للعائلة قدسية في العالم العربي والإسلامي والمساس بها شبه محرم. في فيلمه «إخوة ليلى»
(2022 - Leila's Brothers ) يستعرض لنا المخرج الشاب سعيد روستايي ويناقش "قداسة العائلة" بنموذج لعائلة تصارع الفقر وتسعى للوصول إلى طبقة وسطى مخافة الموت فقرًا، وهذا ما أزعج البعض واعتبروا الفيلم مسيء للعائلة الإيرانية والإسلامية. بعيدًا عن النظرة المثالية عن الحُب والألفة لدى الأسرة، نرى أفرادًا مُفككين منهزمين جمعهم منزل صغير وغلبهم اليأس. يستند الفيلم إلى ثلاث شخصيات أساسية، إسماعيل الأب، وليلى الأخت، وعلي الأخ، بالإضافة إلى شخصيات ثانوية متمثلة في الأخوة الثلاثة الآخرين والأم. تتصاعد الأحداث وتخفت في رحلة لأكثر من ساعتين ونصف يعرض لنا فيها روستايي نظرته عن الواقع الإيراني داخليًّا وخارجيًّا، وتأثير هذا الواقع على شخصيات الفيلم في سردية درامية يمتزج فيها الحزن، والضحك، والرقص والمتعة أحيانًا.
في افتتاحية الفيلم، يأخذنا المخرج بنظرة بين هذه الشخصيات، يتصدر المشهد الأول الأب إسماعيل ببلاغة سينمائية، نراه جالسًا على الكرسي وهو يتفكر وينفث الدخان من سيجارته، تقترب الكاميرا من وجهه طالبةً من المُشاهد التأمل في سلطة عميد البيت، متسائلةً ماذا يُريد هذا الرجل الهرِم؟ ونرى عَلِيًّا يعمل. بوادر عاصفةٍ في عملهِ، إغلاقٌ للمصنع، هو معزولٌ ولا يعلم ما الذي يدور حوله، مرتبك، ماذا سيفعل؟ أما ليلى فتبكي. في أول مشهد لها وقد أخذت آلام ظهرها في التطور وهي تحاول علاجها، تبكي ولكن أمن الألم تبكي، أم من تراكمات مكبوتة في صدرها، من واقع أثرَّ فيها وأوصلها إلى ما هي عليه؟ وهل نحن أمام صورة نمطية عن دور "المرأة"؟.
إسماعيل المسكون بعادات عشيرته وقانونها يسعى لنيل "احترام" أقرانِه بخلافة منصب "شيخ العشيرة" المرتبط بوصية الشيخ الأسبق غُلام. العشيرة يقودها طبقة من الأرستقراطيين الذين يستغلون نفوذهم وغناهم، ويظلمون من هم أقل منهم منزلة. إسماعيل، كاره النساء، لم يفرح لوجود حفيداته، نراه في حالة شبه هستيرية في انتظار حفيد له -ذكر- يسمى غلام تيمنًا بشيخ قبيلتهم. هو يحلم بعد هذا العمر أن يتبوأ المنصب، ضاحكاً يقول: «عندما أموت سيكتبون في الإعلان شيخ عشيرة "جورابلو"»، الآن لا يفصله عن هذا المنصب إلا الهدية وهي أربعون قطعة من الذهب تُهدى إلى العريس وهو حفيد شيخ العشيرة المتوفى، غير مُكترث بهموم العائلة وفقرها.
تبرز ليلى متحديةً سُلطَةَ الأب في كل هذه الأحداث. ليلى التي ابتدأ الفيلم ببكائها نرى أنها غدت صوت العقل وقوة مضادة للتسلط الأبوي، تحاول لملمة شتات العائلة للخروج من مصيدة الفقر والتبلد، وتطلب من علي الوقوف مع إخوته، من أجل التغلب على الفقر وعدم التعلق بظلال الأب وافتتاح مشروع صغير من أجل انطلاق رحلتهم بعيدًا عن الفقر، ولكنها تواجه العقبات مع المسكون بنشوة "المشيخة" إسماعيل مما أدى بها إلى صفعه على وجهه.
علي أحد أقطاب هذا الفيلم يتميز بالخوفِ، الخوف المفضي إلى الهرب من كل شيء، وعدمِ المواجهة التي -بحسب زميله في المعمل- تعد من صفات "الأوغاد". نلتمس في شخصية علي تأثير المحيط عليه، فهو كما يقول يخاف الأوضاع الجيدة، فإذا واجه شيئا جيدًا، يعلم أن هنالك خطبٌ ما. يعيش اغترابا ذاتيًّا وهو غير قادرٍ على فهم جوهر أفعاله، حيثُ يقول: «إنَّنِي خائفٌ من السعادة حتى». إنه دائم التنازل لغيره، حتى وإن كان الغير على خطأ. تحاول ليلى النهوض بشخصية علي، تصفعه بالحديث طالبة منه المواجهة، ولكنه "يكرهُ جنونَ عائلته".
في نهاية الفيلم، تتوارد بعض الأسئلة لذهن المشاهد إذ أن السينما الإيرانية تتسم بالواقعية، حتى أننا قد نجد نماذج كالتي يتناولها الفيلم، ولكن هل دور المرأة في السينما الإيرانية واقعي؟ تنقل فاطمة برجكاني1 عن واقع المرأة في السينما الإيرانية في حقبة ما قبل الثورة وما بعدها، وتلخص أن ما قبل "الثورة" كانت المرأة حاضرة في السينما الإيرانية كشخصية ثانوية مساندة للرجل. كانت المرأة لا تتعدى كونها "أحد متعلقات الرجل ولديهن شخصيات منفعلة، من دون شجاعة وعقل"، وما بعد "الثورة" تم تغييب دور المرأة خصوصاً مع بروز "سينما الدفاع المقدس" التي تركز على البطولات النضالية في أفلام الحرب، ولكن في بداية التسعينات بدأ تدريجيًًّا حضور المرأة في السينما الإيرانية في تناول بعض من مشاكلها الاجتماعية والعائلية.
في هذا الفيلم نرى نضوجًا وتطوُّرًا لدور المرأة، باعتبارها عُنصُرًا أَساسيًّا في سلسلة الأحداث، إذ أنَّ ليلى لم تكن على الهامش، بل هي من وَلَدَتْ سلسلةً من الأحداث المفصلية في مسيرة الفيلم، ليس بالضرورةِ أن يكونَ فِعلًا ثوريًّا بقدر ما هو وعيٌ باللحظة التي تعيشها العائلة، أن تقول كفى وأن تقف في خضم واقعٍ يُحتم عليها هامشية الفعل. ثمة نماذج درامية كانت المرأة فاعلة فيه كفيلم «انفصال» (A Separation- 2011)، «عن ايليا» (2009-About Elly) أو «الأبد ويوم واحد» (2016-Life and a day) ولكننا أمام نمط جديد يُرجع الأصل إلى المرأة. إخوة يوسف رموه في البئر وعصوا والدهم، ولكن إخوة ليلى رموها في البئر وانصاعوا لوالدهم.
على صعيدٍ آخر، قد تكون شخصية الأب في الفيلم أكثر شخصية مثيرة للارتباك والجدل، إذ أنَّه غارقٌ في تخلفه وسعيه لوهم المكانة، الذي جعل منه متملقًا لعشيرته بكل ما يملك، ولكنه مارس الظلم على عائلته، عمدًا أو بغير قصد..
لم يوفر "الحنان" أو "الرأفة" لهذه العائلة، حيثُ وَهَبَ حياته لعشيرته التي ما زالت تنتقص منه باعتباره متسولاً. يتركنا روستايي تحت وطأة سؤال مربك عن أصل العائلة، لم يختر أحد والديه، ولكننا نتأثر بأي فعل يقوم به سلطان هذا المنزل، ليلى تملك رؤية للمستقبل، ولكن الأب لديه رؤية في الموت كصاحب مكانة عالية عند عشيرته. ليلى تتفكر في المستقبل الذي رسمته وهي صغيرة والواقع الذي تعيشه، ولكنه ينتظر النومة الأبدية.
"كلما عملت بكد، كلما ازداد فقرك". ما بين فقر العائلة المعدمة وترف سادة العشيرة، يمكن إسقاط الكثير على رمزية العشيرة في الفيلم، ولكن الفكرة هنا تكمن في وجود طبقة من الأغنياء تعرف بعضها البعض بسبب قلتها -كما تراهم ليلى في مكان عملها- وطبقة أخرى معدومة وفقيرة يميزون بعضهم. لا يحلمون بشيء كبير غير عملٍ وحياة كريمة. هل الفقر والتباين الطبقي سببه الأوضاع الاقتصادية التي مرت بها بلادهم والعقوبات التي فُرضت عليها، أم هو فساد في المنظومة؟ تتجاوز إجابات هذه الأسئلة هذه المقالة، ولكنها أسئلة تتولد لدى المُشاهد وأهمها هل يتحمل الشعب وزر أعمال بلده وسياساتها؟
أما في الختام نجد تجسيد وتفاعل الأبطال -ليلى وعلي- في جزئية الموت كان رائعاً. هنا إسماعيل يتلفت يمنة ويسرة، يقرر الجلوس على مقعده، مشعلاً سيجارته، حوله الأطفال يلعبون ويحتفلون بعيد ميلاد إحداهن، لوهلة تظن أنه يتفكر كافتتاحية الفيلم، لكنها ساعة الموت. يبكي علي وتبكي ليلى بصمت وابتسامة، معلنين انتهاء حقبة متخلفة ونظرة إلى جيل جديد، جيل سيتعاون من أجل تحقيق أحلامه.