«محضُ لقاء»: عندما دخل القدر إلى كافيه تسارت

بعد ظلامٍ دامسٍ يخرجُ الطفل من رحمِ أمه صارخًا باكيًا، لا يجد ملاذًا يرتمي إليه ولا ملجأً يحتمي به إلا عندما يُحتضن بين ذراعيها. هنا يبدأ اللقاء الأول، اللقاء الأعمق والأبقى، لقاء الأم بابنِها، لقاء الابن بأمه. ومن ثمَّ يبدأ الإنسان رحلة طويلةً من اللقاءاتِ المتفاوتة، لقاءاتٌ تحملُ وجوهًا كثيرةً وأعينًا مختلفةً وشخصيَّاتٍ وأساليبَ ولغاتٍ متعدِّدة. قد تتشابه أحيانًا وقد تتباينُ تباين الليل والنهار، لكنَّها رغم تكرارها لا تماثلُ اللقاء الأول، ذاك اللقاء الذي طُبعت فيه الروحان ببعضهما حين كان الجسدان كُلًّا واحدًا والقلب ينبضُ بنبضٍ واحد.

«محضُ لقاء» هو عنوانُ فيلمٍ قصيرٍ للمخرج مُحسن أحمد، وهو بالفعل محضُ لقاءٍ كما يدلُّ عنوانه ببساطته وشفافيَّته. امرأةٌ تصلُ إلى مقهى صغير يقع نظرها على رجلٍ وصل مؤخَّرًا، يتودَّد لها بلطفٍ فتتودَّد إليه بدفء، وتنشأ بينهما شرارةٌ خفيَّة، تلك الشرارة نفسها التي من شأنها أن تصنع قصص حبٍّ عظيمةٍ أو تبقى مجرَّد لحظةٍ عابرةٍ محفورةٍ في الذاكرة.

هذه الشرارة التي استطاع الفيلم القبض عليها ببراعةٍ ليست من صُنع خيالٍ أو تزييف، بل هي واقعيَّةٌ إلى الحدِّ الذي يجعلُ المتلقي يشعرُ وكأنَّه عاش هذه اللحظة يومًا ما. إنَّه ذاك الشعور الغامر بالانتماء العاطفي الفوري، الانسجام الذي لا تفسير له حين تلتقي بعينين غريبتين فتشعر أنَّك تعرفهما منذ الأزل.

ولكن هل يمكن للقاءٍ أولٍ محضٍ، لقاءٌ لا تسبقه معرفةٌ أو تمهيد، أن يتكلَّل بالنجاح؟ أم أنَّ اللقاء مصيره الفشل في غالبِ الأحيان؟ تدفعنا الرغبة الغامضة في التعرُّف على الآخر إلى حدودٍ بعيدة، ثمَّ فجأةً نتردَّد، أو نتوقَّف، أو نخشى المضي قدمًا، واضعين في أذهاننا ألف اعتبارٍ لما قد يحدث. نحلمُ أن نصنع لحظةً تدوم إلى الأبد، ثمَّ يتنامى في داخلنا خوفٌ من انكسار الحلم.

يحملُ الفيلمُ في طيَّاته روحًا شاعريَّةً واضحة، وهو أمرٌ لا يُثير الدهشة حين نعلم أنَّه مستوحى من قصيدةٍ للشاعر العُماني عبدالله حبيب. فالعلاقة بين النص الشعري والعمل البصري ليست سطحيَّة، بل تنبع من عمقٍ تأويليٍّ يتجاوزُ الفهم المنطقي المباشر. يدورُ محور القصيدة - التي اقتُبس منها الفيلم - حول رجلٍ وامرأة، أو ربما امرأةٍ ورجل، لا فرق في الترتيب حين تُصبح الذاتان متداخلتين في تجربةٍ واحدةٍ تتقاطعُ فيها العاطفة والانتظار والفقد.

عند التمعُّن في القصيدة، نُدرك أنَّها لا تعبِّر عن المشاعر من خلال أوصافٍ مألوفةٍ أو منطقيَّة، بل تعتمدُ على لغةٍ تأمُّليَّة تستبطنُ المعاني وتدعو القارئ إلى الغوص في طبقاتها. من أبرز تعبيراتها: «خلع كلٌّ منهما معطفه المبلل بالانتظار»، وهي صورةٌ رمزيَّةٌ تختزلُ لحظة التخلِّي، لا عن معطفٍ فحسب، بل عن ثقلٍ زمنيٍّ مشبعٍ بالتوق واللهفة.

تتجلَّى نقطة الالتقاء بين القصيدة والفيلم في بيتٍ شعريٍّ شديد الدلالة:

«امرأة ورجل، كيف يتسع لهما الكلام
حين يُطلق القطار صيحته؟»

صيحةُ القطار هنا ليست مجرد صوتٍ ميكانيكي، بل إنباءٌ بالمغادرة، إعلانٌ عن لحظةٍ فاصلةٍ لا تحدث إلا حين يبلغ الزمنُ عتبة الافتراق. لكن، هل القطار هو مَن صاح فعلًا؟ أم أنَّ الصيحة جاءت من جهةٍ أخرى؟ من القدر مثلًا؟ وكأنَّ الفيلم، مثل القصيدة، لا يُقدِّم إجابات، بل يكتفي بإثارة الأسئلة، ويترك الصدى يتردَّد طويلًا في وجدان المتلقِّي.

القدر أطلق صيحةً معلنًا فيها عدم اكتمال ذلك اللقاء بين الرجل والمرأة، ولكن في تصوُّرٍ آخر كان القدر يعاني من ألمٍ  في حنجرته، وهذا ما لم يُسعفه على الصياح فتحقَّق اللقاء. كلُّ التصوُّرات صحيحةٌ وإن كان يغلب على بعضها نُدرة الحصول. من هنا تبرزُ عبقريَّة كلٍّ من عبدالله حبيب ومحسن أحمد، فالشاعر استهل القصيدة بـ «رجل وامرأة» وعنوَن المخرج الفيلم بـ «محض لقاء». لا أسماء هنا، تجريدٌ تامٌّ من أيِّ علاقةٍ قد لا تراها في نفسك، أنت الرجل وهي المرأة، هي الممثِّلة وأنت الممثل، وهذا ما يكثِّفُ الحضور العالي للاستخدامات وللتعبيرات التأمليَّة والألوان المختلفة التي ظهرت في الفيلم والقصيدة مقاربةً مع ما قد تشعر به وتوصيفًا لمحضِ اللقاء.

على المستوى البصري، استطاع الفيلم أن يخلق مساحةً واسعةً للتأمُّل. كلُّ تفصيلٍ مرئيٍّ كان مدروسًا بعناية، والتعبيرُ اللونيُّ يتغيَّر مع تطوُّر الشعور الداخلي للشخصيَّات، من الألوان الطبيعيَّة إلى الألوان الأحاديَّة، دون أن يفرض علينا المخرج تفسيرًا جاهزًا. التغيير موجود، لكنَّ تفسيره متروكٌ لنا نحن المشاهدون.

في واحدٍ من أجمل مشاهد الفيلم نشاهدُ الفتاة وهي تتَّجه إلى المقهى على دراجتها الهوائية، الريحُ تداعب وجهها برفقٍ وشعرها يتطايرُ بخفَّة، وملامحها تتبدَّد في الهواء بلقطاتٍ طويلةٍ حالمةٍ تحفر ملامحها في ذاكرة المشاهد. تصلُ الفتاة، التي لا نعرف عنها شيئًا، إلى المقهى وما يزال كلُّ شيء يغمره اللون الطبيعي. من ثمَّ يبدأ المشهد بالتغيُّر، واللون يميلُ إلى البني (Sepia) وكأنَّ الزمن يتباطأ أو ينكمش. هذا التحوُّل اللوني بلا شرحٍ أو تعليقٍ يفتح أبواب التأويل الواسعة.

