كوبريك وأفلاطون: حجر ورقة مقص (كوبريك الفوتوغرافر - الجزء الثاني)

الفيلسوف والمخرج ظهرًا لظهر

في العالم الأدنى، بوصفه مجرد كهف، كان رأي أفلاطون أن الوعي بمجمله ليس أكثر من حركاتٍ للظل المتمثل على جدار الكهف أمام المحبوسين بداخله. هو الوهم، إذن. وليس عالمُ المثل الأعلى إلا الأصل لكافة الصور الأدنى، أو الظلال بحسب الفيلسوف. بإمكاننا أخذ هذه الثنائية الحدية بين القطبين نحو جهة أخرى، تبتعد عنها بقدر ما تقترب، أي إلى مجال الفوتوغرافيا والفيلم، ما بين الثابت والمتحرك. والمعنى في الابتعاد والاقتراب، ما بين أفلاطون وستانلي كوبريك، ينحدّ في أن الألغوريا (الأمثولة) الأفلاطونية والصورة الكوبريكية تستخدمان ذات المادتين -مجازيًّا- أو المفهومين -جدليًّا- وهما الظل والنور[1]، وفي هذا ضرب من التقارُب. أما التباعد، فإنه ينفتح فيما يصبو كلا الرجلين للوصول إليه؛ فالفيلسوف يريد إثبات عالم المُثُل وتهديم الصورة (العالم الحسي)، والفوتوغرافر يريد تثبيت الصورة لبناء الجمالية البصرية. أقول لو أخذنا هذه الثنائية بين أيدينا، فسنُلفي في يد، أن الكهف يواجه الصورة، وأن المُثُل تواجه الأفلام، وفي اليد الأخرى، أن الأول يعطي ظهره للثاني بالرغم من أنه لا يني يتفلسف في أفلامه، وأن الثاني يدير ظهره كذلك للأول الذي ما انفكّ يستخدم الصورة -استعارةً ورمزًا وتمثيلًا- في فلسفته. 

ذكرنا سابقًا -في الجزء الأول من المقالة- السلسلة الفوتوغرافية لمترو نيويورك التي قام بها كوبريك[2]. وفي واحدة من صور السلسلة يتمثل موضوع الانتظار عبر وقوف امرأة، لوحدها، في انتظار وصول المترو. نرى في الصورة اصطفاف مجموعة من الأنوار الكهربائية في سقف ساحة الانتظار، وفي البعيد أيضًا ثمة مجموعة من الأنوار الكهربائية مثبتة على الجدار بشكل دائري. لدينا مستطيلات ودوائر تشع في مجال الصورة، حتى تكادُ تمثّل نوعًا من الإطار الداخلي لإطار الصورة. في المنتصف تمثُلُ المرأة في انتظارها، بثوب وكعب أسودين، ناظرةً إلى كتاب (أو مجلة؟) تحمله في يدها اليمنى لتزجية الوقت، يدها اليسرى قبضت عليها العدسة في حالة معلّقة، إما أنها تمسك بشيء ما (عدسة مثلًا) أو أنها في حركة عفوية. الظلال مبثوثة في الصورة، بشحوب. ثمة ظل يمتد من خلف المرأة على الأرضية، شاحبًا كذلك، إلا أن ما يمثّل الظل، في مستوى رمزي -إنما بلا شحوب- هو جسدُ المرأة ذاته، الماثل في منتصف الصورة. لعل ما ساعد في ذلك هو اللون الأسود لثوبها، غير أن الفضل المؤكد يعود إلى الإضاءة المنتشرة على مدى الصورة الداخلي. إن في انقلاب جسد المرأة من كونه مُحدِثًا للظل، مثلما يكون في أي حال طبيعية، إلى كونه ظلًّا بحد ذاته، يُسهم في تعزيز رأي أفلاطون بأن التمثيلات الأدنى تسبب الالتباس أكثر من الفهم، كما اختلاطُ الظلال في الكهف، إلا أن الفهم بهذه الكيفية غير ذي أهمية كبرى ضمن الفنون البصرية - في جانب أصيل منها على الأقل[3] - إنما المهم هو ما يُستثار في التأويل والتشويش المُحدَث إثر ذلك بين المفاهيم. ولحسن الحظ أن أفلاطون لم يعاصر كوبريك، وإلا لطرده من جمهوريته مع الشعراء.

أحبذ الإشارة هنا إلى أن هذه الصورة، أعلاه، قد التُقطت عام 1946 للميلاد، أي بعد عام من بداية الفتى كوبريك في التمرس على التصوير. بعد هذا التاريخ بعامين، أي في العام 1948 ميلادية، يقوم ستانلي بعمل سلسلة جديدة داخل جامعة كولومبيا. ومن ضمن السلسلة ثمة صورةٌ لعالِمٍ في وسط تجربة علمية[4]. يظهر في الصورة، كما في عديد من صور كوبريك، هوسٌ بالتقاط صور الأفراد بينما هم مستغرقون في عمل ما. ظهر ذلك سابقًا في صورة المرأة حيث تقرأ واقفةً وهي تنتظر المترو، وكذلك في صورة السيرك[5]، حيث ينادي مدير العرض ويؤدي البهلوانات استعراضًا، وغيرها من الصور. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى، فإن العنصر الأهم هو الضوء. نرى في الصورة المعنيّة عالِمًا يرتدي نظارةً سوداء تحميه من إشعاع القضيب المضيء الذي يحمله بين يديه. ولا أظننا سنشطح في التأويل -كما قد نُتهم بخصوص تأويل صورة المرأة، سابقًا- إذا قلنا إن التمثيل الرمزي للقضيب المضيء بين يدي العالِم ليس شيئًا آخر غير العِلم نفسه. إنه نار برومثيوس التي يحاول العالَم -الأميركي؟- استعادتها في ذلك التاريخ على وجه الخصوص. ذكرنا أن زمن التقاط الصورة هو العام 1948 للميلاد، أي ما بعد الحرب العالمية الثانية تحديدا. وهذا زمن كانت فيه سطوة العقل والعِلم قد اهتزت على نحو عميق. لقد استيقظ العالَم، للتو، من كابوس الحرب، وإثر ذلك برزت أسئلةٌ مزعجةٌ من قبيل «هل فعلًا نحن خَلَفُ عصر التنوير؟» و«هل العقل هو الحل؟» و«إلامَ أوصلنا العِلمُ الحديث؟». تمظهرت هذه الأسئلة في مجالات مختلفة، فعلى سبيل المثال، في الفلسفة ظهرت مدرسة فرانكفورت وكتاب "ديالكتيك التنوير"[6]، وفي الأدب كان المسرح يتمخض عن "في انتظار غودو"[7] بعد سنوات قليلة. صار العِلم، بوصفه الصورة الأمثل للعقل، في حالة حرجة من التشكيك في جدواه. إنها ظلال آثار الحرب تحاصر نور العِلم المتخافت. وفي نظارة العالِم السوداء ينعكس حذر العالَم في تعامله مع العِلم هذه المرة. ظلّان دائريّان، لعل نور البصيرة لا يضيع أمام وهج العلوم. 

المخرج والفيلسوف يدًا بيد   

لسنا، في نهاية المطاف، نعطي للفيلسوف ظهرًا ونهب وجهًا إلى الفنان، إنما نحن متلفتون بينهما. فمن حدية مفهوم النور والظل (الإدراك والوهم) وإلى تناغمهما - مثنى النور والظل في التجريد، وكذلك في الاستعارة إدراكًا ووهمًا - في الصورة، نصل إلى أن الحدود ليست قطعيةً: حيث أن في تداخل النور والظل جمالية الفوتوغرافيا وبراعة الفوتوغرافر، وأن من ميل الإدراك على الوهم يستقيم التأويل؛ ولو تعكّزَ على الحس البصري أو المحيط التاريخي، هكذا نعرف فضل الفيلسوف علينا. ربما يكون عالمنا مجرد صورة عن عالم المُثُل فعلًا، ويكون الحق مع الفيلسوف بأننا لسنا غير أشباح، وقد يكون الفوتوغرافر محقًّا، عن غير قصد، حيث يهب لنا أشباحًا ماديةً، أي صورًا، صورَ قومٍ لم يعودوا موجودين بعد، وأماكنَ بادت أو تغيرت. إن التلفت المحموم بين هنا وهناك يُنتج صورةً في العقل (تصوّرًا) يفيد بأن العلاقة بين العينيِّ والشبحيِّ أوطدُ من أن تكون مسافةً بين كهفٍ وخارجِه؛ فلولا اليابسة البراح (عالم المثل) لما وُجدت جبال (الاستذكار) ومن دون الجبال لما كانت كهوف (عالم الحِس)، وبلا كهف، كيف كان أفلاطون سيكتب محاوراته؟ بلى، العلاقة أوطدُ، إذن. وبما أننا أشباحُ الغد، فلمَ لا نستغل الوقت - ما دمنا أعيان اليوم - ونتخيل محاورة تقوم بين الظل والنور؟ 

- النور: أنت، يا عديمَ اللون، نقيضي!

- الظل: لستُ نقيضك أيها النور.. أنا شبحُك!

الهوامش:

[1] تراوحت ما بين المادة والمفهوم كماهية للظل والنور، وفي ذلك سؤال كبير ينفتح على تفلسف يطول شرحه، وليس مكانه هنا: هل الظل مادة أم مفهوم؟ النور ستتجاذبه الفيزياء كما الفلسفة. لكن الظل؟
[2] Stanley Kubrick. Life and Love on the New York City Subway. 1947. Museum of the City of New York.
[3] أعني هنا النظر، أو التعامل مع الأفلام، بوصفها مثيرات للحسية بفهومها الأوسع، لا النظر إليها كقصة ذات هدف محدد أو شرحًا لمعنى ما. ويحضرني في هذا المخرج ديفية لينش عندما سئل، في لقاء تلفيزيوني، عن ثيمة فيلمه الأحدث -حيذاك- "مولهولوند درايف". فرد ساخرًا :"أنا لا أهتم بالثيمات، أنا أهتم بالأحاسيس".
[4] Stanley Kubrick. Columbia University. 1948. Museum of the City of New York.
[5] Stanley Kubrick. Circus. 1948. Museum of the City of New York.
[6] ديالكتيك التنوير-ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو. صدر عام 1944. ونقل إلى العربية تحت عنوان "جدل التنوير".
[7]  صدرت في العام 1953.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى