منذ بدايات السينما، ظهر الرجلُ الآلي كعنصرٍ رمزيٍّ يعكسُ تطلُّعات الإنسان المستقبليَّة ومخاوفه من التكنولوجيا، ليأخذ مكانه ضمن سلسلةٍ طويلةٍ من الأشكال الفنيَّة التي عبَّر فيها الإنسان عن حاجاته العاطفيَّة والوجوديَّة بصيغةٍ غير مباشرة. ثمَّة شخصيَّةٌ آليَّةٌ تجسَّدت في فيلم «متروبوليس» (Metropolis - 1927)، ممثِّلةً ثنائيَّة الأمل والتهديد، لتكون من أوائل محاولات استخدام هيئةٍ غير بشريَّةٍ لتمرير صراعاتٍ إنسانيَّةٍ عميقة. غير أن هذا النهج ليس بجديد، فلطالما لجأ الفنَّ إلى أبطال غريبي الأطوار لكنَّهم يحملون أبعادًا بشريَّة، سواء كانوا "مشاعر" كما في «قلبًا وقالبًا» (Inside Out - 2015)، أو "نقانق" في «حفلة نقانق» (Sausage Party - 2016)، أو حتى "أرواحًا" كما في «مغامرة ذاتيَّة» (Soul - 2020). ومع تطوُّر الصناعة السينمائيَّة، اتخذ الآليُّون أدوارًا أكثر تنوُّعًا وتعقيدًا، كما في «ذا ترمنايتور» (The Terminator - 1984) و«وول أي» (Wall-E - 2008)، حيث ظهروا كأعداء تارةً، وكمخلّصين تارةً أخرى، وكمرآةٍ أخلاقيَّةٍ تعكس صراعات الإنسان الداخليَّة طورًا. هذا التعدُّد في التمثيل لا يقتصرُ على إبراز مرونة الصورة الآلية فحسب، إنَّما يذهبُ أبعد من ذلك معبِّرًا عن تحوُّلاتٍ ثقافيَّةٍ وتقنيَّةٍ مستمرَّةٍ أثبت من خلالها الآليون مكانتهم كأداةٍ رمزيَّةٍ نافذةٍ في الخيال السينمائي.
مرآة الرغبات البشرية
في عالمٍ تتعدَّد فيه الرغبات وتتعقَّد، لجأ الإنسان إلى "الآلي" ليعكس أشدَّ دوافعه غموضًا، من الحبِّ إلى التسلُّط، ومن الحاجة إلى الرفقة وصولًا إلى الرغبة في الخلود.
في فيلم «إكس ماكينا» (Ex Machina - 2014) كانت الآليَّة "إيفا" تمثِّلُ رغبة المرأة في التحرُّر من السلطة الذكوريَّة، فهي ليست ضحيَّة بقدر ما هي كيانٌ يستخدمُ الجمال والخداع للهرب من قفص المختبر. أما في «شاباي» (Chappie - 2015) فنرى الآلي شاباي وقد بدأ في التعلُّم مثل طفل، فيُصبح بذلك رمزًا للكيان البريء الذي تفسِده بيئةٌ مليئةٌ بالعنف، في تصويرٍ مشابهٍ لابن الشارع الذي تبتلعه الحياة. في حين نجد آليًّا علاجيًّا في فيلم «روبوت وفرانك» (Robot & Frank - 2012) يتحوَّل إلى شريك جريمةٍ بدافع الرحمة، فيستعرض مدى هشاشة أخلاقيَّات الإنسان حين تتقاطع مع العاطفة، بينما تجلَّت رغبات استعادة الوصال بين أفراد العائلة عبر فيلم «فولاذ حقيقي» (Real Steel - 2011) حيث يصبح الآلي "آتوم"، والذي لا يملك وعيًا، وسيلةً لاستعادة العلاقة بين الأب وابنه، وكأنَّ الجماد قد استحال إلى منقذٍ للحياة الحميميَّة بين البشر. وقد جسد فيلم «هي» (Her - 2013) صورةً من الصور البارزة لعلاقة الحبِّ التي تنشأ بين الإنسان والآلة، حيث أشبعت نظام التشغيل "سامنثا" رغبة "ثيودور" في علاقةٍ دون تعقيدات الجسد، محاوِلةً الوصول إلى تساؤلٍ يستنكر الحديث الشفاف عنه: هل نحن نحبُّ من يشبهنا أم من يفهمنا؟
هنا يصبح الآلي بوقًا للرغبة المكبوتة، إذ يعبِّر عن حاجاتٍ لا يجرؤ الإنسان على قولها بصوته الحقيقي.