رأيي الشخصي، بعد مشاهداتٍ متكرِّرةٍ للفيلم، أنَّ هذا النوع من السردِ المتأني والملتزم بتفاصيل واقعيَّةٍ خاليةٍ من الملهيات، يصنع عالمًا لا وجود له اليوم إلا نادرًا. بيئةٌ نظيفة، خاليةٌ من التلوُّث البصري والضوضاء؛ فتاةٌ تدخلُ مقهى بهدوء، تُخربش على دفتر ملاحظات، تلفُّ سيجارتها يدويًا، ويشاركها رجلٌ النظرات الصامتة.

تبادلُ النظراتِ هنا ليس مجرَّد حدثٍ عابر، بل هو إعادة إحياءٍ لتلك اللحظات الأصيلة التي كانت تحدثُ فقط حين كان للناس وقتٌ كافٍ للتأمُّل والانتظار والقبض على شرارة الاتِّصال الحقيقي، شرارةٌ تخبو يومًا بعد يومٍ في ظلِّ حداثةٍ متسارعةٍ تسحق التفاصيل الصغيرة تحت عجلة الاستعجال.

وهذا بالنسبة لي هو العتب الشخصي الأكبر على المجتمع الحديث: أنَّ تلك اللحظات التي كانت تصنعُ المعجزات الإنسانيَّة باتت نادرة، وأنَّ اللحظة التي قد تصنع لقاء العمر أصبحت تحتاجُ إلى معجزةٍ كي تحدثَ في زمنِ الركض المستمرِّ خلف السراب.

وهكذا، لا يعود «محض لقاء» مجرَّد عنوانٍ لفيلم، بل يتجاوز ذلك ليصبحَ تجربةً شعوريَّةً كثيفة، تلامسُ شيئًا خفيًا في أعماقنا نحن الذين اعتدنا الركض اليومي خلف المعنى، خلف الآخر، وخلف أنفسنا. إنَّه لقاءٌ لا تحكمه القوانين المعتادة، لا يحتاج إلى مقدِّماتٍ طويلةٍ أو كلماتٍ منمَّقة، بل ينبعُ من لحظةٍ صافيةٍ تُقابل فيها عينان غريبتان فتُفتح نافذةٌ داخل القلب يصعبُ إغلاقها.

إنَّه تأكيدٌ على أنَّ أكثر اللحظات صدقًا هي تلك التي تأتي بلا ميعاد، تلك التي لا يصنعها العقل بل الحدس، لا يبنيها التوقُّع بل المفاجأة. ولكن ما أثقل هذا النوع من اللقاءات في زمنٍ أصبح فيه كلُّ شيءٍ مشروطًا، مراقبًا ومغلَّفًا بالحذر. لقد أصبحت اللقاءات من هذا النوع نادرةً كالنجوم التي لا تُرى إلا حين تنطفئ الأضواء من حولنا. وربما لهذا السبب، حين تحدث، تهزُّ شيئًا عميقًا في الروح، تُعيد ترتيب الأولويات، تُصالحُنا مع الحنين، وتمنحنا لحظةً نادرةً من السكون في عالمٍ لا يعرف كيف يتوقَّف.

لقد قدَّم محسن أحمد وعبدالله حبيب، كلٌ بلغته، عملًا يحفرُ في الذاكرة، ليس لأنَّه صاخبٌ أو كبير، بل لأنَّه بسيط، شفافٌ وعميق. لأنَّه لم يحاول أن يقول كلَّ شيء، بل ترك لنا مساحة لأن نجد أنفسنا فيه، أن نُسقط تجاربنا عليه، أن نملأ الفراغات بصوتنا الداخلي. وربَّما في ذلك سرُّ الجمال كله.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى