تَحضُرُ الأفلام المأخوذة من قصة حقيقية أو المستلهمة من قصص حقيقية وحتى الوثائقية برفقة الإجابات الوافية، والتي قد تكون مفتعلة ولكنها مقنعة في تفسير ما حصل فيها من حوادث، فهي التروي الذي دام طويلًا ليخرج للمرء بهيئة حكمة وجودية، عدا الحديث عن بعض المغامرات المميتة التي تظهر وكأنها ليست سوى مساعٍ يسوعية لها أهدافها السامية والروحية التي تملأ كل فراغ ابتدعته التساؤلات البشرية، فهي عصية على الإجابة المُسترضاة والواقعية، كرحلةِ النجاة من وعثاء بلوغ قمة جبل إيفرست، كرسالة تزيد من تقديرنا للحياة مثلًا!
وفي الحديث عن هذه التهلكة نستحضر فيلم المغامرة الأنميشن «القمة العظمى» للمخرج باتريك إمبرت والذي كان يتحدث فيه عن صحفي يسعى متحريًا خلف حقيقة وصول أول بعثة استكشافية بريطانية إلى جبل إيفرست، والتي حصلت عام 1924م، بقيادة جورج مالوري وشريكه المتسلق أندرو إيرفين، ليجد لاحقًا أن استقصاءه قد قاده نحو وجهة مختلفة تمامًا، نحو المتسلق المغمور «آبو جوجي» صاحب الطموح الذي لا ينضب حيال تسلق القمم، ليكتشف أن «آبو» كان قد وجد كاميرا جورج مالوري في إحدى طلعاته الفاشلة للجبل، ليهديها بعد وفاته للصحفي مرفِقًا إياها برسالة كتب فيها وبتصرّف:
«احتفظ بالكاميرا، لعلّ فيها ما تريد معرفته عن مالوري لكي يكتمل عملك الصحفي، لكن إن كنت تتساءل لماذا فعلها وتسلق الجبل، ولماذا فعل هذا، لن تجد الإجابة فيها. أيًا كان ما قادنا إلى هنا هو الذي يدفعنا للتسلّق. لا أعرف ما هو؛ لقد توقفت عن التساؤل عندما أدركت أنني لا أستطيع العيش من دونه. يبحث الجميع عن معنى لحياتهم أما أنا فلا، التسلق هو الشيء الوحيد الذي يُشعرني بأنني على قيد الحياة، لذا استمررت بالتسلق حتى آخر نفس، دون الشعور بالندم».
وهذه الرسالة التي حضرت في نهاية الفيلم جاءت إجابةً على تساؤلات راودت البريطاني مالوري في بدايته بصورة تنقلنا بها من زمن عتيق إلى زمن حديث، حين قال: «السير.. التسلق.. المزيد من التسلق.. ما المغزى من البحث الدائم عن الأعلى؟»
وكأن فكرة الوصول إلى القمة وما يتبعها من حالة وهم الارتقاء، أقرب لحكاية سيطرة دودة «لانسيت فلوك» التي تقوم بغزو عقل النملة، لتتحكم بها وتجعلها تصعد إلى أعلى الشجرة حيث البيئة المميتة وكأنها مسلوبة الإرادة، فكما يقول الدكتور دان دانيت عن هذه الظاهرة: «ما أشبه هذا ببعض الأفكار التي تتسلل في عقولنا ثم تقوم باختطافنا وتحريكنا نحو مصلحتها».
ولكن ما مصلحة الفكرة من هذا المسعى المهلك أصلًا؟ وكأن القمة تمتلك صوتها الخفي الساحر المتغذي على أرواح الحجاج. ولعل هذه الإجابات في فيلم «القمة العظمى» كانت كافية بالنسبة لي، فليس هناك ما يبرر هذا الانقياد المخبول وخوض القمار المجهول، على عكس الإجابات التي تحصّلت عليها من الأفلام المقتبَسة من قصة حقيقية والأفلام الوثائقية!
في أحد مشاهد فيلم «إيفرست» للمخرج بالتاسار كورماكور، الصادر عام 2015م، المقتبَس من قصة حقيقية لثمانية متسلقين لقوا حتفهم، يجيب الأبطال عن سبب قيامهم بهذه الرحلة، ليبدأ «روب» موضحًا أن سبب التسلق هو فقط ليثبت لأبنائه أنه ليس بشخصٍ عادي وأنه وصل إلى أماكن لم يصلها أحد من قبل!
لأنتقل بعدها إلى المسلسل الوثائقي «الهزة الارتدادية: إيفرست وزلزال النيبال» على نتفلكس، الذي تناول قصصَ مَن نجوا من الزلزال الذي ضرب النيبال عام 2015م، لتبرر إحدى الفتيات سبب تسلقها في أستاذها من جامعة كاليفورنيا الذي حثّها على ضرورة صقل شخصيتها، كونها خجولة جدًا وأنها بحاجة إلى البدء في تحسين نفسها، حتى سمعتْ في وقت لاحق فتاةً من خلفها تتكلم عن مخيم قاعدة إيفرست، ثم شعرتْ بالتالي برغبة التواجد هناك.. وآخَر مصاب بفيروس نقص المناعة أراد الإثبات للمصابين أنهم غير ضعفاء جسديًا، ليسرد الاثنان المكتسبات المتوقعة من هذه الرحلة.
إذن، الإجابات الواقعية توضح أننا جميعنا لدينا أسبابنا في خوض التحديات، والتي بإمكاننا مثلًا أن نستبدل بها محاولةَ القيادة بالسرعة القصوى في السيارة على أمل أن ننجو من ارتطام ما، فالمخاطرة مشابهة. ولكن كيف للمرء أن يتجاوز المشاهد المؤسفة ليصل للقمة بابتسامة عريضة غارسًا علم دولته؟
لعل دهشة المنال المرافقة للنجاح عظيمة جدًا حد الانتشاء، ولا أعلم لماذا تذكرت على نقيض دهشة المنال خيبة الرحالة «هيومو هوفل» الذي تسلق جبل في أستراليا طوله 800 متر حيث كان يتطلع لتسلق القمة لمشاهدة المناظر الخلابة، وعندما وصل تفاجأ بكثافة الأشجار والعدم الأخضر فسماه Mount Disappointment (جبل الخيبة)، ما عدا أن الخيبة هنا تشكلت بمن فقدوا الرؤية بسبب تفجر الأوعية الدموية للعين وأصيبوا بفشل كلوي ومشكلات بالرئة وخسروا وزنهم، وفقدوا أطرافهم، وفي أسوأ الحالات مات أحد معاونيهم من السكان المحليين وتحديدًا المنتمين لقبيلة «الشيربا» الذين يشعلون العرعر ليتصاعد الدخان كقربان للإلهة لتنجيهم من مهالك وظيفتهم في إيفرست.. المساعدين المُستغَلين رأسماليًا من أجل رياضة خطرة تضاف إلى منجزات المتسلق الترفيهية، كما تستغل الاقتصادات 1أطفالَهم في صناعة الماركات العالمية دون اكتراثية، فالقضية وكما يقول الدكتور زكريا إبراهيم: ملحمة بين ذاتهم وأناهم المثالي.
أعتقد بأن هناك توهُّمًا نصاب به جميعنا بعد تحقيق المنجزات الوهمية، كمحاولة فرض أهميتها، إذ نخشى من خلق مقارنة صريحة ما بين الخسائر والمكتسبات، ولا نستطيع بدورنا كذلك الاعتراض على إجاباتهم، فالإيمانيات مثلًا كلها غير معنية بإثبات واقعي؛ الإيمان مسألة غيبية محسوسة غير ملموسة، والمتسلق وظّف إيمانه لهذه الرياضة، وهذا التوهم نفسه هو ما يخلق ابتسامة الفوز في الصور الفوتوغرافية التي تسبقها بقليل رؤيةُ الجثث الملقاة منذ سنوات مضت بجانب الطريق، لعجز إيصالها سواء بالحمل أو بالمروحية لذويهم. ولعل رياضة تسلق الجبل تختلف عن مغامرة الوصول إلى القمة التي أزهقت 223 روحًا، فأوجه المقارنة هنا أشبه بإفراغ كرة القدم من الهواء وتعبئتها بالأسمنت، أو حتى استبدال كرة حجر سيزيف بها!
مع ذلك تبقى للكاتبة الساخرة فران ليبوتز وجهة نظرها المتبناة تجاه ما يُسمى بتحدي تسلّق الجبل الذي قاد إلى قمة إيفرست، بقولها: «التحدي هو أمر عليك فعله، وليس أمرًا تختلقه، فتسلق الجبل هو تحدٍ زائف. ثمة أمور عديدة على الناس فعلها وينبغي لهم فعلها ولا يفعلونها لأنهم خائفون أو لأنها صعبة أو لأنهم لا يجيدونها.. تلك هي التحديات»2.
فلذلك قد نتلمس الإجابة المنطقية عن تساؤلنا (ما المغزى من تسلق الجبل؟) في الأعمال المتخيَّلة مثل «القمة العظمى»، فقد كانت عبثية الإصغاء إلى صوت العدم أكثر إقناعًا من محاولة إثبات قوة جسدية أو الإصغاء إلى تعليمات معلم أو حتى محاولة هز الوتر العاطفي في المكتسبات الروحية التي أحدثتها المقاربة الموحشة من الطبيعة المغرية والتي قال عنها كارل ياسپرز: «إنني لأشعر بأن الطبيعة تناديني، ولكنني حينما أتوجه إليها بالسؤال، فإنها لا تحير جوابًا، بل تظل صامتة خرساء»3.