أداة تعبيرٍ حرَّة
بيد أنَّ هناك حالات من الرغبة المكبوتة التي تعجزُ عن التعبير بصدق، حيث يخشى الفنان من التورُّط في خطاب قد يغضب أحدًا، ليجد في الآلي ملاذًا رمزيًا يتيح له إبراز مشاعره دون القلقِ من العواقب. هذا الآلي لا يُمثِّل دينًا، ولا عرقًا ولا طائفة، بل هو كائنٌ رماديٌّ يصلحُ لكلِّ شيء، ففي «الأبطال الستَّة» (Big Hero 6 - 2014) يقدِّمُ "بايماكس"، الآلي العلاجي، الحنان والدعم دون لغةٍ أو ملامحَ تحدِّدُ هُويَّته، ما يجعلُ تواصله مع المُشاهد عالميًا. في حين نجده قد تمرَّد لدرجةٍ أعلى في «روبوكوب» (RoboCop - 2014): نصف إنسانٍ ونصف آلةٍ يطرحُ قضيَّة السلطة الأخلاقيَّة للشركات دون أن يُشير إلى نظامٍ أو جهةٍ في تمريرٍ ذكي. بينما نجدُ الآليين الفضائيِّين في فيلم «المتحولون: الجانب المظلم للقمر» (Transformers: Dark of the Moon - 2011) يتحوَّلون إلى سيارات، تُستخدم للحديث عن الصراع بين الخير والشر دون أيِّ تعقيدٍ بشريٍّ سياسيٍّ أو دبلوماسي، في الوقت الذي يعودُ بنا الأمر، في تجلٍّ افتراضي، إلى الرغبات ولكن في سياق حريَّة التعبير بشأن «را.وان» (Ra. One - 2011)، حيثُ نجدُ آليًّا داخل لعبة يتحوَّل لبطلٍ في العالم الحقيقي، وهو ما يتيح للفيلم مناقشة "التقنيَّة كبديلٍ للأبوة" دون تقييدٍ ثقافيٍّ مجتمعي.
هكذا يقفزُ الآليُّون فوق مفهومِ التمثيل الرمزي ليصبحوا "آليَّاتٍ" لتجاوز المحظور الفني، وساحةً حرَّةً يسكبُ فيها الفنان خِطابه دون قيد.
تخطِّي برمجة المُصنِّع
ليس كل آلي سجينًا لما صمم له. فكثيرٌ من الآليِّين يتحرَّرون من "مصنعيَّتهم" كاسرين محدوديَّة البرمجة المصمَّمة لهم، في رسالةٍ فلسفيَّةٍ مفادها: باستطاعتكَ تجاوز ما وُضعت لأجله. ويفسَّر هذا، عند اسقاط الصورة على المرآة البشريَّة، على أنَّه تجلِّ للإلحاد «كموقفٍ فلسفيٍّ ينكر وجود آلهةٍ خلقته، وذلك عبر محاولاتٍ لتخطِّي فطرته أو برمجيَّات خليقته».
في «الروبوت البري» (The Wild Robot - 2024) تتعلَّم "روز" من الحيوانات وتصبح أمًّا، فتتجاوز كلَّ فكرةٍ تقنيَّةٍ وتتحوَّل إلى كائنٍ اجتماعيٍّ عاطفي. وفي «بروميثيوس» (Prometheus - 2012) يتعدَّى ديفيد 8 خدمة طاقمه ويُجري تجارب خطيرةٍ بدافع اكتشاف أصل الحياة متمرِّدًا على كلِّ برمجةٍ أخلاقيَّة. نعودُ إلى «شاباي» الذي يبدأ كآليٍّ أمني، لكنَّه يتطوَّر ليطالب بحقِّه في الحياة، بل ويَخترع تقنيَّة لنقل الوعي، أي يصبح "خالقًا" بنفسه. وفي تصوُّرٍ آخر نجدُ شيتي، وهو آليٌّ عسكريٌّ يُبرمَج على الحب، ولكن حين تتعطَّلُ برمجته يتجاوز وظيفته ليصبح متمرِّدًا خطرًا لأنَّ الحبَّ تحوَّل لامتلاك، في حين جُبِلَ آلترون في «المنتقمون: عصر ألترون» (Avengers: Age of Ultron - 2015) على "برمجته الخيِّرة" وصُمِّم لحفظ السلام، لكنَّه يقرِّرُ أنَّ الخلاص يكون بإبادة البشر باعتبارهم سبب الدمار، ويتمرَّد على غاية وجوده.
هذه الحالات تمثِّل جوهر صراع البشري مع أحواله وقَدَره، المتمثلة في الجينات أو التنشئة. «لسنا ما صُممنا عليه»، تلك هي رسالة الآلي المتمرِّد.
وسيطٌ لفهمِ النفس
حين لا يجدُ الإنسان مرآةً لفهم ذاته، يخلق أخرى في شكلِ آلة. هنا يصبحُ الآليُّون أدوات تحليلٍ نفسيٍّ للعزلة والهويَّة أكثر من مجرَّد مرايا. يعيدنا ذلك إلى سامانثا من فيلم «هي» التي لا تملكُ جسدًا، لكنَّها تدفعُ ثيودور إلى مراجعة مشاعره وفهم عمقِ احتياجه للاتِّصال. وفي «روبوت وفرانك» تعيدُ العلاقة بين آليٍّ ومسنٍّ اكتشاف معنى الصداقة والذاكرة والانتماء، وتطرح سؤالًا عن الذي تبقَّى من الإنسان حين ينسى نفسه، بينما نجدً سوني في «أنا روبوت» (I, Robot - 2004) يمتلك حُلمًا يُسائِل فيه معنى الشعور، فيطرحُ سؤالًا وجوديًا: هل الحُلم حكرٌ على الإنسان؟ ثمَّ يأتي ميرفي في «روبوكوب»، بعد تحويله لآلة، وهو يُصارعُ ذاكرته القديمة ويدخل في صراعٍ حول هويَّة الإنسان حين تُزرَع في جسدٍ لا يشبهه، ويتسائل شاباي «من أنا؟»، ثمَّ «هل أموت؟»، ويُعبِّر عن نضج الإنسان من البراءة إلى التساؤل عن النهاية.
نستنتجُ هنا أنَّ الآليِّين يتحوَّلون إلى مختبرٍ فلسفيٍّ حيٍّ لأعمق أسئلة الوعي، وإلى وسيطٍ بلاغيٍّ لتمرير أكثر المقولات النفسيَّة إيلامًا.
مرآة البيئة
تتشابه علاقة الإنسان ببيئته مع علاقة الأب بابنه في بُعدٍ من الأبعاد الفلسفيَّة: تلك العلاقة غير المشروطة التي وجد فيها كلُّ واحدٍ منهما مُجبرًا على الآخر وعليه الاهتمام به. ولعلَّ العلاقة بين الإنسان والبيئة ظهرت بأجملِ صورها حين حملها الآليون: في «وول أي» (WALL-E - 2008) يعيدُ آليٌّ قمَّامٌ التوازن البيئي بجسده المتآكل، ويقعُ في الحبِّ كوسيلةٍ للنجاة، فيكون أضعف مخلوقٍ ينقذ الأرض! وفي «حافَّة الهادي» (Pacific Rim - 2013) يظهرُ الآليُّون على أنَّهم خطُّ الدفاع الوحيد ضدَّ وحوشٍ من بُعدٍ بيئيٍّ آخر تمثل كابوس الفساد البيئي العالمي، وتختلف الرؤية الفلسفيَّة في «فولاذ حقيقي» (Real Steel - 2011) حين يتحوَّل الآليُّون إلى مقاتلين، ويصبحون رمزًا للتحمُّل والعودة إلى الأصل، حين يقاتلون بقوَّةٍ صامتةٍ في عالمٍ استهلاكي. لكنَّ المنحنى الفلسفي التجريدي يتجلَّى في «شاباي» الذي يتعلَّم من محيطه ويصطدم بوحشيَّته، في تذكيرٍ بأنَّ الروح تولدُ من البيئة، وأنَّ ما نصنعه هو انعكاسٌ لما نربِّيه.
فشل تجليَّات السرديَّة على القمرة الشرقيَّة
تلك السرديَّة البديلة، التي استعملت فيها الآلة كوسيط، ليست حكرًا على الفيلم الغربي، غير أنَّ صنَّاع الأفلام في الشرق الأوسط لم يستخدموها بتلك الطريقة قط، بل وظفوا الآلة عبر دمجها مع الواقع وتعريفها كشخصيَّةٍ لها كيانٌ بشريٌّ يمتلك الحدود التعبيريَّة والفلسفيَّة ذاتها، لا بوصفها مجرَّد إضافةٍ ثانويَّة، ففي الفيلم المصري «موسى» (2021) لبيتر ميمي (وهو الفيلم العربيُّ الوحيد الذي اعتمد على الروبوت بصيغةٍ مباشرةٍ كبطلٍ حتى الآن) تدور الحكاية حول آليٍّ اخترعه يحيى للانتقام من قاتل والده، أي لم يكن حضور الآلة لأي استخداماتٍ من قبيل كونها مرآةً للرغبات البشريَّة وجشعها، أو أداة تتيحُ حريَّة التعبير القصوى، أو وسيطًا لفهم النفس، لكنَّه أتاح لبقيَّة الصناع تلك الفرصة المستحيلة: فيلمٌ عن رجلٍ آليٍّ عربي!
نرى في آخر الطريق أنَّ سرديَّة "الآليين" تبرهن أنَّ البشر لا يهربون من مشاعرهم ورغباتهم وحاجاتهم، حتى وإن كانت في أقصى مراحل الجشع، لكنَّهم يحاولون تركيبها بشكلٍ مختلفٍ لفهمها، أي كمَن يبني برجًا بمكعَّبات "الليغو" ثمَّ يهدمه ويعيد بناءه متأمِّلًا أخطاءه التي ارتكبها.