ما السينما؟

November 5, 2023

للقارئ أن يتساءل إلى أي حدّ يمكن أن نعدّ طرح السؤال حول تعريف السينما بعد قرن وربع من اختراعها مشروعًا، وقد قيل فيها ما قيل وكُتب فيها ما كُتب؟ وله أن يقول: «السينما هي السينما، هل نحن في حاجة إلى من يُعرّف لنا الماء والهواء؟» وله أن يرى في الطموح لتعريف السينما اليوم أمرًا شبيهًا بالطموح إلى إعادة اختراع العجلة كما يقال.  ولكن لن تغيب عنّا كل هذه الاحترازات ونحن نفكّر في سؤال السينما من جديد، ولن نغفل عن إدراك أن المسار الدائري الذي يعود إلى نقطة البدء مُنافٍ للتطوّر، ومُجافٍ لسهم الزّمن.

فالأمر في هذه الورقة بعيدٌ كليًّا عن اختراع العجلة وعن المرابطة في المكان نفسه. فمن خلال طرح هذا السؤال من جديد نريد أن نفكّر جديًا في عامّة ثقافتنا السينمائية.

لنطرح السؤال بطريقة مختلفة ومن زاوية مغايرة. ما الذي يجعلنا نحكم على هذا الفيلم أو ذاك بأنه عملٌ سينمائي حقّ؟ لقد تغيّر تصورنا للفنّ منذ فكّر الروسي رومان جاكبسون في أدبية الأدب وطرح السؤال: «ما الذي يجعل من الأدب أدبًا؟»، ووجّه الدراسات إلى الوظيفة الجمالية منه. وعلى النحو نفسه طُرح السؤال لاحقًا حول ما يجعل من العرض الركحي مسرحًا ومن اللوحة فنًّا تشكيليًا ومن الفيلم سينما. ورغم أن عمل الباحث الروسي يتنزّل في سياقٍ ينصرفُ إلى شكلِ العملِ الفنيِّ وينصرفُ كليًا عن محتواه، فإن سؤاله المنهجي هذا يظل مفيدًا في جعلنا نتساءل حول قدرتنا على تجاوز التذوّق البسيط والانطباع السريع للدفاع عن الحكم الجمالي الذي نتبناه. فلنجرّب ذلك إذن، مهما كانت خلفياتنا الجمالية، رغم اعتقادي أننا قلّما ننجح في مهمتنا. 

ولنفكّر في المشهد السينمائي العربي اليوم. فالجميع يطلق صيحات استغاثة بسبب تردّي مستوى الأفلام. أما عندما يتعلّق الأمر بأفلام الأصدقاء والخلّان، فالجميع يتحدّث عن عمل استثنائي سيحرّك سكونَ المشهد السينمائي الرّاكد بلا شكّ. ثم تمر الأيام وننسى تلك المقالات المهللة ويدخل الفيلم طيّ النسيان ويظل المشهدُ السينمائي محافظًا على ركوده. ولكن هل أعلَمَنا أحدُهم لماذا أطلق صيحة الفزع أو لماذا هلل يومًا وبشّر بغنم سينمائي عظيم؟ قلّما كتبت عنه المقالات التحليلية الموضوعية العميقة.

إذن نحن لا نعيد طرح السؤال بسذاجة أبدًا ولا نعود إلى الخلف قليلًا إلاّ لتكون القفزة إلى الأمام أطول كما يقال، أو لتكون الرؤية أكثر وضوحًا وقد لفّ الضبابُ المشهدَ من كلّ النواحي. فقد شاب مفهومَ السينما الأصيل كثيرٌ من التّحريف بفعل تقادمِ التصورات الأولى حينًا وبفعل تراخي النقّد وعدم تعاطيه مع سؤال السينما بالجدية الكافية حينًا ثانيًا، وبفعل سطوة رأس المال الذي يسرقُ منّا كل ما هو جميل – المسرح والرّقص وكرة القدم – ويحوّله إلى مجال لتحقيق الربح الأقصى حينًا ثالثًا. وإخراج مقولة أفلاطون «المعرفة تَذكّرٌ والجهل نسيان» من سياقها الميتافيزيقي، والزجّ بها في سياقٍ إبيستيمولوجيٍّ يتقصى حركة المفاهيم ووجوه تطوّرها، وهو سياق مناسبٌ تمامًا هنا. فقد سلّم الجميع بأنّ السينما فنُّ خلقِ الحكايات البديعة واختراعِ المغامرات المثيرة وعرضِها على الشّاشات المختلفة. وفي مثل هذا الاختزالِ تفريطٌ في ما يجعل من الأفلام تكتسبُ شرعية الانتماء إلى السينما.

من الإجابات الممكنة حول فهم السينما التعريفُ التقني الذي يعرضُ الأجهزة التي تكفل العرض السينمائي، كأن نشرحَ كيفية قراءة الفوتوغرامات المختلفة عبر مرور الضوء بواسطة مجموعة من المرايا والعدسات البصرية ووصلها بنسقٍ محدّد يتمثل في 24 فوتوغراما في الثانية الواحدة عامّة، حتى تمنحنا الإيهام بحركة الكائنات بسلاسة. ثم نمرّ إلى كيفية التأليف بينها في لقطات ومَشاهد تمثّل اللبنات المُشكّلة للفيلم. ولا شكّ أنّنا سنظل في حاجة إلى التذكير بالتحولات التقنية المختلفة بدايةً من اعتماد الشريط المغناطيسي وصولًا إلى التخزين الرقمي اليوم. ولكن في سياقنا هذا لا نعتقد أنّ الإجابة التقنية مجدية، فهي لا تعني إلا أهل الاختصاص أو أصحاب الشغف بالمعارف الموسوعية أولًا، وهي تُعرّفنا بكيفية صناعة المحتوى لا بجوهر فنّ السينما ثانيًا؛ نقصدُ معرفة ماهيتها ووظيفتها واتجاهاتها وتاريخها وخاصّة الفلسفة الجمالية التي تقوم عليها.

لنسلّم بالأطروحة التي تعتبر أنّ السينما تمثّل – بما هي فن من بين فنون كثيرة – شكلًا من أشكال التعبير الحرِّ والواعي الذي يكفل التواصل مع الآخر عبر أنظمته الرمزية، وأنّ هذا التواصل لا يكون مقصودًا بذاته وإنما لغايات دلالية. لا شكّ أن ذلك سيستدعي إلى أذهاننا موقفين متباينين. فقد ظل الفن موضوعَ أطروحتين: تدفع به الأولى تجاه المفيد وتعلي منه وترى في الفنّان حِرفيًّا يقترن عمله بجودة المنتج وجدواه وتتخذ من الهندسة المعمارية ومدّ الجسور العملاقة مثاله الأرقى أو تبحث في وقعه على المجتمع وتأثيره في السلوك العام، والحرفة تقتضي نوعًا من المهارة يتم تطويرها متى تعهدناها بالدربة والتمرين؛ وتدفع به الثانية إلى الممتع الجذّاب وترى أنّ دوره يتمثّل في إبداع آثارٍ فنيّة بهدف الوصول إلى تحقيقٍ مثاليّ للجمال يقتضي العبقرية أساسًا بما هي معطى فطري إلهي.

هكذا مثّل الفن، في التصوّر الأول كما في الثاني، موضوعَ تفكيرٍ فلسفيٍّ يصلُ الجميلَ ببعده الوظيفي. فالإنسان، ضمن هذا الأفق، مجبرٌ على العيش في العالم وعلى تحمّل هشاشته ومجبرٌ بعدئذ على مواجهة قدره الذي هو الزوال يومًا ما، لذلك يظل الموت هاجسًا ميتافيزيقيًّا مؤرقًا لجميع الفنّانين. وعليه يتعهّد الفن بمساعدة الفنّان على تخطّي هذا الهاجس عبر المتسامي على عبارة كانط باقتناص زخم اللحظة الزائلة وتخليدها وصيانتها من الفناء.

هل يبالغ الفلاسفة في منح الفنّ هذه الوظيفة؟ نعود إلى الماضي بحثًا عن الفطري من الإنسان قبل أن يؤثر فيه الثقافي المكتسَب. ومن هذا المنطلق لا نعتقد أبدًا أن الإنسان البدائي كان يبحث عن ترف جمالي ولذة مجانية وهو يعرضُ مَشاهد من حياته اليومية على جدران الكهوف؛ ففي رسمه لمشاهدِ الصيدِ وأعمال الفلاحة والتقرّب إلى الآلهة عبر الرقص حتى تجود بخيراتها وتبارك سعيه احتفاءً بالبقاء وبالحياة ضد الموت. وهذه الغريزة نفسها، ومن منطلق العقيدة المصرية القديمة التي تؤمن بالبعث بعد الموت ليعيش المرء الحياة الأبدية، وتُوجب حفظَ الجسد سليمًا لتعود إليه الروحُ بعد انفصالها عنه، فتسكُنه من جديد، كان الفراعنة يتركون على جدران المقابر علاماتٍ تقود الروحَ إليه. وعلى منوالهم، وإن تغيّرت الثقافات، كان المؤمنون يطلبون مباركة السيدة العذراء والقدّيسين لهم، لتجنب الجحيم عبر رسم لوحات لهم على جدران الكنائس في القرون الوسطى. قد كانت تحركه غريزة البقاء إذن وتدفعه إلى الصراع من أجله.

تجسّد مَلحَمة جِلجامِش، التي تُعدّ أقدم الأعمال الفنية العظيمة، صلةَ الفن بأسئلة الوجود الكبرى وبهشاشة الكائن في عالمٍ هشٍّ. ومدارُ أحداثها على معركة تدور بين الحاكم السومري جلجامش صاحب العظمة والجلال وأنكيدو العملاق الذي نِصْفه بشري ونِصْفه حيواني، وبعد صراع عات يصبحان صديقين، ويقتلان الثورَ السماوي ويقدِّمان قلبه إلى نور الشمس. وهذا ما يُغضب الآلهة ويجعلها تحكم على أنكيدو بالموت. وعند تنفيذ الحكم في المتهم وتعفّن جسده ونخر الدود له، تستيقظ حقيقة الفناء في نفس جلجامش وتدفعه إلى القيام برحلةٍ طويلةٍ محفوفةٍ بالمخاطر بحثًا عما يقهر الموت. وبعد لَأيٍ يعثرُ على نبتة الخلود فيأخذها ويغوص في الماء للسباحة ونيل نصيب من الراحة، ولكن الحية تسرقها منه وتلتهمها. ويكتشف جلجامش أن الحياة الأبدية لن تُدرك أبدًا، فقد استأثرت الآلهة بها لنفسها، وجعلت الموت من نصيب البشر.

إذن لطالما ظلّ شعورُ الإنسان بأنه عابرٌ في حياة هي بدورها لحظاتٌ منفلتةٌ عابرةٌ ومصدرٌ لكل شقائه. وكمن تزل به القدم فيكاد يسقط في هوّة عميقة، حاولَ أن يمسك بكل ما يمكن أن ينقذه ويعيد إليه توازنه؛ لجأ إلى الفنّ بما هو إعلاءٌ وتسامٍ يهدفان إلى الحدّ من قلقه ويعملان على الإمساك بهذا العابر وتثبيته ومقاومة فنائه. فعبر الشعر أو الموسيقى حاولَ الغوص في اللاواعي للبحث عن الإحساس الأكثر التباسًا وإدهاشًا، وحاول أن يمسك بالانفعال رغم تناقضاته ليضبط إيقاعه. وعبر الرسم حاول أن يمسك بالعالم الخارجي لتثبيته على المساحة المسطحة وتحويله إلى مجاز بصري يتسلل عبره إلى باطن الذات وهواجسها وأحلامها وانكساراتها وخيباتها، أو كان يضيف إلى المشهد بُعدًا ثالثًا عبر فنّ النحت.

أمكن للإنسان المقاوم للفناء إذن أن يمسك بالفضاء ليشكل على أديمه هواجسه وأحلامه أو ليجعله نبتة جلجامش التي تستهدف الخلود، وأمكن له أن يطوّع الفنون الزمنية كالموسيقى والشّعر. ولكنّ الإمساك بالزمن ظل عصيًّا عليه ممتنعًا. وهذا ما ستكفُلُه السينما منذ عام 1895.

ما السينما إذن؟ 

إنها فن القبض على الزمن وتثبيته ليكون جهازًا ينحت عليه الإنسان مأساته ويعبّر من خلاله عن تطلعاته. فوفق هذا المعيار وحده يمكننا أن نحدّد سينمائية الأثر السينمائي سواء أكان الأثر روائيًا أم وثائقيًا.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى