«مدينة الملاهي»: الطريق الذي يبدأ بالحيرة الكونية وينتهي إليها

من خلال متابعتي لبعض ردود الأفعال والتقييمات -ولو صح تسميتها بالمراجعات- لعامة الناس في السعودية -في الغالب على تويتر- عن بعض الأفلام السعودية المعروضة على شبكة «نتفلكس» العالمية، لمست شيئًا غريبًا، وهو تفهمهم لموقع السينما السعودية اليوم، ومحاولة تقديم الدعم المطلوب -بالفعل- لها. أقول هذا الكلام لأنني حين أبحث لدى بعض كتّاب هذه التقييمات عن أفلام عالمية، أجدهم يمارسون تقييمًا حقيقيًا، من خلال اشتباكهم مع هذه الأفلام إيجابًا وسلبًا، وبعض هذه التقييمات يرتقي بالفعل إلى مستوى المراجعات النقدية السريعة والخاطفة. 

هذا الوضع يدل على أمرين، الأول توفر الرؤية النقدية والفنية لدى عموم الجمهور السعودي، وثانيًا الاستغناء -عمدًا- عن هذه الرؤية النقدية تجاه الأفلام السعودية، أو تأجيلها، والأمر الثاني يدل على انتقال عدوى سلبية لواقع الحراك النقدي الخجول المصاحب للأفلام السعودية، الذي يأتي -في الغالب- من أشخاص لديهم علاقات وارتباطات قوية مع المشتغلين في الوسط الفني داخل مجال صناعة السينما السعودية، الذين نسمعهم في لقاءاتهم يرحّبون على الدوام بالنقد والمراجعة. 

والذي أفهمه من ذلك أيضًا أنهم يعنون النقد الحقيقي، القائم -ولو كان انطباعيًا- على قيمة الصدق، ومن بين هؤلاء الصنّاع الذين يحضّون ويستحثّون الآخرين على تقديم تقييماتهم الصادقة، والذي شاهدت له حوارًا رائعًا على قناة «خام» على منصة اليوتيوب، المخرج المثقف «وائل أبو منصور»، ما دفعني إلى العودة لمشاهدة فيلمه الجميل «مدينة الملاهي» الذي حشد فيه عصارة معرفته ورؤيته السينمائية، في وجبة دسمة بصريًا ومفاهيميًا.

مشكلة ما ذكرته سابقًا -من الاستغناء والتأجيل للنقد الحقيقي- هو أنه يساوي في نظرته بين جميع الأفلام السعودية، من خلال تقديم قيمة دعم الفيلم السعودي على قيمة النقد الفعلي، وبالتالي يلحق الضرر بالفيلم الجيد، الذي يستحق المتابعة والحفاوة، ومن هذه الأفلام التي لم تنل ما تستحقه من المتابعة النقدية أو المراجعات الجادة، فيلم «أبو منصور»، الذي أسَرَني بمستوى نضجه الفني، وقدرته على استثمار كل المكونات الفيلمية الممكنة، من جودة وجمال الصورة، إلى الانتباه إلى قيمة الجغرافيا المحلية، إلى النص، وتجهيز مواقع التصوير، واختيار الممثلين. كل ذلك صنع للفيلم هوية محلية خاصة، وفريدة من نوعها. 

والأهم من ذلك أنه قدّم خطابًا متماسكًا، يعبّر عن حالات إنسانية متداخلة، من الضياع الكوني، تتشابك فيه المشاعر وتتعقّد إلى الدرجة التي لا يعرف الإنسان فيها ولا يستطيع التفريق بين متع الحياة وويلاتها، وبين شرورها الخفية وجمالها الفج، الحالة التي عبّر عنها عنوان الفيلم السينمائي بـ«مدينة الملاهي»، التي يختلط فيها الممتع مع المخيف، والإحساس بالأمان مع الشعور بالقلق، وكأن خطاب الفيلم يحيلنا في النهاية إلى سؤال منطقي، يمثل سؤالًا من أسئلة السينما الأصيلة، وهو: هل العالم مدينة ملاهي؟!

ومن دلالات عبقرية الفيلم، تقديمه للحكاية دون الروابط الزمانية ولا المكانية الواضحة، إذ إن الفيلم يشير إلى الوجود المكاني ولا يصرح به، ويوحي بالزمان ولا يؤكد حقيقته، بتعمُّد مفاهيمي يود المخرج من خلاله تقديم الرؤية الكونية لا المحلية للعالم، مع الاهتمام بالمكون المحلي الذي يُحيل بالضرورة إلى هوية الفيلم، وقد كان في غاية الذكاء باختياره لثيمة أفلام الطريق، التي لا تحيل في العادة إلى جغرافيا مدنية، رغبةً في توسيع دائرة تلقي خطاب الحكاية السينمائية، وأسئلتها المؤرقة.

تاريخ أفلام الطريق زاخر بهذه المعاني الوجودية، التي تطرح على المتلقي قضايا ومشكلات الذات في مواجهة العالم، وقد عبّر عنها كاتب ومخرج الفيلم «وائل أبو منصور» خير تعبير. فَعَل ذلك منذ اللحظة الأولى التي يظهر فيها صوت «الدكتور مصطفى محمود» المحمَّل بأسئلة نهاية الوجود، ذلك الصوت المربك الذي يظهر في بداية الفيلم ونهايته، في حالة تعبيرية شديدة التماهي مع ما يقع لبطل الفيلم «مسعود» وزوجته «سلمى» اللذان يفترقان بسبب تعطل السيارة، ما يُذهِب بكل واحد منهما في طريق وجودي مختلف للغاية، فبينما يقع «مسعود» في سديم الحيرة والخوف وترقُّب المصير المجهول، نجد زوجته «سلمى» داخل فضاء يتمتع بالصفاء والدهشة والتأمل، لكن حتمية الجاذبية الكونية الهائلة تعيدهما إلى نفس الطريق ونفس حالة الصمت الجداري، الذي بدأ به الفيلم بين البطل وزوجته، وكأن الخطاب الفيلمي يود أن يعطينا -من خلال الحكمة البصرية- تصورًا عن حتمية وجودنا جميعًا في الطريق، الطريق الذي يبدأ بالحيرة الكونية وينتهي إليها.

من خلال متابعة السينما السعودية، قلّما نجد من المخرجين من ينعتق من فخاخ واقعها الضاغط، الذي كان وما زال يعبّر عن قضايا اجتماعية معينة، تختلف طرائق التعبير عنها سينمائيًا، لكنها لا تراوحها، بمعنى أنها لا تتجاوز فكرة الوجود المحلي، إلى فكرة الوجود الكوني، لكن «وائل أبو منصور» -من خلال فيلمه «مدينة الملاهي»- أخرجنا من هذه الحالة العامة، وجعلنا -من خلال تصوراته السينمائية ووعيه الفني- نتجاوز ونقفز خارج حالة الفيلم السعودي الراهنة، وقد يكون هذا الفعل مغامرة بحد ذاته، وهي حتمًا مغامرة محمودة وصعبة في الوقت نفسه، فهذه القفزة خارج السائد قد تُربك التلقي العام، لكنها صنعت وأسهمت في وجود حالة التجريب الفني، القائمة على محاولة اكتشاف مناطق فنية جديدة، لا تنتمي إلى مرجعية أدبية، ولا إلى مرجعية اجتماعية. هي بصورة ما محاولة للغرق في المفاهيم الفلسفية، التي يتشارك فيها سؤال الوجود مع سؤال الجغرافيا، في خلق حالة تعبيرية مجردة، تنفي عن نفسها القدرة على إمكانية تقديم الإجابات، أو الرؤى الجاهزة، وبالتالي يمكننا أن نلاحظ من خلال الصورة وعلاقتها بالمكونات الفيلمية الأخرى حالةً ما، قد يصعب علينا القبض عليها، ليس لاستحالة ذلك، بل لأن محاولة الوصول إلى إجابات يمكن أن تفسد علينا جمال الدهشة الذي يصحب هذا النوع من الأفلام.

يمكننا -من خلال ما تقدم- النظر إلى فيلم «مدينة الملاهي» على أنه نسيج فني معقّد وبالغ الرهافة، يتقاطع من حيث الحكاية اللامركزية مع حالة الحياة التي نعيشها يوميًا. لا يصل إلينا ذلك من خلال حكاية يمكن تصوّر وجودها بالفعل، بل من خلال الصورة الفوتوغرافية للمكان، والحوارات الجانبية، والشخصيات الغرائبية، وتنقلات زوايا التصوير، وحتى الموسيقى والأغاني، ولو ذهبنا نحشد العناصر الفنية التي حشدها المخرج في فيلمه لن ننتهي، لكن حسبنا أننا وبعد نهاية الفيلم سنحصل على ذلك الشعور، الممتلئ بالحيرة والقلق الوجودي، الذي يسلمنا في النهاية إلى الطريق، الذي يعبّر فلسفيًا عن مبتدأ ونهاية كل شيء.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى