«حُمّى البحر المتوسط»: مرضُ العالم المقموع

September 17, 2025

في فيلمها الثاني «حمّى البحر المتوسّط» (إنتاج عام 2022)، تُبحر المُخرجة الفلسطينية مها حاج في مياهٍ أكثر عتمةً من ظاهر كوميديا الفيلم السوداء، لتنسج سرديّةً عن الاكتئاب واللاجدوى، لكنها تفعل ذلك من زاويةٍ لا تخلو من نقدٍ سياسيّ خفيّ، ينبض بهامش الشخصيات لا بمركز الحدث.

تحت قشرة الحكاية، هناك كاتبٌ يُعاني من اكتئابٍ مزمن، وجاره المتورّط في عالم الجريمة. تُخبئ المخرجة تأملًا عميقًا في الهوية الفلسطينية ما بعد النكبة، حيث يتحوّل الاكتئاب الفردي إلى استعارة لحُمّى جماعية تسكن سكان المتوسط، وتحديدًا الفلسطينيين الذين يعيشون في واقع استعماريّ دائم  داخل حدود الخط الأخضر.

وليد، كاتبٌ فاشلٌ يعاني من الاكتئاب، لا لسببٍ نفسي محض، بل لأن واقعه لا يمنحه مادةً للكتابة سوى المُعاناة. هنا، تقارب مها حاج السؤالَ الفلسفي حول الكتابة من العدم: كيف يمكن للفرد أن يكتب في ظلِّ  شروط معيشية قسرية لا تمنحه أي أمل في الأفق؟ 

وليد ليس "مكتئبًا" فقط بالمعنى الطبي، بل هو مُحاصرٌ في واقع سياسي لا يُسميه الفيلم مباشرةً، لكنه حاضرٌ في اللغة، وفي الحوار، وفي الإشارة غير المباشرة للاحتلال والهوية.

إن اللاواقعية هنا ليست غيابًا للسياسة، بل هي شكلٌ من أشكال الإنكار كآلية دفاعية. لا يريد وليد أن يكون "مُناضلًا"، بل يهرب من ضيق السياسة إلى رحابة اللغة، ومن الفعل إلى الانسحاب. لكنه انسحاب لا يُنقذ أحدًا، بل يتكشّف تدريجيًا كأداة من أدوات القمع الذاتي التي يرسّخها الاستعمار داخل النفس، كما أشار الفيلسوف والعالم النفسي فرانتز فانون في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" عن آليات تكوين الذات المستعمَرة.

تجري أحداث الفيلم في مدينة حيفا، التي  تحتل موقعًا رمزيًا معقدًا في الوعي الفلسطيني، بوصفها من المُدن التي نُكِّبت ولم تُحرَّر، والتي يعيش فيها الفلسطينيون كمواطنين من الدرجة الثانية في "إسرائيل". ومن هنا، فإن السياق الاستعماري للفيلم لا يكمن في الاحتلال العسكري المُباشر، بل في الأشكال البنيوية للهيمنة: القانون، الاقتصاد، اللغة، والهوية.

يضعنا الفيلم أمام مأزق الشخصية الفلسطينية داخل حدود الخط الأخضر،  حيث تُمنح جوازَ سفرٍ ومُواطنةً شكليةً، لكنها تظلُّ منفيَّةً في ذاتها، مغتربةً عن المدينة، عن العمل، عن اللغة، وعن نفسها. وهذا ما يقودنا إلى أطُروحة الكاتب إدوارد سعيد حول المنفى، ليس كحالة مكانيّة، بل كوعيٍ دائمٍ بالانفصال والاغتراب.
يتجلّى أثر إدوارد سعيد في الفيلم من خلال سؤال من يتكلم؟. وليد، كشخصية، يُحاول أن يكتب، أن يخلق صوتًا. لكنه يُخفق باستمرار.
أما الجار جلال، فهو رجلٌ قاسٍ ظاهريًا، شخص مهمش، محكوم عليه بالصمت والعمل في الظل. هذه الشخصيات ليست محاصرة فحسب، بل مُستعمَرة أيضا في خطابها، غير قادرة على التعبير بحرية. وهذا ما أشار إليه سعيد في كتابه "الاستشراق" حين تحدث عن منع الآخر من امتلاك خطاب ذاتي، حيث يصبح الفلسطيني إما ضحية أو إرهابيًا في عين المُستعمِر، لكنه لا يُمنح أبدًا ترف "تعقيد الذات الإنسانية الكاملة".
في قلب الفيلم، لا توجد مقاومةٌ تقليدية، لا حجرٌ ولا بندقيةٌ، بل صداقةٌ هشّةٌ تنمو بين رجلين مُحطَّمين، يبحث كلٌّ منهما عن معنى لحياته بطريقة مختلفة.
يُقارب وليد الموت كفكرة رومانسية، بينما يتعامل معه جاره جلال كمهنةٍ مُحتملةٍ. وعلى الرغم من التباين بينهما، تتكوَّن بينهما رابطةٌ إنسانيةٌ معقّدة، يتداخل فيها الاحتياج مع الرفض، والرغبة بالانعزال.

هذه الصداقة ليست حلًا، لكنها بمثابة خط دفاع أخير ضد العدمية. في ظل استعمار يمزّق الروابط الجماعية، ويُفكك الهوية، ويعزل الأفراد داخل بيوتهم وأجسادهم، تصبح الصداقة هنا بديلاً هشًا عن المقاومة.
يتلاقى هذا مع ما طرحه المُفكر أشيل مبيمبي عن الحياة في سياق الموت السياسي:
«حين لا تملك أدوات القوة، ابحث عن أدوات التواطؤ المؤقت، عن دفء الآخر، ولو كنت على حافة الانهيار».

يرفض الفيلم تقديم شخصياته كضحايا أو أبطال، إنما يجعلهم كائناتٍ رمادية، مُتناقضة، مُشوشة، وواقعية. وفي هذه الرمادية تكمن قوة العمل، الذي لا يستجدي تعاطفًا ولا يقدم أجوبة، بل يطرح سؤالًا فلسفيًا: كيف يعيش المُستعمَر حين لا يستطيع المقاومة ولا التأقلم؟
عنوان الفيلم «حمى البحر المتوسط» ليس عنوانًا مجازيًا فقط، بل هو استعارة لمرض جماعي: الحمى، والسخونة، والغليان الداخلي. هي أعراض لوصف دقيق لحالة الفلسطيني المَقمُوع في الداخل المُحتَل، ولحالةِ المنطقة كلها. إننا أمام حُمى بلا دواء، تنعكس في الاغتراب، في الغضب المقموع، في محاولة القتل كنوع من الانتحار الرمزي، وفي كتابةٍ لا تكتمل.
من هذه الزاوية، يُمكن القول إن مها حاج قدّمت فيلم "ما بعد كولونيالي" بامتياز، لا من خلال استعراض الشعارات، بل عبر بناء سردية عميقة عن الفرد الذي ينهار بصمت، داخل نظام لا يراه ولا يسمعه.
«حمى البحر المتوسط» ليس عن الاكتئاب فقط، بل عن اللاجدوى التي تفرضها البُنى الاستعمارية على الأفراد. وهو ليس عن فلسطين بمعناها السياسي المباشر، بل عن فلسطين الداخل، التي تحيا يوميًا داخل مفارقة الوجود المشروط.
في هذا الفيلم، يتجلى أثر كتابات إدوارد سعيد، وفرانتز فانون، وغاياتري سبيفاك، حيث يصبح الصمت موقفًا، والكتابة المُستحيلة تعبيرًا عن استعمار الذات من الداخل.
«حمى البحر المتوسط» ليس فيلمًا عن الصراع السياسي بحد ذاته، بل عن تأثيره المتراكم على الأرواح الفردية. يُقدّم الفيلم استعارة جريئة: أن المقاومة في ظل واقعٍ استعماري بنيويٍّ لا تعني فقط حمل السلاح، بل تعني أحيانًا أن تظل حيًا، أن تجد صديقًا، أن تكتب جملة، أن تبكي دون سبب.

هذا الفيلم يعرينا أمام السؤال الأصعب:

ماذا لو أن الاحتلال لم يقتلنا، بل جعلنا نقتل أنفسنا في صمت؟

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى