في ظل التسارع المهيب والكبير للتكنولوجيا وتطور الصناعة، وأثرها على السينما والتلفزيون، أصبح للمشاهد طريق سهل ممتنع للمشاهدة، بفضل منصات البث، وثقافة إصدار المسلسل كاملًا دفعة واحدة، وضخامة الإنتاج والإقبال، وارتفاع عدد مستخدمي الأجهزة الإلكترونية الذي كان له الدور الأكبر في رفع عدد المشاهدة لأرقام مهيبة؛ مما يعني إعلانات ومبيعات -إيرادات- عالية، وارتفاع عدد الأعمال الفنية بعكس السابق؛ حيث كان التحميل وسرعة الإنترنت البطيئة، وتكلفتها المادية، ومواقع القرصنة والعضويات وما إلى ذلك، يأخذ وقتًا طويلًا لمشاهدة عملين أو ثلاثة على حدٍ أقصى.
وهذا التسارع الإيجابيّ جعل توجه الكثير من المنتجين إلى الشاشةِ الصغيرة؛ ففكرة الترابط العاطفي، والإثارة المستمرة لدى المُشاهد مع الشخصيات لوقتٍ طويلٍ من الزمن، فكرة جاذبة جدًا. ومَن يقدر على صناعتها من صناع المسلسلات، فقد ألقى بشباكه على شريحة كبيرة حتى من ناحية ربحية. فلا شك أن لقِطاع السينما وصناعة الأفلام مردودًا ماديًّا ضخمًا، وإن كانت تكلفته كذلك، ومخاطره الاستثمارية عالية؛ إلا أن أرباحه تفوق ذلك بكثير، حتى وإن كان وصوله لشريحة كبيرة في السابق أمرًا أشبه بالمستحيل؛ أما الشريحة الأخرى من المجتمع من متوسطي العمر أو كباره ومحبي الفن الكلاسيكيّ فكانوا يفضلون المسارح، المنافس الوحيد آنذاك لدور السينما، كان من المحال على عائلة في القرية أن تتمتع بهذا النوع المثير من الترفيه، حتى توجه الإنتاج الضخم للتلفاز لاستهدافٍ أكبر وأوسع، فالوصول إلى العائلة مجتمعةً حول مادة واحدة، هي غاية المنتجين وكُتّاب التلفاز، يتناقشون فيها ويختلفون فيما بينهم في شخصياتهم المفضلة.
- أوجه الاختلاف الفني بينهما
الاختلاف بين الصناعة السينمائية والتلفازية ليس في الكيفية فقط، إنما هناك اختلافات فنيّة جوهرية. وفي رأيي، يقود هذا الاختلاف الكتابة التلفزيونية وصناعتها كاملة؛ فالفيلم لا يستطيع أن يحمل عالمًا متكاملًا برصانة وثباتٍ في الحبكة لمدة وجيزة، كالساعة أو الساعتين مثلًا. بينما في المقابل التلفزيوني -المسلسل- ما فعله "جورج مارتن" في "لعبة العروش" -على سبيل المثال لا الحصر- كان ثوريًا في رأيي، جعل اهتمام الكثيرين يتوجه لعوالم خيالية، مبنية على أسس رصينة، عائلات وأنساب، تاريخ وحضارة، وممالك وجزر، لغات مختلفة وأساطير، حتى أن المشاهد أصبح يطالب بتصوير تلك العوالم الأخرى المتخيّلة المرتبطة بمسلسله المفضل في مسلسل آخر منفصل!
وهذا يعكس مدى قوة الحبكة وتماسك الشخوص بالقصة الكاملة، وتعلّق المشاهدين بها، وأكمَل هذه المنظومة سحر الإنتاج والإخراج، والميزانيات المالية الفلكية لكل حلقة، أو لكامل المسلسل، ولا أنسى الموسيقى التصويرية، التي غزت العالم كله، تلك الموسيقى التي خلقت رابطًا عاطفيًا للمشاهد، وصل إلى جعلها نغمة لهاتفه، إعجابًا بجماليتها ووقعها، وأيضًا بارتباطه بها عاطفيًا، كما أن في عالم المسلسلات، يقود كل حلقة أحيانًا مخرج مختلف عن سابقه؛ ليعطي تصورًا من جانبٍ آخر، بعكس الفيلم الذي تقوده عين واحدة.
قد يعارضني الكثير من محبي السينما، و يتبادر في ذهن القارئ الآن كثير من روائع السينما، التي نجحت في صناعة عالم مُتخيل، بشخصياته وأزمنته، وعلى سبيل المثال لا الحصر، رائعة فرانك هربرت (كثيب) التي أخرجها فيلانوف حديثًا، -مع كامل الاحترام والتقدير لرائعة لينش عام ٨٤م-، ونرى أيضًا عوالم مختلفة صُنعت على أجزاء، كمحاكاة لنمطية المسلسلات، وجعل القصة تمتد أكثر، فكما ذكرت، أراه أشبه بالمستحيل خلق تلك العوالم واختزالها في وقت العرض السينمائي، كسيد الخواتم، وهاري بوتر، و الهوبيت، والكثبان، والكثير؛ لكن جميع هذه الأعمال السينمائية لم تكن عوالمها ذات عمق وتوغل كبيرين -تصويريًا وكتابيًا- وقطعًا ليس على صعيد الرواية المكتوبة؛ بل كانت حبكتها سينمائيًا في إطار محدد لقصة مختصرة، أي إن جميع الشخوص فيها كانت مرتبطة بشكل مباشر بالبطل -إن صح التعبير- بمسار الحكاية الأولى الرئيسية، بعكس فنيّة الكتابة التلفزيونية، التي تملك حيزًا أكبر لوضع كامل القصة وكامل الشخصيات فيها. كما أن للمسلسلات عناصر أخرى جاذبة، كالإثارة والتشويق المستمرين لعدد من الحلقات ولوقت طويل، أمر محبب ومفضل لدى كثيرين، مما يجعل مشاهدة مسلسل جديد أكثرَ حماسةً من مشاهدة فيلم.
- ما دور الفردانية والثقافة الاستهلاكية في شعبية المسلسلات؟
تساؤل لطالما كان حاضرًا لدي، فالفردانية وقوة الفرد وسلطته على الجماعة في وقتنا الحاضر، أمر مخيف يدعونا لطرح هذا السؤال على موضوعنا الحالي: ما دور الفردانية في انتشار وشعبية المسلسلات؟
كما أسلفت، لا شك أن لمنصات البث الرقمي دورًا مهمًا في هذا المحور، من خلال التنافسية العالية فيما بينها، ليس فقط في إنتاج المادة الفنية، بل في تصميم المنصة: المميزات والشكل الخارجي، استعمال الخوارزميات لمعرفة نوعك المفضل من المسلسلات ومواضيعك المحببة، كإضافة وتسهيل الوصول لعدة خيارات. كل هذه الأمور جعلت المُشاهد هو المادة الأساسية لهذه المنصات، وأصبح جل الاهتمام هو كيفية الحفاظ عليه لأطول مدة ممكنة، حتى تحولت عادات الفرد إلى فردانية مطلقة في أوقاته الخاصة، لا يرغب بمشاركة المشاهدة حتى خلال تناوله لوجبة! وأوقاته المستقطعة، أو من خلال وقت فراغه، فهو يرغب أن يكون وحيدًا ليستطيع المشاهدة دون مقاطعة من أحد، وبذلك لن يكون للفيلم ذات التأثير، فهو يعمل لمدة وجيزة، مقارنة بالمدة المرغوبة للمستهلك. ولا نغفل طبعًا، عن المحتوى ذي الاستراتيجية الواسعة؛ لتمرير "قدسية" فكرة الفرد على الجماعة، وتعزيزها بالأساليب الفنية المغرية والجاذبة، ليبقى السؤال الأخير: ما مصير صناعة الأفلام أمام شعبية المسلسلات؟