1- السينما المستقلة والتحرّر من هيمنة دوائر الإنتاج
تُصنَّف السينما التصنيفات المختلفة بحسب زوايا المقاربات، فتكون صامتة وناطقة أو تخييلية ووثائقيّة أو إبداعية واستهلاكية وغير ذلك.. ومن بين هذه التصنيفات تقسيمها وفق علاقتها بدوائر الإنتاج إلى: تابعة لمنظومات الربح والاستثمار -ويتمثّل نموذجها الأخطر في نظام الاستوديو الصّارم الذي كانت تعتمده سينما هوليوود، فيفرض هيمنة شركات الإنتاج التي تحتكم إلى نفوذ المنتج ودوره في تحديد مصير الفيلم وتطويعه ليناسب النجوم الذين يتم احتكارهم، ويتحوّل الفيلم إلى منتج مادي يُفرض في السوق فرضًا عبر مسالك التوزيع وأساليب التسويق والدعاية- ومستقلّة1، وتعني عند أغلب الباحثين والنقّاد تلك الأفلام التي يتمّ إبداعها خارج دوائر الإنتاج المعهودة، سواء كانت شركات إنتاج ربحية أو رعاية مباشرة من السلطات أو الهيئات الثقافية أو الجمعيات المدنية، وخارج مسالك التّوزيع ذات البُعد التّجاريّ الصّرف، وتعني فضلاً عن ذلك إنتاجها بعيدًا عن المحترفين ودون الاستعانة بالممثلين من النجوم الكبار.
ويُقصد من عمل بعض السّينمائيين على الاستقلال المادي عن دوائر الإنتاج الرّسميّة أو التجاريّة سعيٌ موازٍ للاستقلال الفكري المجسّم لحريّة المبدع، فتغدو السينما أداة لإدانة الواقع سياسيًا والثورة على مجمل الأفكار المحافظة، وتصل السينمائيَ بالثقافة الرصينة العميقة وبالعمل الدّؤوب على اختراق المحظور، فيضمّن أفلامه رسائل تنتصر إلى الإنسان وتناهض الأنظمة الاستبدادية، كما تغدو أداة للنضال في بُعده الشامل، فكل حركة تدافع عن قداسة الفكرة وعن علوية قيم الحرية والجمال إنما هيّ من منظور السينما المستقلة حركة نضال، وكل سينمائي يتحدى ظروف الإنتاج ليعبّر عن هواجس الإنسان في كلياتها أو في جزئياتها يُعدّ من المنظور نفسه سينمائيًا مناضلاً. وممّا يميّز هذه السّينما شكلها الثوري الذي يحوّلها إلى مختبر بصري لتجريب القصص والحكايات، فتتمرّد على الأنماط والقوالب الجاهزة وتبحث عن أشكال مجدّدة وعن لغة سينمائية مبتكرة، فالدفاع عن فكرة الحرية يقتضي ممارستها على مستوى الشّكل أوّلاً.
2- نماذج من السّينما المستقلة
تتنوع التجارب المستقلة فتمثل مسارًا موازيًا للسينما المحترفة يمتد في الزمن كما تمتد، وينتشر في الأصقاع كما تنتشر. ولكننا سنكتفي بعرض ثلاثة نماذج منها هي السينما الأمريكية وسينما الدّوغما في الدنمارك
والسينما العربية المستقلة.
أ- السينما الأمريكية المستقلة:
رغم بهرج هوليوود الذي يعشي الأبصار ويحجب الأنظار عن غيره من أنماط التعبير، مثلت السينما الأمريكية المستقلة تاريخًا طويلاً من مقاومة النظام الاحتكاري المعروف بـ«نظام الاستوديو»، فشكلت موجات متلاحقة يقودها عمومًا سينمائيون أفذاذ لم يجدوا مكانًا يريحهم في هذه المنظومة أو ضاقوا ذرعًا بتصورها للعمل السينمائي. وتعرض الناقدة جيسيكا وينتر مسارها، فتصطلح على بوادرها الأولى بالبدايات التي تمتدّ من 1910 إلى 1954، وتتمثّل في شركات متواضعة تشتغل على نحو مستقل خارج مؤسسة هوليوود. وقد أمكن لروّادها -مع ذلك- أن يفرضوا أنفسهم، فـ«استفاد بعض أفضل النجوم والمهنيين في الوسط الفني من نجاحهم لتحقيق استقلالية حرفية، في حين بقي آخرون ينتظرون عند الباب، ليس رغبة منهم في ذلك ولكن بسبب ظروفهم. وفي قمة الثروة والمكانة اجتمع نجوم هوليوود شارلي تشابلن ودوغلاس فيربانكس وماري بيكفورد ودي دبليو غريفث ليؤسسوا معًا يونايتد أرتيستس بصفتها شركة مستقلة في عام 1919 لإنتاج أفلامهم وتوزيعها»2.. وتجعل المرحلة الثانية بعنوان «الخمسينيات والستينيات»، فتعرض نماذج من نضال روادها لإنجاز أفلامهم خارج النظام الاحتكاري، فتذكر منهم كازافيتس مخرج فيلم «ظلال» (1959) فقد نجح في تجسيد مقولة «افعل ذلك بنفسك» في الإنتاج السينمائي، وهي المقولة التي تدعو المخرجين إلى اقتراض بعض المال، والاستعانة بالأصدقاء لصنع أفلامهم الخاصة، فجمع معظم ميزانية الفيلم البالغة 400000 دولار من تمويله الذاتي، وشارك في برنامج إذاعي لحثّ المستمعين على إرسال دولارين مقابل الحصول على التذكرة مقدمًا، واعتمد فريقًا من الطلبة وحوّل شقّته إلى مكتب إنتاج وموقع تصوير فضلاً عن السّكن. وكانت سينما هذه المرحلة تتفاعل مع الموجة الجديدة في فرنسا تأثرًا وتأثيرًا.
في السبعينيات ظهرت أفلام «هوليوود الجديدة» التي تنقد منظومة الحكم في الولايات المتحدة عبر أفلام منخفضة التكلفة. وفي الآن نفسه ظهرت «مدرسة لوس أنجلس» التي تجعل من معاناة السود موضوعًا لها.. وتتدرّج الباحثة في عرض مسار هذه السينما المستقلة حتى القرن الواحد والعشرين، مبرزةً وقع مقولات بسينما الدوغما على مخرجيها ودور القنوات الفضائية والمهرجانات في نشرها.
ب- سينما الدوغما
سينما الدوغما (أو الدوجما) هي السّينما المستقلة التي ظهرت في الدنمارك سنة 1995 وأثارت جدلاً لتصورها المختلف للعملية السينمائية، فقد وضع أعلامها عشر قواعد أطلقوا عليها قواعد العفة، فتنصّ على أن يقع التصوير في الموقع الأصلي، وتمنع اصطناع الديكورات والإكسسوارات، أما إذا كانت الحاجة إليها أكيدة فيجب اختيار مواقع تكون هذه الديكورات موجودة فيها بالفعل، وتمنع الميكساج فتشترط ألا يتمّ الفصل مطلقًا بين الصوت والصورة أثناء التصوير، ولذلك فالصوت النهائي للفيلم هو ما يُسجَّل ميدانيًا، بما في ذلك الموسيقى التعبيرية، فلا بدّ أن تنبعث من مصدرٍ مّا أثناء التصوير، كما ترى أنّ الكاميرا يجب أن تكون محمولة، فإن مكان وقوع أحداث الفيلم هو الذي يحدد موقعها لا العكس. وكما الأمر بالنسبة إلى الصوت، تشترط أن تكون الصورةُ النهائية ما تلتقطه الكاميرا دون مؤثرات بصرية خادعة أو مرشحات ضوئية، وأن يلتزم الفيلم بالألوان التي يلتقطها في فضاء التصوير..
وخضعت القصّة بدورها لشروط صارمة، فلا يمكن أن تكون أحداثها مصطنعة كالقتل، أو استخدام الأسلحة مثلاً، ولا بدّ للوقائع أن تحاكي الحقيقة ما أمكن، فيُمنع الإيهام الزمني والفضائي، ويُمنع تطويع الأحداث لشروط الإنشاء في جنس سينمائي بعينه، وتُسجَّل هذه الأحداث على فيلم من مقاس 35 مم، ولا يكون لاسم المخرج فضل أو تأثير على الفيلم الذي يخرجه3.
جليّ إذن أنّ هذه المدرسة توجّه مختلَف قِيَمها الجمالية ضد الإيهام والإدهاش والمؤثرات التقنية التي توسع الهوة بين العالم السينمائي المبتكر وعالمنا الفعلي، فتماثل بين «الكذب الفني» والكذب في الواقع، وتتصدّى له عبر «أخلقة» عملية الإبداع السينمائي.
تخلص الباحثة إيمان عاطف بعد دراستها لقيم هذه المدرسة والبحث في تجاربها الإبداعية إلى أنّ «الدوجما ليست حركة سينمائية جديدة، مع أنها تقدم أسلوبًا خاصًا ومتميزًا، إلا أن جذورها متأصلة في مجموعة من الحركات السينمائية السابقة عليها مثل سينما الحقيقة، والسينما المباشرة، وسينما تحت الأرض، فهي نوع من التمرد والثورة على ما وصلت إليه صناعة السينما في هوليوود، فقد أعلنت استياءها وعدم رضاها، وسايرت الشعور بالإحباط الموجود في العالم كله. وشکّلت درسًا عظيمًا في تاريخ السّينما عن القوة الخاصة جدًا للفيلم كأداة للتعبير [كذا] عن المشاعر الحقيقية، ووسيلة إلى التواصل الإنساني، فالإمكانات البدائية (الأولية) للوسيط السينمائي أثبتت القدرة على التأثير في جمهور عريض على الرغم من رفضها نظم الإنتاج الضخمة، من نجوم، ومؤثرات، وخدع بصرية وصوتية، وقفزات زمانية ومكانية في المونتاج، ومشاهد الحركة والعنف، فعلى الرغم من خلو سينما الدوجما من ذلك كله، [فإن] أحدًا لا يستطيع أن ينكر قوة الشحنة العاطفية التي يتركها الفيلم لدى المشاهدين، إلى جانب تأكيدها وجود نوع مختلف من الجمهور قادر على التفاعل والتوحد مع سينما تستمد قوتها من صدقها، ومن المسحة الطبيعية في صورتها، ومن خشونة حقيقية تشبه خشونة الحياة العادية4».
ت- السينما العربية المستقلة
كثيرًا ما يبدأ السينمائيون في العالم العربي تجاربهم الأولى على نحو مستقلّ، ولا يكون ذلك اختيارًا غالبًا، فإن مؤسسات الدّعم شحيحة، والسّينما عندنا لم تتحوّل إلى صناعة وإلى مؤسسات ربحية، ولا بدّ للسينمائي من مساعدة جهات ما، وهذا غير مضمون دائمًا لأسباب مختلفة، فإذا ما تجاوز السينمائي عقبة الإنتاج واجه عقبة التوزيع وعرض الفيلم للجمهور. ولذلك ظهرت بين حين وآخر مهرجانات يقوم عليها متطوّعون مؤمنون بوظيفة هذه السينما البديلة لتعرض الأفلام المستقلة وتدعمها وإن لم تصمد طويلاً، منها مهرجان «أصلية» بالمغرب لسينما الهواية ومهرجان «بروجكتور» ببجاية الجزائريّة، ولكن مهرجان «قليبية» للسينمائيين الهواة، يمثّل حالة فريدة، فهو أقدم مهرجان سينمائيّ عربي وإفريقي على الإطلاق، فقد أُسّس سنة 1964، فبدأ وطنيًا ثم تحول إلى تظاهرة دولية عرضت الأفلام الأولى لعديد من السينمائيين المحليين والأجانب الذين باتوا اليوم من أعلام المشهد السينمائي المحترف، شأن المصري يوسف شاهين. ولا يزال المهرجان مستمرًا يقاوم أسباب اختفائه، فمثّل على امتداد مساره سندًا للسّينما المستقّلة والهاوية في كلّ أصقاع العالم وتحوّل إلى نموذج تسير على هديه مهرجانات عديدة وفرصة لاكتشاف مواهب الشّباب في الإبداع الفنّي.
وتشرف على تنظيم هذا المهرجان الجامعة التونسيّة للسينمائيين الهواة، تلك الجمعيّة السينمائيّة التي تُعنى بالفيلم غير المحترف، فتمثّل هيكلاً موازيًا للسّينما الرسميّة التي تحظى برعاية الدّولة وتعيش من هباتها. ولهذه الجمعية نظائر في البلدان العربية مثل جمعية بيروت السينمائية، وهي منظمة لبنانية غير ربحية مقرها بيروت، تعمل منذ عام 2007 على الترويج لـ«صناعة الأفلام المسؤولة»، وصندوق الأردن للأفلام الذي يعمل على «تطوير صناعة السّينما المحلية المستقلة»، و«سينماتك طنجة» بالمغرب وهي مؤسسة غير ربحية تقدّم للسينمائيين ورشات عمل ودروسًا، وتوفر لهم دارًا لعرض أفلامهم.
3- السينما المستقلة: هل هي مستقلة بالفعل؟
تُعتبر حركة السّينما الأمريكية المستقلة الأقدم من بين التّجارب التي عرضنا، ولكنّ الاستقلالية في هذه السينما ليست تمردًا على المنظومة الفكرية التي تحكم أمريكا دائمًا، وإنما هي في الغالب شكل من أشكال التنافس بين مؤسسات رأسمالية ربحية تحاول أن تطوق منافسيها عبر الاحتكار أو تحاول أن تتخلّص منهم، وكثيرًا ما تخترقها هذه المؤسسات فتستقطب نجومها أو مخرجيها وتغريهم ببريق الشهرة والمال أو تحرّف مفهوم الاستقلالية وتدجّنه وتجعله جزءًا من منظومتها، فقد [أصبحت الاستقلالية على نحو متزايد سمة مميزة لأقسام الاستوديوهات الرئيسة، ما أفسح المجال لظهور ألقاب تبعث على السخرية مثل "إنديوود" Indiewood و"ديبنديز" Dependies. كانت الاستقلالية Indie سمة مميزة وموقفة، وتتضمن معنى خاصًا، أو مهابة مع حلول موسم الأوسكار، وهكذا ظهر الاسم المتناقض وارتز اندبندنت بكتشرز، أو الجملة المتناقضة بحد ذاتها على موقع إحدى شركات تايم وارنر الأخرى: نيو لاين سينما أقدم شركة إنتاج أفلام مستقلة مدمجة تمامًا، وأكثرها نجاحًا في العالم، فإلى أي حد يمكن أن تكون مستقلاً ومدمجًا تمامًا في الوقت نفسه؟]5
لذلك وجب التّمييز بين السينما المستقلة في أمريكا والسينما السريّة التي نشأت في نيويورك وفي المدن الساحلية الكبرى بولاية كاليفورنيا الأمريكيّة وعملت على تقريب الفن السّينمائيّ من الوسائط التّقنيّة والمادية المتداولة كالإسطوانة وديوان الشّعر لمقاومة احتكاره من قِبل مؤسسات الإنتاج الكبرى ولنشره في النّوادي والجامعات.
أما مصدر الإرباك الثّاني فيتعلّق بمفهوم الاستقلال في حدّ ذاته، فلا ننكر وجود تجارب رائدة في السّينما أنتجت أفلامها خارج مسالك الإنتاج الرسمية حتى يحافظ المخرج على استقلاليته إزاء نظام الحكم في بلده. ولكن من أين سيتأتى بالأموال الضرورية لهذا الفن المكلف؟ غالبًا ما تعوّل هذه السينما الفقيرة على دعم الجمعيات الثقافية وعلى التمويل الأجنبي، وهذا ما يفتح باب السجال واسعًا حول مدى استقلال المخرج عن داعميه، فلكل جهة أرضيتها الثقافية والفكرية التي لا تدعم مَن يخرج عن خطّها.
وتظل العلاقة بين الاستقلال والمقاربات الفنية مصدر إزعاج بدورها، فإن هواجس «الالتحام بالواقع» والحماسة الإيديولوجية والإعلاء من الشأن السياسي على حساب الجمالي كثيرًا ما توقع السينمائيين المستقلين في الأخطاء الفنية والتقنية.