ليس المستحيل أن تبيع الماء في حارة السقايين، وإنما أن تبيعه لقوم لا يعطشون، ستخرج بهذه الحكمة بعد مشاهدتك فيلم «سبورات سوداء- Blackboards» للمخرجة وكاتبة السيناريو سميرة مخملباف، وهو ثاني عمل لها بعد فيلمها (التُّفَّاحة)، وقد عُرض الفيلمان في مهرجانات عدة، ونالت عنهما عدة جوائز.
تعالج مخملباف في فيلمها «سبورات سوداء» قضية التعليم وسط مجتمع أُمِّيٍّ ينهشه الجوع والجهل وتحاصره الحرب. ويعرض الفيلم هذه القضية من خلال جيلين: جيل الشيوخ وجيل الأطفال، ومن خلال مُعلمَينِ جوالَينِ شابَّينِ: سيد وريبوار [بهمان قوبادي]. وينتهي رأي الجيلين إلى أن التعليم في ظل ظروفهم من الكماليات التي لا ضرورة لها. وفي الطرف الآخر يبدو أن لقمة العيش -وليست أهمية التعليم- هي ما يحرك سيد وريبوار. ومن بين سطور هذه القضية تستطلع مخملباف سؤال الأمل: هل هناك دورٌ للمعلم؟ هل هناك أملٌ في الأخير؟
من أسفل الجبل إلى قمته:
من أول مشهد تصرح مخملباف بموضوع فيلمها. تفتتحه بمجموعة من المُعلمين الجوَّالين يحملون فوق ظهورهم سبورات سوداء ويتبادلون الحديث، ثم يتفرقون في جهات مختلفة؛ بحثًا عن رزقهم. يكشف الحوار بينهم عن الهم الذي يثقل كواهلهم، وهو العثور على طلاب ليُعلموهم مقابل لقمة العيش. ويتحدث سعيد مع ريبوار عن ندمه؛ لأنه لم يسمع كلام والده الذي حذره من اختيار التدريس مهنة له. وفي هذا السياق يوضع التعليم مقابل رعي الأغنام، ويُلمح -من خلال كلام سيد- أن المهنة الأخيرة هي الأفضل.
يفترق المعلمون، ويتبقى اثنان تتخذهما المخرجة عيِّنة، نكتشف من خلالهما مصيرَ بقية المعلمين الجوالين. يمضي سيد إلى أسفل الجبل، ويلتقي مجموعة من كبار السن في طريق عودتهم إلى مسقط رؤوسهم حلبجة. وبينما يمضي ريبوار إلى قمة الجبل يلتقي مجموعة من الأطفال يسمون أنفسهم بغالًا؛ لأنهم يعملون في تهريب البضائع بين الحدود العراقية الإيرانية.
يحاول سيد وريبوار الترويج للتعليم كما يروج التاجر لبضاعته، لكن تُغلق دونهما الأبواب. وفي مشهد دالٍّ على تفشي الأمية وعواقبها، يتوقف سعيد عند شيخ يطلب منه قراءة رسالة وصلته من ابنه الأسير في العراق. ولأنها مكتوبة بلغة غير الفارسية لا يجيدها المدرس، عجز عن قراءتها، لكنه أخفى ذلك، ولفَّق للشيخ كلامًا عامًّا. وفي مشهد آخر يحاول ريبوار إغراء الأطفال بأهمية التعليم، ويخبرهم أنهم سيتمكنون من قراءة القصص، فيرد عليه طفل بأن لديه كثيرًا من القصص، استمدها من حياته الشخصية، ويقص عليه إحداها. هذه المقابلة بين جيلين تضع الشيوخ مرآةً للأطفال بلسان مضمر يقول: سيكون الأطفال الذين رفضوا التعليم مثل ذلك الشيخ الذي عجز عن قراءة رسالة من ابنه.
سيزيف يحمل سبُّورةً:
للسبورة في قصة الفيلم استعمالات عديدة. ففي بلد محروم من العلم أو العلم فيه بلا قيمة، يمكن للسبورة أن تكون أي شيء، إلا أن تُستعمل وسيلة للتعليم؛ يمكنها أن تكون متراسًا للحماية من الغربان، أو من رصاص حرس الحدود، أو نقالة للمرضى، أو مهرًا لعروس، أو حبل غسيل وعلَّاقة ملابس، أو قطع خشب لتجبيس كسر في ساق طفل سقط من أعلى الجبل.
تلج سميرة مخملباف من عتبة التعليم لتصور حال الأكراد، فتضع يدها على الداء، وتُلمح إلى الدواء من خلال التعليم. في الظروف الطبيعية يبحث التلاميذ عن المعلم ويذهبون إليه، سواء في الجامع كحال التعليم التقليدي، أو في المدرسة، أو حتى في المنزل. أما هنا؛ فالمعلمون هم مَن يبحثون عن تلاميذ، ويحاولون إغراءهم بفوائد القراءة والكتابة. يريد المعلم أن ينتشل الأطفال من واقعهم إلى واقع أجمل عبر القراءة، وهم يعيدونه إلى واقعهم القاسي المشترك. يجيد بعض الأطفال القراءة فعلًا كما عبَّر أحدهم، لكن الظروف القاسية حرمتهم من طفولتهم ومن الذهاب إلى المدارس، التي يبدو أنها لا وجود لها أو لم تعد موجودة بفعل الحرب.
المدرسة هنا مختزلةٌ في سبورات سوداء محمولة على ظهور مدرسين جوَّالين. يذكرنا حال المعلمين والأطفال هذا بسيزيف الحامل صخرته الأبدية إلى قمة الجبل كما تقول الأسطورة الإغريقية. وسيكون هذا هو الحال غالبًا: المعلمون يحملون على ظهورهم السبورات، فيما الأطفال يحملون على ظهورهم البضائع المهربة، ويدفع بعضهم حياته ثمنًا لهذه المغامرة المفروضة عليهم. هنا تُغلق المسألة لتشير إلى مستقبل مجهول.. أو مفتوح على الحال نفسه.
مصيرٌ ملبدٌ بالضباب:
في مشاهد أقرب ما تكون إلى السيريالية، يحمل المدرسون الأكراد سبورات سوداء على ظهورهم؛ بحثًا عن تلاميذ لتعليمهم القراءة والكتابة، في جبال وقرى إيران، بالقرب من الحدود العراقية، خلال الحرب العراقية الإيرانية. والبديل المتاح هو العمل في رعي الأغنام، كما عبَّر سيد يائسًا. تُغلق الأبواب دونهم؛ فهذه بلاد لا يجد أهلها لقمة خبز، فكيف يدفعون مقابل تعليم الأطفال الذين يعملون بغالًا لنقل البضائع المهربة بين الحدود؟! أما الشيوخ؛ فتائهون يبحثون عن دليل يرشدهم إلى طريق يقودهم إلى وطنهم حلبجة. يقبل سيد هذه المهمة مقابل أربعين جوزة، وعندما يصل بهم إلى أطراف موطنهم (حلبجة) يتهمونه بالكذب؛ في إشارة إلى الحال الذي وصلت إليه بلدتهم بعد قصفها بالكيماوي، إلى درجة لم يعودوا يعرفونها.
بانضمام سعيد لقافلة الشيوخ، يتقرب من المرأة الوحيدة في القافلة هلالة. ويعرف من أحد الشيوخ أن والدها المريض يرغب في تزويجها دون مهر، فيتقدم سيد لخطبتها. المكان الذي اختارته مخملباف لقصتها بعيد تمامًا عن الحضارة، مكان أشبه بالعصور الحجرية وظروفها، إلى درجة أن الناس لا يتعاملون بالنقود، بل بالجوز والبنادق. لذلك سيكون العقد الذي يربط سيد بهلالة مجرد كلمات يلقيها شيخ، وستكون السبورة صداقها الوحيد. وحين يصلون إلى غايتهم حلبجة، ترفض هلالة البقاء مع زوجها، ويرفض سيد عبور الحدود معهم، فينفصلان بالطريقة والسرعة نفسها التي تزوجا بها. تأخذ مهرها على ظهرها، وتمضي لتضيع مع بقية الشيوخ وسط مشهد ضبابي يشير إلى المجهول.
يتركنا هذا المشهد الختامي أمام سؤال: هل سيصنع سيد سبورة أخرى، أم أنه سيختار أن يكون راعيًا للأغنام كما أراد له والده؟!
الحياة بسيطة وقاسية في الوقت نفسه. يتزوج سيد وهو في الطريق بهلالة ومهرها سبورته. يحاول تعليمها كلمة "أحبك" لكنها لا تستجيب؛ فهناك ما يشغلها ويستحوذ على كل اهتمامها: إنه طفلها من زواج سابق. في الجملة الوحيدة التي نطقتها تقول له هلالة: "قلبي مثل قطار، في كل محطة يصعد شخص أو ينزل، لكن هناك شخص واحد لا ينزل أبدًا.. ابني". عبارة تبدو ألفاظها المنتقاة أكبر من أن تقولها امرأة أُمية، لكن المعنى ليس بعيدًا أو غريبًا على كل أُم تقرر التضحية بسعادتها في سبيل سعادة ابنها. تبدو هلالة أشبه بالمعتوهة الصامتة معظم الوقت، وسنعرف لاحقًا أن القصف بالكيماوي هو ما جعلها كذلك. وعندما يتعرضون لإطلاق الرصاص من قبل حرس الحدود، ستستعيد ذكرى القصف معتقدة أنه قصف بالسلاح نفسه.
الشيوخ في رحلة عودتهم إلى بلدتهم حلبجة والأطفال في رحلة عبورهم للحدود متخفين بين الأغنام وفي قمم الجبال، نرى في هذه الرحلة صورة للنزوح، تذكرنا بنكبة 48 وبالنكبات التي حلت بعد 2011 في عدة بلدان عربية.
الفكرة على هذا النحو جميلة، لكن معالجتها استغرقت وقتًا أطول؛ بسبب تكرار بعض الجمل. وربما حدث هذا التكرار بسبب التحرير واستعمال اللقطة نفسها من زوايا مختلفة. يبدو الارتجال واضحًا في الحوار الذي تكررت بعض جُمله؛ لتكشف أيضًا عن مجتمع محدود الاستيعاب. ومن الواضح أن أغلب الممثلين هم أناس عاديون لم يخضعوا للتدريب، ورُبما لُقِّنوا جملهم في أثناء التصوير. وهذا مستغرب حين نعلم أن القصة اشترك في كتابتها ثلاثة: سميرة مخملباف، ووالدها محسن مخملباف، وزاهير قريشي. ومع ذلك تبقى ميزة الفيلم في دلالاته، وخصوصًا استعمالات السبورة السوداء، ومشهد الختام المفتوح على أملٍ ملبدٍ بالضباب مصحوبٍ بصوت مغنٍّ فجائعيٍّ يصدح مع صعود الأسماء في التتر، وهو الصوت نفسه الذي بدأ به الفيلم.