لم يكن للإنسان، وقد استعصى عليه نسخ الزمن وحفظ مدد منه كما كان يفعل مع الفضاء، إلاّ أن يتأمله، فيُذهل ذهول آلان بوسكيه (Alain Bosquet) عند قوله: «أقضي كل زمني في محاولة فهم الزمن»، أو يستسلم لسلطانه كما يفعل فرانسوا رابولاي (François Rabelais) بقوله: «بمرور الزّمن تتضح كل الأشياء، [إنه] أبو الحقيقة». وقد يتمرّد عليه كحال المتنبي وهو يقول: «وَلَو بَرَزَ الزَمانُ إِلَيَّ شَخصًا لَخَضَّبَ شَعرَ مَفرِقِهِ حُسامي». فكيف للسينمائي أن يمسك به وينحت على أديمه وقد عرّفنا السينما في ورقتنا السابقة بأنها «فن القبض على الزمن وتثبيته ليكون جهازًا ينحت عليه الإنسان مأساته ويعبّر من خلاله عن تطلعاته. فوفق هذا المعيار وحده يمكننا أن نحدّد سينمائية الأثر السينمائي سواء أكان الأثر روائيًا أم وثائقيًا»؟
لن ننتهي إلى غاية إذا ما حاكينا فهم الفلاسفة أو الأديان له لأننا سندخل متاهة يعسر الخروج منها. ولنكتف بمسار القبض عليه وفق مفهومه العلمي الضامن للوحدة بين مختلف التصورات.
تُعرّف الموسوعات العلمية الزّمن بأنه امتدادٌ لا نهائيٌّ تتقدّم على خطّه الأحداث من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. ومنذ القرن الثامن عشر، أضحت تعدّه البُعد الرابع للواقع، متأثرةً بأطروحة عالِم الرياضيات والفيزياء الفرنسي جون لو رون دالمبارت (Jean Le Rond d'Alembert). فكيف أمكن للإنسان أن يمسك به وقد أشكل عليه؟ لا شكّ أنّ معرفة مسار البحث وتطوره حتى الوصول إلى القدرة على استنساخ الزمن وتخزينه مهم لكل مغرم بالسينما.
1- عندما نجح الإنسان في الإمساك بالزمن
ومع أن الزمن عنصر مجرّد لا يمكن رؤيته أو لمسه أو تذوقه، أمكن للإنسان قياسهُ وتحديد مدده. ثم حاول محاكاته بخلق عوالم شبيهة بحياته اليومية بداية من رسم مشاهد الصيد على جدران الكهوف إلى خلق أساطير تضج بالحركة لتعكس تصوراته للعالم، وصولًا إلى ابتكار الرواية ومختلف أشكال القصّ اليوم. ولكن عملية استنساخه كما هو – أو على الأقل كما يبدو لنا أو نتصوره – ومضاعفته مضاعفة ميكانيكية على عبارة الفرنسي روجي أودون (Roger Oden) ظلّت أمرًا مستعصيًا عليه حتى صنع المخترع الفرنسي ليون غيليوم بولي (Léon Guillaume Bouly) آلة السينماتوغراف (Le Cinématographe ) في 1892-1893، وهي آلة كاميرا قادرة على التقاط المشاهد وعرضها. وتعنينا دلالة العبارة، فهي نحت مشكل من مفردتين يونانيتين هما "κίνημα / kínēma" وتعني "الحركة" و "γραϕή / graphê" وتعني "فن الكتابة".
في هذه الأثناء كان المخترع العظيم توماس إيديسون (Thomas Alva Edison) يحاول بدوره اختراع آلة للمسك بالزمن في الطرف الآخر من المحيط الأطلسي. وأمكن له بالفعل أن يتوصّل إلى جهاز قادر على عرض الصور على نحو يوهم بجريان الحركة أمام أبصارنا لمدة قد تصل إلى بضع دقائق، وألقى عليه اسم "كينيتسكوب" (Kinetoscope). ثم شيئًا فشيئًا أمكن للإنسان بالفعل القبض على الزمن ومضاعفته ميكانيكيًا، بداية من تجربة الأخوين الفرنسيين لوميير. ويعتبر مؤرخو السينما اليوم "رقص أعرج" (Serpentine Dance - 1894) و"القبلة" (The Kiss - 1896) أول أفلام توماس إيديسون و"مغادرة المصنع" (La Sortie des Usines Lumière) و"وصول قطار إلى المحطة سيوتات" (L’Arrivée d'un Train en Gare de La Ciotat) و"الساقي المسقي" (L’Arroseur Arrosé) أول أفلام الأخوين لوميير سنة 1895.
2- مساع كثيرة لتحريك الصورة
يقول لورون مانوني (Laurent Mannoni) في أثره "ثلاثة قرون من السينما، من الفانوس السحري إلى السينما": «لم تظهر السينما بمعجزة عام 1895»، فلم تنبجس «صناعة» الصور المتحركة «في تسعينيات القرن التاسع عشر إلا بفضل تطبيقات أُجريت منذ قرون». وتولى الأمر علماء ومكتشفون دفعهم الشغف إلى دراسة الحركة وتقطيعها ضمن المخابر والعمل على محاكاتها؛ فاخترع الإنجليزي ويليام جورج هورنر وسيمون سترانفير (1833 - William George Horner et Simon Stampfer) جهاز "زويتروب" (Zootrope) وترجمته الحرفية "محاكي الحيوان"، وهو لعبة بصرية توحي إدارتها على نحو دائري بركض الحيوانات المرسومة عليه، ثم اخترع المصور البريطاني إيدويرد مويبريدج (Eadweard Muybridge - 1879) جهاز "زوبراكسيسكوب" (le Zoopraxiscope)، ويستند بدوره إلى لعبة بصرية يوحي تحريكها بحركة الأشياء، وعبرها عمل على محاكاة ركلة الحمار أو رقص النساء. وأشهر تجاربه رصده لتسلسل من 24 صورة عام 1878، لمعرفة اللحظة التي ترتفع فيها أرجل الحصان جميعها عن الأرض، ثم عُرضت هذه الصور عبر هذا الجهاز في عام 1880، وأفضت إلى محاكاة مدهشة لركض الخيول. ثم أجرى الفيزيائي والمخترع الفرنسي إيتيان جيل ماري (Étienne-Jules Marey) دراسة حول حركة الخيول وطيران البجع.
3- ثم جاء أول عرض سينمائي مكتمل
ولكن الفرجة السينمائية الأولى المكتملة الأركان لم تتحقق إلاّ يوم 28 ديسمبر 1895 في "المقهى الكبير" بالعاصمة الفرنسية باريس حين نظّم الأخوان لوميير عرضًا لفيلمهما "مغادرة المصنع". وتضمّن مشاهدَ لعمال وهو يغادرون مصنعهم استغرقت خمسين ثانية، فخلّف ذهولًا عظيمًا لدى المتفرّجين لقدرة هذا الاختراع الجديد على الإيهام بالحقيقة وعلى «القبض على الزمن» وتسجيله و«مضاعفة الواقع ميكانيكيًا». وعند عرض فيلم "وصول القطار إلى سيوتات" – وكان القطار يقترب نحو الكاميرا – ترك المشاهدون مقاعدهم وفرّوا في حالة من الرعب، معتقدين أنه كان سيدهسهم.
والمفارقة تكمن في تحديد الغاية من هذه العروض. فرغم تضمُّن هذه اللقطات بُعدًا توثيقيًا تتأكد قيمته كلّما غدا الفيلم أقدم، لم يدرك منه صاحباه غير جانب التسلية. وبعد أن كانا يعتقدان أنّ اكتشافهما بلا مستقبل في لحظة إحباط، انتشرت السينما في أنحاء مختلفة من أوروبا وأمريكا، وسرعان ما افتتح الأخوان دورًا للعرض في لندن وبروكسل ونيويورك، ثمّ درّبا مساعدين لهما على استخدام اختراعهما، وأرسلاهم إلى بقاع كثيرة في أنحاء المعمورة ليصنعوا أفلامًا حول وقائع تجري فيها. وبعد عشر سنوات من اختراعهما الكبير أنتج الأخوان أكثر من 1400 فيلم.
4- بحث عن هوية جديدة للسينما
بعد هذا النجاح الكبير سيحاول المولود الجديد أن تتمثل هويته على نحو مختلف. فما إن تأكدت السينما من قدرتها على استقطاب الجمهور ومنافسة عروض المسرح والأوبرا حتى تضاعفت طموحاتها وكرهت مهمة التسلية الرخيصة التي ارتبطت بها إبان نشأتها. ولكن الحياء واستعظام المهمة جعلاها تتسلل إلى ساحة الفن بوساطة "علَمين" من كبار أعلامه، هما الأدب والمسرح، فقد استمدّت من الروايات قصصَها الأولى، ويعدّ جورج ميلييه أول من اتجه هذا الاتجاه في فيلمه "سفر في القمر" (Le Voyage dans la Lune - 1902)، فقد اقتبسه من رواية جيل فارن (Jules Verne) "من الأرض إلى القمر" (De la Terre à la Lune - 1865). وفي أمريكا اقتبس ديفيد غريفيث رواية "رجل الجماعة" (The Clansman) لتوماس ديكسون (Thomas Dixon Jr.) التي نُشرت عام 1905 ليُخرج أهم الأفلام الأمريكية الصامتة "ولادة أمة" (The Birth of a Nation) في عام 1915. ثم استقت السينما الصامتة أعمالًا كثيرة من مسرح ويليام شكسبير خاصّة.
ولم تقتصر الإفادة من المسرح على اقتباس النصوص فحسب. فقد مثلت طريقة الأداء التي تقوم على التوسع في الحركة بالنظر إلى بعد المتفرّج بُعدًا اعتباريًا أخذت تحاكيه. ولم تنتبه إلى خصوصية الصورة التي تدرج أعضاء الجسد على الشاشة ولا تحتاج إلى المبالغة في الإيماءة إلا بعد نصف قرن من ظهورها تقريبًا. وهكذا بدأت تفرض استقلالها وتقدّم نفسها على أنها فن العصر الذي يجمع بين توظيف التكنولوجيات الحديثة والمعالجات الجمالية.
5- السينما بوصفها فنا سابعا
إذن دخلت السينما محراب الفنون وأطلق عليها الناقد الإيطالي ريتشيوتو كانودو اسم الفن السابع في أثره "بيان للفنون السبعة" عام 1923 بناء على تصنيف هيغل للفنون إلى ستة تصنيفات، وهي العمارة والنحت والرسم والموسيقى والرقص والشعر. ثم ترسّخت القناعة لاحقًا بأنها تمثل هذه الفنون مجتمعة، وغدت أرقى التعبيرات وأكثرها تعقيدًا وتكلفة، وتحولت بوصلتها من التسلية المبتذلة إلى مقارعة الفنون والفوز بينها بقصب السبق. فكان هاجسها القبض على الزمن والقدرة على طباعة نُسَخ من الحياة بمختلف تجلياتها: الواقعي منها والمهلوس والمتخيل واللاواعي. وعليه فقصر تمثلنا لها باعتبارها فن خلق الحكايات تحريفٌ لهذا الفن العظيم.
قد يتساءل بعض الناس: ما الذي يجيز للفيلم الانتماء إلى فن السينما إذن؟ يكشف هذا المسار الذي عرضناه أن الإجابة لن تكون "القدرة على ابتكار الحكايات البديعة" وحدها ولا "الإتقان التقني" فحسب، وإنما هو قدرة العمل الفني على التقاط هواجس الإنسان، عبر هذين الوسيطين، في زمن مواجهة خطر الفناء والغوص في رغباته وأحلامه الدفينة وانكساراته في سياق وجودي معاد سواء كانت هذه السينما روائية أو وثائقية أو تجريبية أو شعرية. فمتى التقطنا هذه اللحظة ونحتناها على أديم الزّمن نسبنا أثرنا إلى فنّ السينما.