«ليلة الموتى الأحياء»: ريبورتاج عن الحلم الأمريكي

September 7, 2024

كان عقد الستينيات من أكثر الفترات صخبًا في تاريخ أمريكا:

حرب فيتنام من جهة، واحتجاجات الطلاب، الاشتباكات مع الشرطة، الإضرابات العُمّالية، اغتيال الساسة (الرئيس كينيدي، ومارتِن لوثر كينغ)، ونشاط الحركات السياسية والاجتماعية (حركة الهيبيز، حركة تحرير السود، والنسوية الحديثة) من جهة أخرى. تبعًا لذلك، انعكست الحروب والحركات المضادة على السينما بموت الحلم الأمريكي وانعدام الثقة بالنظام المؤسسي، حيث صُوِّرت الوعود المرتبطة بالحلم الأمريكي على أنها وعود زائفة.

في وسط هذه الفوضى والاضطرابات، عُرض فيلم جورج أ. روميرو «ليلة الموتى الأحياء» بعد صنعه وإنتاجه بالأبيض والأسود بميزانية منخفضة وفي وقت قياسي، وهو يتضمن قصة رمزية عن مجتمع يسوده النزاع. تبع باكورة أعمال «روميرو» ثلاثة أجزاء رائعة في نفس المكان، ولكن تحول منزلُ المزرعة إلى مركز تسوق في «فجر الموتى» في 1978 وملجأ تحت الأرض في «يوم الموتى» في 1985 ومدينة تُمزِّقُها حرب أهلية وصراعات طبقية في «أرض الموتى» (2005)، وقد ألهمت عددًا غير محدود من أفلام الزومبي الأخرى.

يزور الأخوان «باربرا» (جوديث أودا، منتجة أيضًا) و«جوني» (راسل سترينر) قبرَ أمّهِما في مقبرة معزولة في بنسلفانيا، وخلال زيارتهما، يتعرضان للهجوم من زومبي يبدو مظهره وكأنه شخص عادي. يحاول شقيقها مقاومة الزومبي، لكنه يصطدم برأسه على شاهدة قبر ويموت. تهرب «باربرا» من المقبرة بحثًا عن مأوى، حيث تكتشف منزلَ مزرعةٍ مهجورًا، وبعد وقت قصير ينضم إليها شخص غريب يُدعى «بن» (دوان جونز، هو منتج أيضًا)، لكن سرعان ما يحتشد الزومبي أمام المنزل.

يستوحي الفيلم أحداثه من رواية «أنا أسطورة » (1954) لـ«ريتشارد ماثيسون»، وتقع أحداثه في حدود المنزل الذي يختبئ فيه «باربرا» و«بن». أثناء تأمين نوافذ وأبواب المنزل، يعثر «بن» على بندقية، ويكتشفان أن هناك ناجين آخرين يختبئون في قبو المنزل: «هاري كوبر» (كارل هاردمان، هو منتج أيضًا)، وزوجته «هيلين» (مارلين إيستمان) وابنتهما الصغيرة «كارين» (كيرا شون، ابنة حقيقية لهاردمان)، التي عضّها زومبي ومرضت بشدّة، والعاشقان «توم» (كيث واين) و«جودي» (جوديث ريدلي). يعتقد «هاري» أنه يجب على الجميع النزول إلى القبو وتحصين الباب لانتظار السلطات. يعترض «بن» أن القبو هو «فخ موت» وأنه من الأفضل تحصين المنزل والبقاء في الأعلى، حيث يوجد على الأقل طرق بديلة للهرب. تقترح «باربرا» أن تغادر المجموعة المنزل سيرًا على الأقدام بعد أن تلاحظ توقف حركة الزومبي. ينزل «هاري» إلى الطابق السفلي لرعاية ابنته المريضة، وبينما يصعد الناجون الآخرون إلى الطابق العلوي لاستكمال تأمين الأبواب والنوافذ، يجذب الصوت الصاخب حشدًا كبيرًا من الزومبي إلى المزرعة.

يستمع الجميع إلى تقاريرَ إذاعيةٍ وتلفزيونية عن جيش من آكلي لحوم البشر الذين يرتكبون جرائمَ قتلٍ جماعيةً عبر الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وعن وجود رجال مسلحين يقومون بدوريات في الريف لقتل الموتى الأحياء. تؤكد التقارير أن آكلي لحوم البشر يمكن أن يموتوا مرة أخرى نتيجة ضربات قوية في الرأس أو رصاصة في الدماغ أو حرقهم.

تضع المجموعة خطة للهروب باستخدام شاحنة «بن»، التي نفد وقودها، عن طريق التزود بالوقود في مضخة وقود مغلقة على بُعد بضعِ مئاتٍ من الأمتار. بعد صراع مع الزومبي خارج المنزل، ينسكب الوقود من المضخة وتنفجر الشاحنة، مما يسفر عن مقتل «توم» و«جودي». في الداخل، تتزايد رغبة «هاري» في السيطرة على المنزل، حيث يوصد الأبواب أمام «بن»، مما يضطر الآخر إلى كسر الباب، وتلقينه ضربًا. تُوبِّخ «هيلين» زوجها «هاري» بسبب عدائه غير المفهوم تجاه «بن»، بالقول: «هؤلاء الناس ليسوا أعداءنا»، ورغم ذلك، أثناء محاولة الزومبي اجتياح المنزل، يستغل «هاري» الفوضى ويصارع «بن» للحصول على بندقيته بدلًا من التعاون معًا، ولكن «بن» يستعيد بندقيته ويطلق النار عليه. في الطابق السفلي، تستسلم «كارين» ابنة «كوبر» للعضة على ذراعها وتتحول إلى زومبي، تلتهم والدَها المُصاب، ومن ثَم تهاجم أمها المنكوبة التي لا تدافع عن نفسها.

