في فيلمه الأخير «الحوت» (The Whale - 2022) يناقش المخرج دارِين أرنوفسكي ثنائية الروح والجسد، ومن الطبيعي أن تكون البدانة هي الوجه الآخر للروح. يفعل هذا دون أن يدين الروح والجسد ولكن ليصل إلى معادلة تجمع بين الاثنين. "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، لكن أيضًا ولا بالروح وحده يحيا، وإنما بالاعتدال بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد. أرنوفسكي، كما سنرى، لا يعارض النص المقدس ولكنه يقدم تأويله الخاص بلغة فنية لا تخلو هي نفسها من إعادة تأويل، وقد سبق له أن فعل هذا في فيلمين سابقين هما: «نوح» (Noah) و «الأُم» (Mother).
ثنائية الروح والجسد
بسبب آية في الإنجيل (من رسالة بولس لأهل رومية) قرر (ألان جرانت) صديق تشارلي أن يعيش بالروح وللروح فامتنع عن الطعام، ويبدو أنه مات لهذا السبب. لا يحضر ألان سوى في الذاكرة وفي صورة وحيدة تجمعه بتشارلي، ويتسق هذا الحضور الغائب مع اختياره الروحاني. تشارلي (بريندان فريزر) في الظاهر يبدو الوجه الآخر؛ لذلك قرر التهام الكثير من الطعام ليس حبًا فيه ولكن انتقامًا من الجوع، ومن الدين، الذي قتل صديقه.
وفقًا لرسالة بولس فإن الاهتمام بالجسد يُعد عداوة لله، والاهتمام بالجسد مرادف للموت، أما الاهتمام بالروح ففيه حياة وسلام "وإن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون." بلقطة قريبة، تَظهر هذه الآيات محاطة بخط أسود ومعلمة بالأصفر على صفحة في نسخة الكتاب المقدس الخاصة بألان، ما يعني أنه كان "مهووسًا" بهذه الآيات، بتعبير المبشر الشاب توماس (تاي سيمبكنز)، إلى درجة لم تتمكن ليز (هونج تشاو) من إقناعه بأن يتناول الطعام. إنها الآيات التي "قتلته"، وفقًا لتعبير ليز. على هذا الأساس اختار تشارلي أن "يعادي" الله- بتعبير الكتاب المقدس- بأكله كميات هائلة من الطعام؛ ليكون الوجه الآخر من صديقه، ودون أن يعني هذا انعدام الجانب الروحاني فيه كليةً.
تشارلي في الظاهر نقيض للروحانية، لكن بحثه عن الصدق (في الحياة بشكل عام وفي الكتابة بشكل خاص) وقدرته على استشفاف عمق الشخصيات ورؤية ما وراء الظواهر وأعمق مما هو ظاهر على السطح، يؤكد أنه لم يهمل الروح تمامًا. رغبته في الموت وامتناعه عن الذهاب إلى المستشفى تؤكد ذلك. تشارلي مثل صديقه يريد أن يميت جسده لكن بكثرة الطعام لا بالامتناع عنه كما فعل ألان. في الأخير يقذف تشارلي بالعالم المادي من خلال قذفه للابتوب قائلًا لطلابه: "ليست مهمة هذه المهام/ الواجبات، ولا هذه الدورة. ما يهم حقًا هي هذه الكتابات الصادقة والمدهشة التي كتبتموها."
سيشعرك أداء وشكل برندان فريزر بالاختناق وبثقل الدهون حتى لو كنت نحيفًا. لكنك في الوقت نفسه ستعثر على روحه وراء كومة الشحوم. بسبب بدانته المفرطة يواجه تشارلي صعوبة في مواجهة الناس، لكنه لا يكرههم. على العكس هو يعتقد أنهم مذهلون وأنهم لا يمكنهم إلا أن يهتموا بالآخرين. لكنه، هو الباحث عن الصدق والمحرض عليه، يدرك أن بقاءه في العتمة لا يتسق مع مناداته بالصدق فيقرر فتح الكاميرا لطلابه ليروه للمرة الأولى والأخيرة.
بروحه الكامنة خلف الدهون تمكَّن من معرفة حقيقة ابنته إيلي (سادي سينك)، مع أنه قد فارقها مع أُمها منذ سنوات. أُمها التي تعيش معها لا تعرفها حقًا، بينما هو عرف جوهرها وموهبتها. تعتقد الأُم أن ابنتها شريرة لكن تشارلي يرى، عن حق، أن ابنته تعبر عن الخير بطريقتها التي تبدو في الظاهر سيئة أو شريرة لكنها في مضمونها تضمر الخير.
إيلي نموذج لما ينادي به تشارلي ويعلمه لطلابه: الصدق. وكلاهما يتمتعان ببصيرة دون الحاجة إلى توجيه ديني، ما يعني أن الدين ليس هو الوكيل الحصري للروح؛ فبإمكان الإنسان أن يكون روحانيًا حتى وهو يبدو أبعد ما يكون عن الدين الشكلي. الدين، كما يظهر في الفيلم، ومن خلال آيات رسالة بولس، يسلب الإنسان حياته هنا ليعده بحياة جديدة في عالم آخر. لكن الجنة هنا والآن. نجد هذا المعنى في المشهد الأخير وفيه نرى تشارلي- البدين الذي لا يقدر على حمل جسده- ترتفع قدماه تعبيرًا عن صعود روحه إلى السماء لتستقر عند مشهد سعيد في حياته من الماضي وهو على الشاطئ مع ابنته. وأين يمكن للإنسان أن يكون وهو يسلم روحه إلى المطلق إلا في المكان الأعز والأحب إلى قلبه. ذلك المشهد الذي ظل يمثل حنينًا في ذاكرة تشارلي هو جنته التي انتقل إليها بعد موته مباشرةً.
الشكل والمضمون، الهامش والجوهر
في مشهد الافتتاح يؤكد تشارلي على طلابه بأن يركزوا في الجمل الرئيسية عند كتابتهم لنصوصهم الإبداعية، ويمكننا أن نجد في هذا توجيهًا من المخرج للمشاهدين، بأن يركزوا على مضمون الفيلم لا على ما نعتقد أنه يتعارض مع قيمنا وثقافتنا ومعتقداتنا.
الفيلم إذن ليس عن البدانة- وما يلاقيه البدين من معاناة- إلا في أحد جوانبه، ولا هو ترويج للمثلية، وإنما هو عن ثنائية الروح والجسد والظاهر والباطن والصادق والمزيف والطبيعي والمصطنع والخير والشر والحياة هنا وفي العالم الآخر. ثم هو عن عواقب الاختيار وعن ضرورة التكفير ولو متأخرًا، بالتضحية بالنفس، كما فعل تشارلي الذي ظل يدخر المال من أجل ابنته على حساب صحته. وإذا كان أرنوفسكي قد اختار لبطله خلفية مثلية فليس في هذا الاختيار ما يمكن أن يُعد إقحامًا إلا إذا اعتقدنا أن المثليين لا وجود لهم في الواقع أو أنهم كائنات فضائية في فيلم واقعي!
وبما أن المثليين موجودون في الواقع، ويعانون من مشاكل عدم تقبل المجتمع والدين لهم، فإن الانزعاج من ظهورهم في الأعمال الفنية والأدبية يشبه انزعاج البيض من ظهور السود في الأعمال الفنية أو تواجدهم في الأماكن المخصصة للبيض في أُوج العنصرية! مع أن ظهور المثلية في الفيلم يأتي عبر تقنية سردية هي الإخبار (Telling) لا عبر الإظهار (Showing)، أي بالإشارة إلى علاقة مثلية في الماضي وعواقب اختيار تشارلي لترك زوجته وابنته من أجل صديقه، وهنا يمكن الوقوف على عبرة أو رسالة تؤكد على أولوية الأسرة ونبذ الأنانية. تنزوي كل هذه المعاني العميقة في عين الرقيب ويبرز الهامش للأسف!
ثمة وسائل خاصة للإنقاذ، ليست بهذا الشكل العام الذي يقدمه توماس. ما يحتاجه تشارلي وهو في لحظات الاحتضار ليس الكتاب المقدس، بل أن يقرأ مقالة لابنته؛ لتنقذ حياته، أو لتكون آخر شيء يقرأه أو يسمعه. كتبت إلِي المقالة وهي طفلة، وفيها تسرد انطباعها الصادق عن رواية "موبي ديك"، لهيرمان ميلفل، والأثر الذي تركته القصة في حياتها. كيف أن القرصان إيهاب يواجه المشاق في محاولة لقتل الحوت موبي ديك، وكيف أشفقت إلِي على الطرفين: الحوت؛ لأنه كبير في السن ولا يدرك رغبة الانتقام منه، وإيهاب الذي لن يتحسن بقتله للحوت. ذكرت إلي ما هو ممل في الرواية (الظاهر) لكنها تمكنت، بقلب وعقل الطفل، من النفاذ إلى عمق وجوهر الرواية (الباطن): كيف أن "المؤلف من خلال قصته الحزينة يحاول إنقاذنا ولو لبعض الوقت." وكيف أن هذا الكتاب جعلها تفكر في حياتها الخاصة وتشعر بالسرور.. هذا ما يرجوه الفيلم أيضًا: أن ينقذ حياتنا ولو لبرهة من الوقت.
فشل الكتاب المقدس في إنقاذ ألان، كما فشل توماس بأسلوب الوعظ في إنقاذ تشارلي، لكن إلِي نجحت في إنقاذ توماس، دون أن تُعرف نيتها الحقيقية من وراء فعلها، وفي هذا دلالة على أهمية الفعل ونتيجته مقابل القول. شعور ليز بالذنب من عجزها في إنقاذ ألان جعلها تعتقد أن ليس بمقدور الإنسان إنقاذ أي شخص آخر، مع أنها أنقذت تشارلي من الاختناق، وتوماس الذي فشلت مواعظه الدينية في إنقاذ تشارلي تمكن من مساعدته بطرق أبسط، منها قراءته لمقالة إلي في وقت كان تشارلي في أمس الحاجة إلى ذلك، كما ساعده في التقاط الموبايل ومفتاح باب غرفة ألان بعد أن عجز تشارلي عن ذلك بسبب بدانته. كل هذه وسائل بسيطة للمساعدة يمكن أن يساهم بها الإنسان دون الحاجة إلى خطب رنانة أو نوايا مسبقة. يقول أرنوفسكي كل هذا بلغة سينمائية رفيعة ودون خطاب أو مواعظ مباشرة.
الإشارة إلى رواية "موبي ديك"، أو "الحوت" في عنوانها الفرعي الذي اتخذه أرنوفسكي عنوانًا لفيلمه يستند إلى حقيقة أن هذه الرواية، التي أُهملت في وقتها وفي حياة مؤلفها، تعد اليوم في نظر الأمريكيين الملحمة الأميركية الكبرى والوحيدة، "وتحتلّ مكانةً مرموقة بين كلاسيكيات الأدب العالمي، حول الصراع والتحدّي بين حوت وإنسان." هذه الإحالة لا تخلو من دلالة: تتخذ الرواية من هذا الصراع الحضاري "وسيلة لتأمل الوضع البشري وعلاقته بالوجود، كما تحوّله إلى كيان رمزي معقد وحكاية عن كيفية العيش." الفيلم هنا استعارة أخرى لهذا المعنى المضمر.
الحوت ليس تشارلي (ولا هو برندان فريزر في أدائه المدهش الذي يستحق الأوسكار)، الحوت هو كل فرد منا. أولئك الطلاب على شاشة اللابتوب هم نحن، وما ينبغي علينا أن نتعلمه، أن يجعلنا هذا الفيلم نفكر في حياتنا الخاصة كما فعلت رواية موبي ديك مع إلي، وأن نعيش صادقين، ونكتب بصدق، ولو من خلال القسوة، وأن ندفع ثمن صدقنا واختياراتنا قبل أن يفوت الأوان ولو لمرة وحيدة أخيرة.