«جلدٌ يلامس جلدًا» : أمهات في ردهة الحرب

«لم يخبرني أحد عن الخوف من الانفصال. تتمددان في سرير واحد، أم وابنتها التي وُلدت للتو. غرفة باردة. كائنان ملتصقان تمامًا، ومع ذلك، يحضر ذلك الخوف المباغت. الخوف نفسه الذي تعيشه امرأة تقف على عتبة باب بيتها للمرة الأخيرة. ذلك الشعور الذي يختبئ وراء الصور».2

«ما يختبئ في طيات حركتنا نفسها، في انحناءة اليد والنفس، لا نعرف كيف نسميه».3

في اليوم الحادي عشر من طوفان الأقصى، زرت المشفى، ثم اتجهت نحو جاليري المرخية رغبةً في الهروب إلى فنٍ يسليني وبحثًا عن نداء يرويني. وجدت نفسي في معرضٍ يحوي أعمال فنانين سوريين، اسمه Else where أي «في مكان آخر»، وما إن صعدت إلى الأعلى حتى جلست أمام شاشة تستفيض في هموم الأمومة، ينساب فيها الهم بأصوات عددٍ من الأمهات السوريات والفلسطينيات يتحدثن عن مخاوف الأمومة، وتقلباتها. يرافق ذلك الصوت مشهد مرئيٌّ لامرأة تقوم بكيّ وطيّ ملابس طفل صغير بعناية فائقة في مستودع مهجور، مكدسةً خلفها تلالًا من الملابس دون توقف. 

هناك اعتبارات كثيرة للفعل الروتيني الذي كانت تقوم به الأم في الفيلم القصير، قد يبدو للرائي أنها في غاية الوضوح، مشهد عاديٌّ لا يثير جدل النقاد، لكنه يعكس حالة التناغم في علاقة الأم بطفلها، يجعلنا ندرك أن تلال الملابس تلك ليست سوى جزءٍ صغيرٍ من ضخامة ما تقوم به الأم من أفعال يومية متراكمة محكومة بالتكرار والمعاودة، كما لو أن المخرجة تدفعنا للبحث عن مفهوم الحب المختبئ فيها، أو على حد وصفها هي: «ما يعبر من جسد إلى آخر دون أن يقال بالكلمات». 

لكن دافعًا خفيًا جعلني أعيد مشاهدة الفيلم مرارًا، كأن الضوء الذي يملأ المستودع في الفيلم يشبه الوخز الذي يصيب الأم قبل بزوغ الجنين وهي تقاوم الموت بضراوة صرخاتها. تقول إحداهن في الفيلم بأنها تحب أنثى الدب البني لأنها أشرس مدافعة عن أولادها، وأفكر بشعور الذنب الذي يسيطر على الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن، أو الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم وتمنيهم بأن يكون الآخر موجودًا بدلًا من أن يكونوا قصصًا تُروى، أو جثثًا مصورة. تذكر أمٌ أخرى بأن كل شيء في منزلها كان يتساقط، أصوات مخيفة وغريبة عمّت في المكان، في حين كانت هي تمسك بطفلها

الذي في بطنها، خشية أن تسقطه ويستوي رمادًا مثل بيتها أمام عينيها ولا تتمكن من إبقائه حيًا وحمايته من أهوال هذا العالم ورعبه الذي تعيشه، العالم نفسه الذي سيُبتلى به طفلها في النهاية. 

في الأيام الماضية نشرتْ عديدٌ من الأمهات صور أبنائهن الشهداء الذين فقدنهم. يبدو الأطفال ضاحكين في الصور، في لقطات تثبت للعالم بأنهم كانوا موجودين وأحياء. تحاول الأمهات مقاومة الفكرة، فكرة أن أطفالهن بداخل الأكفان البيضاء صاروا مثل قطع لحم جُمعت في أكياس. تنشر الأمهات صور أطفالهن القديمة في محاولة يائسة لاستعادة الأمومة التي فُقدت، أطفالهن الذين لن يتمكنّ من التقاط مزيد من الصور لهم بعد عام وعامين وخمسة أعوام لتخليد مراحل نموهم.  

في المرة الثانية التي أعدتُ فيها مشاهدة الفيلم القصير، كان صوت والدَيّ "يوسف: يطاردني وهما يصِفانه بأنه «شعره كيرلي، أبيض وحلو» أثناء بحثهم عن جثته الصغيرة التي ضاعت وسط الجثث، أو تحت الأنقاض. تذكّرتُ بحثَ أمي وأبي عني، وأنا في الصف التمهيدي، بعد أن نِمت في المقعد الخلفي لحافلة المدرسة، يومها بحثت عني الحارةُ بأكملها، ثم وجدوني نائمة في المقعد الخلفي، أو فاقدة للوعي، الله يعلم. بعدها أخذتني أمي في حضنها إلى أن نمت من جديد، ومنذ ذلك اليوم وهي تضخم غيابي، وتُصاب بالذعر، وتتخيل أسوأ احتمالات موتي ما لم أجب على رسالة منها خلال نصف ساعة. فما معنى أن يُقتل مَن تعيش الأم من أجله؟ وكيف يمكنها أن تلد مرةً أخرى وتتحسر على فقد جديد؟ كيف يقوى القلب الذي تبتر أطرافه كل حين؟

في كل شهادة أسمعها، أسترجع كل صور الأطفال الشهداء، ووجوه أمهاتهم الباكية، وسؤالهن عمّن بقي من أولادهن، وصياحهن «ادفنونا معهم». أفكر في شعورهن، في أن قطعةً فُصلت منهن، وتناثرت أشلاؤها، هنا وهناك، واختفت تحت الركام، أنهن سيُحرَمن من التصاق أطفالهن بصدورهن، أن يصبح ذاك الانتظار للحظةِ التماسٍ انفصالًا مؤبدًا. أمومة قائمة على الخوف من اختفاء أبنائهن، أو كما تقول إيمان مرسال في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»: «أمومة تبحث عمّا سُرق منها، عمّا يعيد إليها تعريفها لنفسها كأم». 