يستخدم «روميرو» بشكل أو بآخر أفلامَ الرعب للتعليق عن الحرب، حيث يعيد بنحو غير مباشر تجسيد النزاعات والتيارات السائدة ولكن من دون استخدام أحداثٍ وصورٍ من التغطيات التلفزيونية لهذه الاضطرابات، كما أنه يضع آلة التصوير في عديدٍ من المَشاهد من فوق كتف الشخصية كما في التقارير التلفزيونية والصحفية، مصورًا التحلل التام للمجتمع والأيديولوجية الأمريكية. وكعادة أفلام السينما المستقلة في الستينيات، تجاهلت أفلام «روميرو» الحدودَ المقبولةَ للعنف على الشاشة، خصوصًا أنه يقدم قصصًا رمزية أيضًا عن التفكك الاجتماعي والسياسي في أمريكا، ففي «ليلة الموتى الأحياء»، يهاجم زومبي «روميرو» جماعاتٍ لا أفرادًا، مدفوعين بشكل غير مبرر ومفهوم، وفي المحصلة، لا يعجز الأفراد فقط عن مواجهة الموتى، بل أيضًا تعجز حكومة الولايات المتحدة نفسها، حيث لا تستطيع تحديد مصدر الوباء ولا حماية المواطنين.

تشبه النشرات الإخبارية في الفيلم تلك التي تُذاعُ في أثناء الحرب. وعلى غرار الأفلام الوثائقية والنشرات الإخبارية التي تتحدث عن الاضطرابات الاجتماعية، تخضع صور «بن» للمونتاج بجودة صحفية، خصوصًا المشهد الأخير، والذي يُظهر مصير «بن» على أنه تقرير أخباري.

يبرز «بن» البطل الأمريكي من أصل أفريقي ناجيًا وحيدًا من كارثة الليل، فقط ليتلقّى رصاصة من شرطي بين عينيه عند بزوغ الفجر، في أمريكا التي انفجر فيها العنف العنصري في الستينيات، ومثّلَ ذلك أهميةً رمزيةً لرجل أَسود يلقى حتفه بدمٍ باردٍ على يد عضو من جماعة كلها من البيض، وهو أمر من الصعب التغاضي عنه. أثار «جورج أ. روميرو» جدلًا واسعًا عند اختيار الممثلين في عام 1968 وكذلك في النهاية المأساوية، إذ كان من النادر أن يتم اختيار رجل أسود بطلًا لفيلم أمريكي يتكون أساسًا من ممثلين بيض، ولكنّ كسْر الحواجز الثقافية والعرقية، ونشوب النزاع بين الشخصيات في المنزل ومحاولة نبذ «بن» وإقصائه، والموت أخيرًا على يد شرطي أبيض يطلق النار على كل شيء يتحرك، جعل كثيرين من الجمهور والنقاد ينظرون إلى العمل بشكل صريح من زاوية سياسية. كما تلقى التحليلُ الأكاديمي الفيلمَ ضمن إطار الحراك الاجتماعي والثقافي، حيثُ اعتَبرت مكتبة الكونغرس في العام 1999 الفيلمَ بأنه «ذو أهمية ثقافية وتاريخية وجمالية» وتم اختياره للحفظ في السجل الوطني للسينما.

ما من شك في أنه ثمة رابط قوي بين أفلام الزومبي والاضطرابات الاجتماعية، ويمكن التأكد دومًا من هذه العلاقة سواء في زمننا أو في زمن صناعة هذا النوع. ولكن هذا الفيلم بشكل خاص يحمل جميع تناقضات وتيارات ومخاوف عصره، إذ يمكن للجميع أن يجد نفسه فيه، ويرى المؤرخ «روبن وود» أن مَشاهد أكل اللحم في «ليلة الموتى الأحياء» تُمثّل نقدًا للرأسمالية الأمريكية في أواخر الستينيات، ويؤكد «وود» أن الزومبي يمثلون الرأسماليين، وأن «أكل لحوم البشر يمثل أقصى درجات التملك، ومن هنا النهاية المنطقية للعلاقات الإنسانية في ظل الرأسمالية»، ويجادل بأن ضحايا الزومبي يرمزون إلى قمع «الآخر» في المجتمع الأمريكي، أي الناشطين في حركة الحقوق المدنية، والنسويات، والمثليين جنسيًا. ويمكن للمرء أن يأخذ في الاعتبار على سبيل المثال ما كتبه «روبرت لايتنينغ» عن المخاوف النسوية في الفيلم كما تم الكشف عنها من خلال شخصية «باربرا»، الابنة الأبوية المطيعة، التي يمكن قراءة مواجهتها مع شخصيتين من الزوجات «الميتتين» على أنها نقد لوجودها البرجوازي المستقبَلي المحتمَل: المرأة الميتة (يطلق عليها سيدة المنزل بشكل رمزي).

منذ ما يقرب من نصف قرن، قدّمت أفلام «جورج أ. روميرو» للمشاهدين رؤى جهنمية لعالمنا الذي يجتاحه آكلو لحوم البشر، بحيث ينتهي فيلم «ليلة الموتى الأحياء» بمشهد ألسنة لهب من الجثث المحترقة، والذي يمكن تفسيره على أنه كناية عن الحالة الأمريكية المعاصرة، واحتراق الحلم الأمريكي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى