تعيدني الذاكرة لعرض الفيلم السعودي «شمس المعارف» (2020) للأخوين قدس؛ والذي جاء ليكون من أوائل الأفلام السعودية الصادرة في مرحلة انطلاق الفن السابع ودور العرض السينمائية في المملكة.
حقق هذا الفيلم نجاحًا كبيرًا، وتباينت الآراء حول أهميته، واختلف عليه الكثير؛ هناك من عدّه علامة واعِدة لمستقبل السينما السعودية، بسبب البناء الروائي لموضوع الفيلم أو تميُّز الفنانين، والفنيِّين المُساهمين في ذلك العمل. في المقابل يرى آخرون أن هذا العمل يشكل واحدة من عدة محاولات ركيكة فنيًا يرتكز معظمها على الحِسّ الكوميدي.
يقينًا كنت آمل دائمًا أن أكون قادرة على التعبير عن رأيي بحرية في الأفلام، لكن إن وَجدتْ رؤيةُ الفيلم للعالم قبولاً عند الآخرين بوصفها جزءًا من رؤيتهم، من ذواتهم؛ فأي محرِك أفضل من هذا يمكن أن يُستغل في دراسة الدافع الرئيس لنقد الجمهور من عدمه للعمل الفني؟ فكما أن للعمل الجيد جمهورًا يحتفي به، هناك على الجانب الآخر جمهورٌ يرفض التقيد بآراء الآخرين، لذا فإن توضيح تلك التباينات في الرؤى عند الجمهور قد يساعد في إلقاء الضوء على أساليب التعبير والنقد الأساسية للفيلم والثانوية.
فهل للجمهور دورٌ في إثراء المحتوى السينمائي، وكيف يعمل صُنّاع الأفلام على استهداف «الجمهور» كعامل رئيس في صناعة الفيلم؟
بدايةً، من الجيد طرح تساؤل عباس كيارستمي: «لمائة عام، كانت السينما تنتسب إلى صانع الفيلم. دعونا نأمل أن يحين الوقت لنا لكي نشرك الجمهور في قرنها الثاني»1. أتساءل عما إذا كان لفيلم شمس المعارف تأثيرٌ على الجمهور؛ وذلك لأني أتذكر الحديث الذي دار حول الفيلم حينها، باعتباره البداية الأولى للفيلم السعودي الطويل، وهو ما يدفعني اليوم للكتابة عن الدور الذي يقع على عاتق الجمهور، من حيث تأثيره وتأثره بالعمل الفني، وكيف ساهم ذلك في خلق سينما حقيقية.
إن انفتاح العمل السينمائي للجمهور ونقده، يقودنا لتحريك الرؤى داخل الفنّان. فإذا استطاع العمل المختار أن يحرك مشاعر المخرج، ويستحضر ذكرياته، ويقترح تداعيات -حتى وإن كانت ذاتية-؛ فإن ذلك يشكل حلقة متواصلة من الإبداع، تنسج مع مرور الوقت ذلك الارتباط العاطفي ما بين المخرج والجمهور، وتسهم بإثراء الصورة الفنية لأعماله، حيث إن تمكين الجمهور من أن يكون فاعِلًا في المشهد الفني، يعمل على خلق حالة لا متناهية من الذوبان، يتماهى فيها كلٌّ من الفنان والجمهور لخلق سينما متمكنة ورصينة.
كل هذا يبرهن من جديد أن السينما -مثل أي فن آخر- هي نتاج مبدع الفيلم. حيث يمكن القول بأن السينما بطريقة ما تخضع لجمهورها، كما يخضع الجمهور للعمل ويتأثر به. ذلك تحديدًا ما يدفعني لوصف «شمس المعارف» كفيلم تمت صناعته للجمهور بشكل خاص؛ حيث كان الجمهور هو عامل نجاح الفيلم، خاصةً في التزامن الملحوظ لعرض الفيلم بعد شراء منصة «نتفليكس» لحقوق البث، كما أن مشاركته في مهرجان مالمو للسينما (2022) ساهم في انتشار العمل في عدة بلدان أخرى.
يطرح أندريه تاركوفسكي عدة تساؤلات: لماذا يوجد الفن؟ مَن يحتاجه؟ وهل يحتاجه أحد بالفعل؟
«إن غاية الفنون كافةً -إلا إذا كانت بالطبع موجهة إلى المستهلك مثل أية سلعة صالحة للبيع- هي أن تفسر للفنان نفسه -ولأولئك المحيطين به- معنى وجوده وما يعيش الإنسان لأجله ودفاعًا عنه. أن تفسر للناس سبب ظهورهم على هذا الكوكب، وإذا كان التفسير أمرًا غير وارد، فعلى الأقل أن تطرح الأسئلة»2.
هكذا فإن الفن، مثل العلم، وسيلة لاستيعاب العالم، وواسطة لمعرفة الإنسان في رحلته. وبهذا تكون وظيفة السينما الأساسية تحريك الطبيعة الإنسانية داخلنا، وكشف ما يواجهنا في هذه الحياة وما يتعين علينا تفسيره كلّ يوم؛ مما يساهم في تحسين جودة تذوقنا للعمل الفني، دون أن يفسد لذة اكتشاف المعنى الكامن وراء الأشياء.
تُسهم التساؤلات السابقة في البحث عن الهفوات والأسباب التي أسقطت «الجمهور» كأحد عوامل نجاح الفيلم، وذلك من خلال الطريقة التي يتم بها التعامل مع السينما كمفهوم عام، والأفلام السعودية بشكل خاص؛ حيث إن تغييب الجمهور وعدم تلقيهم للعمل الفني، من خلال حصر عرض الأفلام السعودية وعدم وجود مواعيد عرض الأفلام في الصالات، أدى إلى انعدام دور الجمهور، وإثرائه للعمل الفني. وبهذا فإن الفيلم يخسر أحد أسباب نجاحه، وتطور الصناعة السينمائية.