وأفكر في الطفل الذي قد يكون المهدي المنتظر من قِبَل العائلة كلها، عائلة أصبح أفرادها شهداءً، أو معتقلين، ينتظرون فرحة عودة النبيّ يوسف لأبيه، حاملًا على أكتافه نسل أبيه. ومن ثم ما معنى أن ندّعي نجاة الأطفال وهم دون أمهاتهم؟ كيف تزورهم أمهاتهم في الحلم؟ مبتورة اليد أم كقطع لحم حمراء تخيفهم وتغرقهم بدمها؟

كل الأمهات في الفيلم، مع اختلاف تجاربهن في الأمومة، يشتركن في خروجهن عن المسار الطبيعي للأمومة الذي ارتبط مؤخرًا باستقرار الوضع المادي والاجتماعي، ما يجمعهن هو موضع الاغتراب الذي وُضعن فيه قسرًا، وتمزقهن الداخلي الذي ما هو إلا صورة لواقعهن، حيث ما الإنجاب إلا رغبةٌ في أن يصبح العالم مرهونًا بالاتصال، بالبقاء، لا الانفصال، أن يكون الطفل سبيلًا في تحررهن، رغم توافر كل أسباب الاختفاء. تقول الباحثة نور بدر في مقابلة أُجريت معها بشأن قيام الاحتلال الإسرائيلي باستخدام أجساد النساء وأرحامهن بوصفها أدوات للابتزاز والتهديد: «إن أرحام النساء في غزة بقيت تحت الحصار طوال سبعة عشر عامًا، وقد عانت صاحباتها جراء أوضاع معيشية غاية في البؤس. طول ما الرحم شغال بضل يجيب ولاد».4 في هذا السياق تحديدًا نشهد أمهاتٍ تُنتزع منهن أمومتُهن رغمًا عنهن، نتاج الاستهداف المتعمد لهن لكي يُقضى على الرحم الذي يُنظر إليه بأنه آلةٌ للإنتاج، كطريقة لإبادة المجتمعات الأصلانية، أو اغتصابهن، لكي يعشن حاملات لمشهد الاستغلال الجنسي وصدمة الاحتقار التي قد لا يتمكنّ من تخطّيها.

تشير امرأة في حكاية أخرى، أنها كانت تشعر بالتوتر الشديد لولادتها في بلد أجنبي بوصفها لاجئة، تجهل لغته، دون مرجعية تتكئ عليها، وتشتكي أخرى عن عدم اكتراث الطاقم الطبي بسؤالها، أو إعطائها أية أوامر، أو إرشادات طبية، قبل أن تُعطى حقنة يجب ألا تتحرك أثناء أخذها، وأنها كانت تشعر بأنها كائن فضائي، لا ينتمي إلى المكان الذي وصل إليه. لا أعتقد أن أيًا منهن تخيلت أنها ستعيش خارج البلاد، أو دون منزلها. ما زلن يفكرن بالوطن قبل أن يُدمَّر. 

في نهاية الفيلم، تتحدث أم عن ابنتها الصغيرة التي كانت تحاول أن تمسك الماء، وكما سحرتها رغبة ابنتها في الاستكشاف، تسحرني الأمومة وعلاقة الأمهات بأطفالهن، تلك العلاقة المعقدة التي تشبه الماء في عذوبتها، تشبهه أيضًا في صعوبة الإمساك بها. تعيش الأمهات حيواتهن وهن يحاولن الإمساك والتحكم في علاقاتهن بأبنائهن. الطفلة التي حاولت الإمساك بالماء ستكبر وتتوقف عن المحاولة، إلا أن الأمهات لن يتوقفن. الأمهات لا يتوقفن عن محاولة جعل الحياة أكثر لطفًا لأبنائهن حتى تحت ظل الحرب والشتات. وبرأيي فإن علينا اليوم حين نعلم أطفالنا القوة والثبات واليقين أن نقول: كونوا أقوياء مثل الأمهات في ردهة الحرب.

الهوامش:

1.في عنوان المقال، «جلدٌ يلامس جلدًا» (2023): فيلم قصير أخرجته بيسان الشريف المتخصصة في السينوغرافيا، يبحث في العلاقة بين الأم وطفلها، وفي الأرجحة بين لحظات العزلة والمشاركة العميقة، في التحولات التي تطال الجسد وحركة الجسد وعلاقته، عارضًا تجارب نساء سوريات وفلسطينيات عشن تجربة الأمومة بطرائق مختلفة، ما يجمعهن هو أنهن يعشن جميعًا في الشتات. تم الانتهاء من العمل في يوليو 2023، وعُرض في معرض مشترك لفنانين سوريين خلال شهرَي تشرين الأول والثاني.
2.مقتبس من وصف الفيلم
3.مقتبس من وصف الفيلم
4.لمى غوشة، الأمومة المنزوعة في غزة! أمهات في مواجهة الحرب، رابط المدونة

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى