نحو العالمية، حيث برزت ڤيتي من بين الفنانات المعاصرات مثل: (صوفيا لورين)، و(جينا لولو بريجيدا) بوجهها المنمش، وشعرها الأشقر، واستطاعت أن تجذب أنظار أنطونيوني إليها، وسرعان ما تطورت بينهما العلاقة الفنيّة والعاطفيّة أيضًا.

    وقد تحدثت ڤيتي في إحدى اللقاءات التلفزيونية عام ١٩٨٢ قائلة: «حالفني الحظّ أن أبدأ مشواري الفني مع رجلٍ صاحب موهبة عظيمة، شخصٌ روحانيّ، تملؤه الحماسة، ومفعمٌ بالحياة»، وتلعب في فيلم «المغامرة» دور امرأةٍ مُعذّبة، تتحالف مع عشيق رفيقتها المفقودة للبحثِ عنها، يفتتح الفيلم على مشهد آنا (ليا ماساري) ووالدها حيث يتبادل الاثنان بعض الكلمات، نعلم أن (آنا) ووالدها يحملانِ نفس التوقع إزاء علاقتهما، وأن خطيبها ساندرو (غابريال فرزتّي) قد لا يكون موجودًا على المدى الطويل بالفعل، مع ذلك تودّع آنا والدها، ثم تنضم إلى صديقتها المقرّبة كلاوديا (مونيكا فيتي) التي تنتظر على الطريق بينما آنا وصديقها ساندرو يمارسان الحب، فينطلق الثلاثة إلى رحلةٍ بحرية برفقة مجموعةٍ من الأصدقاء، وخلال تلك الرحلة تختفي (آنا) تمامًا! هل غرقت؟ هل آثرت الاختفاء والابتعاد؟ هل كانت في الأصلِ موجودة؟ يُلقي أنطونيوني هذا التساؤل المُريب بعد ٢٧ دقيقة من الفيلم، حيث لا يمكن رؤيتها مرةً أخرى أثناء الأحداث؛ لتصبح كلاوديا الشخصية الرئيسية لبقية القصة، وربما كان هذا هو السبب في أنّ الجمهور سخر من الفيلم وأطلق صيحات الاستهجان عليه خلال عرضه الأول في مدينة (كان) عام ١٩٦٠.

  وعلى الثلاثية البارزة -الجريمة والحبّ والخيانة- في مشهدٍ مركب، نرى كلاوديا تنتظر ساندرو الذي دخل الفندق؛ لتكون في إطارِ صورة سينماتوغرافيا رائعة، بتحركٍ عبقريّ من كاميرا أنطونيوني، فنرى كلاوديا تتجوّل بأفكارٍ مختلفة، ليتحرك معها جمعٌ من الرجالِ يتأملونها؛ ليخلَق للمُشاهد شعورًا مختلطًا، وإيقاعًا عاليًا بالتهديدِ والشهوانية الجنسيّة، فيأخذنا الفيلم إلى عدةِ محطات في حياة الشخصيات الرئيسية، من حالة الخوف، إلى حالةِ الحبّ، ثم الضياع والبؤس، وكأن أنطونيوني يقول بين المشاهد: هذه الحياة لا تملك الاجابة الكافية! كما نهاياتِه المفتوحة دائمًا.

«لم يعد لديّ الإلهام بعد الآن، فقط الذكريات».

    كيف استطاع أنطونيوني صناعة قالبٍ سينمائيّ من العدم؟ وكيف استطاع تكييف شخوصِه فيه؟ ثمّ كيف يجعل المُشاهِد يتكيف مع شخصياته وتركيبتها، وكيف جعلنا نعيشُ قصةً دون إطارٍ زمنيّ محدد، كما في فيلم «الليلة». أحد أجمل الاقتباسات على لسانِ الزوج (مارسيلو ماستروياني) في مشهدٍ أخّاذ، يحتوي على لبنةِ الفيلم، أو ما أسميه: «عنوان العلاقة»، يسلّط فيه فيلم «الليلة» الضوء على عبقريةِ التلاعب بالزمن لدى أنطونيوني، حيث تتمحور القصة حول زوجين: الفرنسية (جان مورو)، والإيطاليّ (مارسيلو ماستروياني)، تعتري علاقتهما الاضطراب والتذبذب، متبرّميَن من بعضهما بعضًا، يقوم بتصويرها أنطونيوني في قالبِ اليوم الواحد -تقريبًا- بسردية رائعة، متماسكة، وبطيئة طوال العرض، كما لو أنّ مرور الوقت يلقي بظله على العلاقة الزوجية، ولكن في ذاتِ الوقت هناك جماليّة خفيّة، نوعٌ من السحر الممتع في هذه العلاقة، وكأننا شهدنا الكيمياء بين الزوجين منذ البداية. وقد قال مايكل أنجلو مرةً في إحدى لقاءاته: «لستُ من محبي الأفلام ذات الرسائل»، وبصفته أحد أكبر المخرجين الإيطاليين، الذين تركوا بصمتهم في صناعةِ السينما، لم ينجُ هو من تكوين الرسائل في أفلامه، حتى مع تحفّظه السياسيّ، إلا أننا نرى رسائلاً سياسيةً خفيةً في أفلامه، تُظهرها الحوارات والأسئلة بين الشخصيات، كسؤال جوليانا لحبيبها ما إذا كان يساريًا أم يمينيًا؟ ليأتي جوابه على استحياء: «أو اشتراكيًا؟».

    أما فيلم «خسوف» فيبدأ بسلسلةٍ من المَشاهد الصباحية المبكرة، حين يبدأ أنطونيوني سرد حكايته بعودةٍ إلى فيتوريا (مونيكا فيتي) التي تنفصل عن صديقها ريكاردو (فرنشسكو رابال) بعد أربعِ سنوات، فتنتقل للعيش مع أمّها السعيدة بمكاسبها من سوقِ البورصة، وتلتقي المضارب الشاب بيرو (ألان ديلون) وتصادقه؛ لكنه لا يمثّل لها أيضًا ما تبحث عنه. لربما بَحْث أنطونيوني هنا في شخصياته: نفسيّ وذاتيّ وعاطفيّ، ومساحاته المذكورة أعلاه مع مطلعِ الفيلم ونهايته تتوالد خلال الفيلم وتعني شيئاً واحدًا: الاغتراب عن المحيط وعزل بطلته عن محيطها الاجتماعيّ، مع نهاية الفيلم يعود إلى حالةِ العرض ذاتها: حي مقفر يُراد منه الرمز إلى روما مقفرة، الحي بحدّ ذاته نظيف وشوارعه عريضة، لكنه يبدو كما لو كان مؤلّفًا من مبانٍ خالية.

    إنّ تقديم هذه الثلاثية جنبًا إلى جنب، يؤكد الدافع وراء أعماله: بأنّ أنطونيوني كان متحالفًا مع أصحاب الرؤى، وهو بنفسه صاحب رؤية سينمائية خالصة، إنّ هذهِ الثلاثية -في رأيي- واحدة من أهمّ الثلاثيات في السينما، فهي خوضٌ عميقٌ في عدةِ قضايا، بواقعيتها الإيطاليّة الجديدة، وبتصويرها حالة الإنسان بتقلباته واختياراته، بمشكلاتِ العالمِ، وندوب حروبهِ وما خلفته وراءها، قدّم من خلالها عدة خصائص فريدة من نوعها: انعكاساتُ الحياة على المرأةِ، والحياة الطبقيّة، والحبّ في عالمٍ حديث، أو كما يسميه البعض «الحب الحديث». وقد برزت سينما أنطونيوني في أفلامهِ بدءًا من مصور أزياء على غرار ديفيد لوك (نيكولسون) في «بلو أب» ١٩٦٦، وصولاً بِـ(مونيكا ڤيتي) الرائعة في ثلاثيّته كحالة إنسانية حديثة يصعب تفسيرها، وعلى الرغم من أنّ أنطونيوني لم يُحتفل به تمامًا أو يُفهم تمامًا في موطنه إيطاليا، إلا أنه كلل هذا المسير بالنجاح من خلال نيله أهمّ الجوائز العالمية، من بينها الدب الذهبي بالبندقية عن فيلم «الصحراء الحمراء»، والسعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلم «اللقطة المكبرة»، وجائزة لجنة التحكيم، وأوسكار قدمته له أكاديمية فنون وعلوم الصورة المتحركة عام ١٩٩٥ عن مجملِ الأعمال، والأسد الذهبي مرةً أخرى عن مجملِ الأعمال بمهرجان البندقية عام ١٩٩٧، ترك من خلالها هذا المخرج الأيقونيّ علامةً لا تنمحي، «كمستكشِفٍ، ومخترعٍ، ورجلٍ في اتصالٍ دائم بالفنّ والسينما».

الهوامش:

المراجع:

  • منى النمرسي، المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني من المخرجين المهمين، جريدة المدينة، ١٤ أذار ٢٠١٢.
  • مايكل آنجلو، من سينما الواقع إلى سينما الحقيقة.
  • د. السهلي بلقاسم، ١٣ يونيو ٢٠٢٢.  
  • مايكل أنجلو أنطونيوني، مخرج مثقل بالرؤى عبد الكريم قادري، ٢١ يونيو ٢٠١٧.  

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى