كلاسيكيات السينما تعود إلى الحياة في مهرجان البندقيَّة

September 3, 2025

«من فات قديمه تاه» هو مثلٌ عربيٌّ أصيل يلخص حقيقة أن كل جديدٍ يقومُ على كاهل إرث قديم، وهو ما ينقله الإنسان إلى كافة اهتماماته وشؤون حياته. ومن هذا المنطلق، أوجد فكرة الاقتناء والحفاظ على المقتنيات لتمريرها عبر الأجيال. وهكذا ارتبط كل ما هو قيّم وقديم بكلمة "كلاسيكي" المشتقَّة من الأصل اللاتيني (classicus)، الذي أطلق في روما القديمة على المواطن المنتمي للطبقة الأولى، حاملًا دلالات الرقي والتميز. ومع انتقال الكلمة إلى اللغات الأوروبية، توسَّع معناها ليشير إلى كلِّ ما هو نموذجيّ وراسخ ويُحتذى به.

وارتبطت الكلاسيكية في الفنون بالآثار اليونانية والرومانية، بوصفها معيارًا للجمال والتناغم والصرامة الشكلية. ومع دخول السينما هذا الإطار، أصبح الفيلم الكلاسيكي هو العمل الجدير بأن يكون مرجعًا جماليًّا وسرديًّا للأجيال، بفضل قيمته الفنية وأثره الثقافي المتجدد.

نبذة تاريخية

بدأ الاهتمام بالحفاظ على الإرث السينمائي وترميمه منذ النصف الأول من القرن العشرين، إذ تأسست في الثلاثينيات أولى المؤسسات المتخصصة في حفظ الأفلام، مثل أرشيفات السويد وألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وكانت غايتها «حفظ السينما لذاتها».

شهدت السينما تَحوّلاتٍ كبيرة في ميدان ترميم الأفلام. ففي عام ١٩٨٠ اعتمدت منظمة اليونسكو رسميًا توصيةً تعترف بأن «الصور المتحركة- الأفلام» جزءٌ من التراث الثقافي العالمي وتدعو إلى حمايتها. وفي عام ١٩٩٠، تأسست «مؤسسة الفيلم» (The Film Foundation) بقيادة مارتن سكورسيزي وعدد من كبار المخرجين (وودي آلن، فورد كوبولا، ستيفن سبيلبرغ، وغيرهم)، لمعالجة حاجة المجتمع العاجلة إلى صون الأفلام، لإيمانهم أن تَرميم التراث السينمائي يُثري الذاكرة الجماعية ويكفل نقلَ معرفةِ وإرث الماضي إلى الجيل القادم.

في الألفية الجديدة، أصبحت التقنيات الرقمية أكثر انتشارًا في عمليات الترميم (كالمسح الضوئي عالي الدقة وتصحيح الألوان باستخدام الكمبيوتر). بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مهرجاناتٌ وقاعاتُ عرضٍ مخصصةٌ للأفلام المُعاد ترميمها: فمثلاً أطلقَ مهرجانُ البندقية في عام ٢٠١٢ قسم كلاسيكيات البندقية لعرض النسخ المرشّحة من الأفلام الكلاسيكية المرممة. تحت إدارة المدير الفني ألبرتو باربيرا. جاء هذا القسم كمبادرةٍ جديدةٍ موازيةٍ للأقسام التقليدية لعرض نسخ مُرمّمة من الأفلام الكلاسيكية المهمة.

قسم كلاسيكيات البندقية

يلعب قسم «كلاسيكيات البندقية» دورًا رئيسيًا في حفظ التراث السينمائي العالمي. كما أوضح القائمون عليه، فإن القسم يهدف إلى إعادة «جزءٍ من ثراء السينما الكبير» وإتاحة علامات بارزة من التاريخ السينمائي للجمهور، ويحرص القسم على عرض نسخٍ حديثةٍ مُرمّمة لأعمال سينمائية تاريخية بارزة من مختلف المدارس والأنماط.

يختلف هذا القسم عن بقية أقسام المهرجان بتركيزه الحصري على الأفلام الأرشيفية المرمّمة وأحيانًا الأفلام الوثائقية عن السينما. تهدف اللائحة الرسمية إلى عرض أفضل الأعمال الكلاسيكية المرمّمة التي تعود إلى تاريخ السينما، «في أفضل ظروف للصورة والصوت». من السمات المميزة للقسم أيضًا وجود لجنة تحكيم مستقلة من طلاب السينما (من جامعات إيطالية) تمنح جوائزَ خاصة لأفضل فيلم مُرمّم، وأفضل وثائقي عن السينما.

دورة جديدة

تشهد الدورة الثانية والثمانون من مهرجان البندقية السينمائي عرضَ مجموعة من الأعمال الكلاسيكية المختارة بعناية، موزعةٍ على أقسام "الأفلام الروائية" و"غير الروائية" و"خارج المسابقة". وتتنوع البلدان المشاركة بين الولايات المتحدة، إسبانيا، البرتغال، الهند، إيطاليا، فرنسا، تايوان، إيران، اليابان، ألمانيا والمكسيك، بتنوع أساليبها من الواقعية إلى الرعب القوطي والكوميديا.

أفلام من إسبانيا

يُعرض ضمن فعاليات هذا القسم فيلمان من إسبانيا، الأول روائي، والثاني وثائقي. يطرح فيلم «مصارع الثيران» (١٩٨٦ - Matador) للمخرج الإسباني الكبير بيدرو ألمودوفار، سيرة مصارع الثيران المتقاعد (دييغو مونتيس)، الذي يدفعه حنينه إلى ساحة المصارعة نحو حافة الجنون، فيشرع في الفتك بعشيقاته فور مروره بلحظة الذروة؛ إذ لم يكن ثمة لذة تُسكّن قلقه سوى ارتكابه للجريمة وهو في نشوة الحب.

يُشيد المخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو بهذا الفيلم باعتباره مصدر إلهام له، خصوصًا تأثيره البصري القوي الذي يختزل العنف والجنس في صورة متوهجة تعبر عن تمرد سينمائي. فقد ذكر أن المشهد الافتتاحي المُثير ترك فيه أثرًا دفعه إلى تحدي النغمة السينمائية المحافظة في هوليوود.

يُعيد فيلم «ذكرى المنسيون» ( ٢٠٢٥ - Memoria de los olvidados) للمخرج خافيير إسبادا، (إنتاج إسباني - مكسيكي مشترك) قراءةَ إرث الفيلم الكلاسيكي الشهير «المنسيون» (١٩٥٠- Los Olvidados) للمخرج لويس بونويل، كمشروع ذاكرة يُقارن بين زمن صناعة الفيلم وحال المواقعِ المُصوَّر فيها اليوم. يتتبع الوثائقي مواقع التصوير في مدينة مكسيكو سيتي، محلِّلًا استمرار أو تغيّر ظروف الفقر والهامش الاجتماعي الذي صوره بونويل، كما يستحضر تأثيراتٍ فنية غير متوقعة أبرزها علاقة بونويل بلوحات "غويا"، مقترحًا قراءة جديدة تربط بين الصورة الفنية والواقع الاجتماعي.

يُعدُّ الوثائقي مدخلًا نقديًا يُعيد إنتاج «ذاكرة الفيلم» عبر شهادات وتحليلات من باحثين وصنّاع سينمائيين بارزين. ويضم سردًا صوتيًا للمخرج أرتورو ريبستين، ومداخلاتٍ لأسماء بارزة من المؤرخين والمنتجين والمخرجين المعاصرين الذين يناقشون أثرَ فيلم بونويل على السينما والمجتمع، وقيمة ذلك الفيلم الكلاسيكي في السياق المعاصر.

أفلام من الولايات المتحدة

تشارك الولايات المتحدة بعدد كبير من الكلاسيكيات يبلغ ١١ فيلمًا، منها أربعة أعمالٍ ضمن فئة الأفلام الروائية، وفيلم واحد خارج المنافسة، إلى جانب ستة أفلام ضمن تصنيف "غير الروائي"، وتتنوع أنماط الروائي فنجد من بينها:

فيلم الغرب الأمريكي «٣:١٠ إلى يوما» ( ١٩٥٧- 3:10to Yuma)، للمخرج ديلمر ديفيز، الذي وصفه الناقد والمخرج الأميركي كِنت جونز بأنه «تجسيد بليغ للحرية»، مثلما كتب عنه المخرج برتران تافرنيي، فهو عمل استثنائي، ودراسة آسرة في الغموض، وهو من أكثر أفلام الغرب الأميركي إبهارًا على الصعيد البصري. وعلى أكثر من مستوى، يظل هذا الفيلم متفردًا داخل نوعه السينمائي، بل وفي تاريخ السينما الأميركية بأسره.

إلى جانب  فيلم «لوليتا» ( ١٩٦٢ - Lolita)، المثير للجدل، للمخرج الكبير ستانلي كوبريك، الذي تُطرح النسخة المرمَّمة منه في المسابقة الخاصة بالكلاسيكيات. وقد أثار الفيلم زوبعةً إعلاميةً وقت صدوره، وتصدَّر عناوين الصحف عند طرحه، بسبب الرواية المُقتبَس عنها للكاتب الروسي–الأميركي فلاديمير نابوكوف، المثيرة للجدل، التي تصور علاقة مشبوهة بين أستاذ جامعي وفتاة قاصر. وقد تسبب الفيلم آنذاك في وقوع صدام بين كوبريك والتيار المحافظ في أمريكا، إذ اعتبرت الحكاية تجاوزًا غير مقبول. ورغم محاولة كوبريك تخفيف الطابع الإيروتيكي الصريح الذي ميّز النص الأصلي، ظل الفيلم مادة مستفزة ومثيرة للجدل.

ثم هناك «فيلم منزل الغرباء» (١٩٤٩  - House of strangers) للمخرج جوزيف ل. مانكيفيتس، الذي ينتمي إلى روائع أفلام نوار، ونستحضر هنا الكلمات التي كتبها عنه المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار في جريدة جازيت السينمائية في عدد مايو ١٩٥٠: «يعد مانكيفيتس مخرجا استثنائيا في توجيه وإدارة الممثلين. إذ تتدفق أبسط حركاتهم - كاستنشاقِ رائحة بودرة تجميل أو مداعبة قطعة من الفرو - من حسٍّ مسرحيٍّ عميق مليئ بالوقع والتأثير. يحتوي الفيلم واحدًا من أجمل مشاهد استرجاع الماضي في تاريخ السينما: مشهد يظهر فيه صعود درج كامل على أنغام لحن روسيني».

أفلام من فرنسا

يبرز اسم المخرج مارسيل كارني وفيلمه «مرفأ الضباب» (  ١٩٣٨ - Port of shadows)، وهو أحد أشهر أعمال حركة الواقعية الشعرية التي يعد كارنيه من أبرز مخرجيها، وهو من أوائل الأفلام التي حازت على لقب "فيلم نوار" من قبل النقاد، لأنه يتسم بالطابع الكئيب المشئوم الذي يميز هذا النوع، وكذلك شخصية البطل المضاد التي يلعبها الممثل الفرنسي الكبير جان غابان.

أفلام من اليابان

وللمهتمين بهذا القسم حظٌّ في مشاهدة رائعة المخرج ماساكي كوباياشي، «كايدن - قصص الاشباح» (Kwaidan Ghost stories- ١٩٦٤) وهو فيلم أنطولوجيا  يضم أربع حكايات خارقة للطبيعة (الشَعر الأسود، المرأة الثلجية، قصة هوئيشي بلا أذن، داخل فنجان الشاي)، المأخوذة عن قصص الأشباح اليابانية الفلكلورية التي جمعها لافكاديو هيرن (ياكومو كويزومي) في كتابه (كايدان: قصص ودراسات عن أشياء غريبة).

يبتكر المخرج كوباياشي أجواءً مقلقة تشبه عالم الأحلام، ينسج فيها الحب والخيانة والانتقام والعالم الغيبي. ورغم أن كل حكاية تشكّل سردًا مستقلًا، إلا أنها تتوحد جميعها في نبرة حالمة وظلال أخلاقية واضحة. عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان كان السينمائي الدولي عام ١٩٦٥، وفاز عنه بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، كما رُشّح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.

أفلام من بولندا

تشارك النسخة المرممة لفيلم «صدفة عمياء» (١٩٨٧ - Blind chance) للمخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي في المسابقة الرسمية في قسم الكلاسيكيات، ومعروف أن هذا الفيلم قد مُنع من طرف الرقابة لسنوات بسبب طرحه السياسي المباشر، قبل أن يُسمح بعرضه عام ١٩٨٧.

وكتب عنه الناقد دوغ كمنغز في مجلة "حواس السينما": «مهما كانت الحقائق عابرة في فيلم الصدفة العمياء، إلا أننا نراها متجسدة بوضوح تام. يتمتع الفيلم بثراءٍ جماليٍّ مقارنةً بأعمال المخرج السابقة، إذ يزخر بلقطات تتابع بارعة، وصور صادمة للعنف، وتكوينات مدروسة، وحركات كاميرا تمحو الحدود بين المنظورين الذاتي والموضوعي، مع تركيز خاص على اللحظات الحميمة». أصبح الفيلم فيما بعد مصدر إلهام لأفلام أخرى مهمة، مثل «اجري لولا اجري» (١٩٩٨ - Run Lola Run)، و«الأبواب المنزلقة» ( ١٩٩٨- Sliding doors) .

أفلام من تايوان

يبرز أيضا من بين المشاركين ثلاثة مخرجين مهمين من قارة آسيا، وهما المخرج التايواني تساي مينغ ليانغ، الذي يُعرض له فيلم «يحيا الحب» ( ١٩٩٤ -Vive L'Amour). يعدُّ الفيلم علامةً مميزة بين أفلام الموجة الحديثة في السينما التايوانية، ويروي قصة ثلاثة غرباء يتشاركون شقة فارغة في مدينة تايبيه، دون أن يعلم أي منهم بوجود الأخر. تمر الشخصيات بعدد من اللقاءات المأساوية-الكوميدية، لكن رغم تعايشهم في المكان نفسه، لا ينجحون في بناء روابط شخصية حقيقية. يمزج الفيلم بين الحنين الذي يُذكِّر بأسلوب أنطونّيوني، والكوميديا الجافة الهادئة.

منذ اللقطات الأولى، يقدم الفيلم نفسه كعملٍ بصريٍّ قائمٍ على الفراغات، كسجن شكلي لا يتيح منفذاً؛ فلقطاته المحكمة لا تترك للشخصيات أي مجال للهرب. وإذا بدى إخراج تساي باردًا، فإن وراء كل صورة -كما يقول الناقد الفرنسي جان-ميشيل فوردون في جريدة لوموند - هناك رغبةٌ متَّقدةٌ تتوهج في ومضات قصيرة لا تدوم طويلًا، يصعب تسجيلها زمنيًا. لكنها موجودةٌ رغم ذلك، والفيلمُ في جوهره فيلمٌ عن المشاعر.

أفلام من الهند

ومن شبه الجزيرة الهندية يعرض «فدانان من الأرض» ( ١٩٥٣ -Do Bigha Zamin) للمخرج الهندي بيمال روي، الذي يروي فيه معاناة فلاح يسعى لإنقاذ أرضه من براثن مالك أرض جشع. يُمهله ثلاثة أشهر لسداد ديونه، فيضطر للانتقال إلى المدينة حيث يعمل كسائق ركشة، بينما يعمل ابنه ماسح أحذية. خلال رحلتهما، ينجحان في إيجاد مأوى وصداقات في أحياء الفقراء، لكن قسوة المدينة لا ترحمهم. وبينما يكافحان الصعاب، يغرقان أكثر في الإحباط واليأس، ويسابقان الزمن لجمع المال، غير أنهما يفشلان.

كان التصدّع الاجتماعي والاقتصادي الذي اجتاح الهند بعد الاستقلال مباشرة يمثل هاجسًا أساسيًا لصنّاع أفلام مثل بيمال روي، الذي ناقشت أعماله كفاح الأمة الهندية لبناء مجتمع أكثر عدلاً. يُظهر فيلم روي الصراع بين الأغنياء والفقراء كمعركةٍ تدور رحاها في مسار تحديث الهند، حيث تركَ اتساعُ الفجوة الطبقية الفقراءَ مسحوقين خلفَ الركب.

أفلام من إيران

لا يغيب اسم إيران عن التألق في أهم المحافل السينمائية العالمية، وذلك من خلال المشاركة في القسم الروائي للأفلام الكلاسيكية بفيلم يحمل عنوان «باشو، الغريب الصغير» ( ١٩٨٩ -Bashu, the Little Stranger) للمخرج والباحث الإيراني بهرام بيضائي. تتبع الأحداثُ الطفلَ باشو الذي يفرّ من جنوب إيران وحيدًا، بعد مقتل عائلته في قصفٍ جويٍّ، ليصل إلى قرية نائية في الشمال. هناك، يعجز عن التحدث بلغة السكان المحليين ويُنبذ باعتباره "غريبًا صغيرًا"، لكن تأويه امرأة لديها طفلان وزوج غائب. ومع الوقت، تبدأ رابطة هشة بالنمو بينهما.

يصف الناقد كيفن توماس، من جريدة لوس أنجلوس تايمز، هذا العمل قائلا: «باشو، الغريب الصغير، عملٌ مفعم ببهجة خالصة، يخلو تمامًا من الأخطاء، يمزج بين الضحك والدموع في آن واحد. كل حركةٍ للكاميرا، كل موقعٍ تختاره، كل تكوينٍ بصري، بل حتى كل قَطْع في الفيلم في موضعه الصحيح لخدمة القصة دون لفت الانتباه لنفسه. ومع ذلك، وبفضل براعة الكاتب-المخرج المخضرم بهرام بيضائي، مدعومًا بالتصوير الاستثنائي  لمدير التصوير فیروز ملكزاده، يظل الفيلم أولًا وقبل كل شيء روايةً قصصيةً، تفيضُ بالرموز والدلالات الدقيقة المتعلقة بمناهضة الحرب والعنصرية».

الأفلام الإيطالية

لا يمكن إغفال الحضور الإيطالي في المسابقة، وتنوع الأفلام الإيطالية المعروضة ما بين الواقعية والكوميديا، من خلال أربعة عناوين تحمل ملامح متباينة من تاريخ السينما الإيطالية. فمن الواقعية الجديدة يأتي فيلم «روما الساعة 11» (Rome 11:00 - ١٩٥٢) لجوزيبي دي سانتيس، ومن الغموض القوطي فيلم «الطيف» (١٩٦٣ - The Ghost) لريكاردو فريدا، مرورًا بالكوميديا الاجتماعية في «الزوج العظيم المخدوع» (١٩٦٤ -The MAGNIFICENT CUCKOLD) لأنطونيو بيترانجيلي، وختامًا بفيلم «تزوجتك من أجل المرح»   (١٩٦٧ -  I MARRIED YOU FOR FUN)  للمخرج لوتشيانو سالتشي المقتبس عن عمل للكاتبة ناتاليا غينزبورغ، وبطولة مونيكا فيتي، والذي يُعرض لأول مرة كاملًا بعد حذف رقابي دام لفترة طويلة.

الأفلام الوثائقية

تحرص إدارة المهرجان على أن تتناول الأفلام المشاركة في القسم غير الروائي - الوثائقي تحديدًا، سِيَرَ أهم المخرجين في السينما العالمية، ولهذا توجد أسماء لامعة في هذه الفئة لهذا العام، مثل أوزو، كوبولا، لوي مال، وإلفيرا نوتاري، وغييرمو ديل تورو.

يشارك المخرج الأمريكي المتخصص في السينما الوثائقية دانييل رايم في هذه الفئة، من خلال فيلمه «مذكرات أوزو»
( ٢٠٢٥ -The Ozu Diaries)، الذي يستند إلى اليوميات الخاصة للمخرج الكبير ياسوجيرو أوزو، ورسائله، وصوره الفوتوغرافية، ورسوماته، إضافة إلى أفلام منزلية لم يُكشف عنها من قبل، ليُقدِّم صورة للرجل الكامن خلف الأسطورة. ومن خلال كلمات أوزو نفسه، مقرونة بتأملات كيوكو كاغاوا، وفيم فندرز، وكيوشي كوروساوا، وتساي مينغ-ليانغ، ولوك داردين، يرسم الفيلم خطًّا مضيئا يوضح كيف حوّل أوزو خساراته الشخصية وصدمات الحرب إلى روائعه الخالدة.

أما المخرج الأمريكي مايك فيغيز فقد قام في «ميغادوك» (٢٠٢٥ - MegaDoc) بتوثيق مغامراته أثناء تصوير كواليس عمل المخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا على مشروع فيلمه «ميغالوبوليس» Megalopolis ، في هذا الوثائقي الصرف، يقترب من تجربة المراقبة الخفية، ليلاحق رحلة فرانسيس فورد كوبولا الطويلة في إنجاز مشروع أحلامه المموّل بماله الخاص. في هذا البورتريه، يقدّم المخرج ملحمةً جريئةً وعنيدة، كاشفًا ملامح العملية الإبداعية لكوبولا عبر نسيجٍ يجمع بين المواد الأرشيفية، والشهادات المباشرة لطاقم العمل، ومراقبة دقيقة لكيفية استدعائه للتاريخ الروماني، والرمزية السياسية، ورؤيته الفريدة لبناء عالمه السينمائي. 

إلى جانب ذلك، يعرض الفيلم الوثائقي «الثائر، لويس مال» (٢٠٢٥ - LOUIS MALLE, LE RÉVOLTÉ) للمخرجة كلير دوغويت، الذي يتناول حياة لويس مال، أحد رواد الموجة الجديدة الفرنسية، الذي كان متمردًا وغير تقليديٍّ، عصيًّا على التصنيف ضمن نوع أو أسلوب محدد. كانت الحرية والاستقلال دائمًا بوصلته الفنية، مدفوعًا بفضول لا يُروى وانشغال دائم بمرحلة الطفولة وجراحها. وإذا كانت أفلامه قد أثارت الكثير من الجدل، فذلك لأنه تمكن من خلال أعماله من التقاط روح عصره، أي المجتمع الفرنسي بتحولاته وعاداته وأشباح ماضيه. 

إقامته لعشر سنوات في الولايات المتحدة جعلت منه مخرجًا عالميًا قادرًا على إعادة ابتكار نفسه في منتصف السبعينيات. وعند عودته إلى فرنسا، أخرج فيلم «وداعا يا اطفال» (١٩٨٧ - Au revoir les enfants)، وهو عمل يطارد فيه تاريخه الشخصي، وقد كان بمثابة تتويج لمسيرته، وكما يروي مال نفسه، فإن حياته انعكاسٌ لأعماله، بكل ما فيها من رومانسية وإثارة.

وانتقالًا من فرنسا إلى إيطاليا، يتتبع الفيلم الوثائقي «إلفيرا نوتاري، وراء تخوم الصمت» (٢٠٢٥ -  ELVIRA NOTARI. OLTRE IL SILENZIO) للمخرج الإيطالي فاليريو تشيرياشي قصةَ إلفيرا نوتاري، أول مخرجة سينمائية في إيطاليا، والرحلة الطويلة التي أعادت اسمها إلى الواجهة بعد زمن من التهميش والنسيان. كانت نوتاري شخصية بارزة في العصر الذهبي لسينما نابولي الصامتة، إذ أخرجت نحو ستين فيلمًا روائيًا طويلاً مزجت فيها بين شغف الدراما الشعبية والتصوير الصادق لحياة المدينة، فأسرت قلوب الجماهير من نابولي وصولًا إلى أحياء "ليتل إيتالي" في أمريكا.

لكن مع ظهور السينما الناطقة وتحت وطأة الرقابة الفاشية، انسحبت من عالم السينما عام ١٩٣٠. وسرعان ما خبى نجمها، وضاع جزء كبير من أعمالها. واليوم، وبعد مرور ١٥٠ عامًا على ميلادها، تعود إلفيرا نوتاري إلى دائرة الضوء بفضل جهود الباحثين والفنانين الذين يعملون على استعادة إرثها وإعادة تخيله في أشكال جديدة.

أما المخرج المكسيكي المبدع غييرمو ديل تورو، الذي ينافس بفيلمه فرانكشتاين في المسابقة الرسمية للمهرجان، فكان لِاسمه حضورٌ في قسم الكلاسيكيات أيضًا، من خلال عملٍ وثائقيٍّ عنه بعنوان: «دماء ديل تورو» (٢٠٢٥ - Sangre del Toro) للمخرج إيف مونتمايور. يقودنا فيه ديل تورو بنفسه، كحارسٍ لمتاهتِه الفنية، في رحلةٍ معرفية تمهيدية لفك بعض ألغاز أفلامه.

وبمناسبة مشاركته في المهرجان، يقول مخرج الفيلم مونتمايور: «اكتسب المكسيكيون سمعة لارتباطهم الحميمي بالموت. غير أن هذه الألفة مع الموت، وطرق التعبير المختلفة عنه، تنبع من مزيج ثقافي وروحي يجمع بين الإرث ما قبل الكولومبي والماضي الاستعماري الكاثوليكي. هذا الإرث الثقافي والأسطوري لم يكن غريبًا على غييرمو ديل تورو. لذلك، عندما قرر أن يقدِّم معرضًا فنيًا ضخمًا في غوادالاخارا عام ٢٠١٩، أدركتُ فورًا أن هذا سيكون نقطة الانطلاقٍ لاكتشافٍ فريدٍ لأعماق وجدانه. انطلاقًا من "خزانة عجائبه" الشخصية، التي تجمع بين نذوره المرتبطة بأفلامه الماكابرية والآثار الدينية المتصلة بطفولته وسنوات تكوينه، أتاح المعرض لمحة نادرة داخل عقل فنان مسكون بصورة الوحش وتمثيلات التضحية الجسدية».

يترأس المخرج الإيطالي توماسو سانتامبروجيو لجنة تحكيم مسابقة قسم كلاسيكيات البندقية، برفقة ٢٤ طالبًا من كليات السينما الإيطالية، حيث تُمنح جائزتان: الأولى لأفضل فيلم مُرمَّم، والثانية لأفضل وثائقي عن السينما.

بهذه الباقة المتنوعة من الأفلام المنتقاة، يسعى القسم إلى استعادة ثراء السينما الكبير، من خلال عرضِ أعمالٍ خالدةٍ لأسماءَ سينمائيّة بارزة، إلى جانب أفلام ظلَّت لفترةٍ طويلةٍ قليلةَ التقدير رغم استحقاقها للظهور، وذلك بهدف تقديم مزيجٍ غنيٍّ ومتنوّع يعكس عبقرية السينما في تنوّعها.

نختم هذا التقرير بمقولة المدير الفني للمهرجان ألبرتو باربيرا: «عامًا بعد عام، يسعى قسم كلاسيكيات البندقية إلى تحقيق انفتاح أكبر، مُحتفيًا من جهة بالروائع الفنية العظيمة والأساتذة الذين لا يُنكر لهم فضل في تاريخ السينما، ومُحاولًا من جهة أخرى اكتشاف - أو إعادة اكتشاف - أفلامٍ وصُنَّاعِ أفلام أُهملوا بقسوة وتُركوا في الظل».

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى