«أحلى الأوقات»: فيلمي المفضل في الطفولة

September 30, 2025

كنت في المرحلة الابتدائية أستيقظ قبل المدرسة فأجد أنني لست على ما يرام، مدفوعًا بكرهي الشديد للمدرسة، كنت أستغل الفرصة وأبالغ أحيانًا في ادعاء المرض حتى أصل للحد الذي يسمح لي بقضاء اليوم كله في المنزل. أجلس في غرفة المعيشة أمام التلفاز، وها هو الفيلم أمامي، الفيلم الذي تكرر لقائي به كثيرًا بعد ذلك، فقد كان فيلمي المفضل في الطفولة رغم أنني لم أشاهده كاملًا قط. وقد يشاركني أحد جلستي في أي لحظة، لذا كنت أفضل ألا أبدي إعجابي به، ربما خجلاً من أن يكون فيلمي المفضل فيلمًا خفيفًا، أو ربما خوفًا من أن يكشف أحدهم إعجابي البريء بقَصَّة شَعر حنان ترك في تلك الشخصية.

وقبل حوالي شهر عدت لمشاهدته مرة أخرى، وأنا أحمل حنينًا غريبًا، وفضولاً شديدًا لكي أعرف ما الذي كان كفيلًا بتشكيل تجربةٍ مميزةٍ لطفل مع فيلم كهذا!

تبدأ قصة الفيلم من نقطة شديدة البساطة، إذ تفقد شخصيتنا الرئيسة «سلمى» والدتها في صباح ما، ثم تبدأ في استقبال رسائلَ سرية عند باب منزلها من شخص مجهول، وكأن شيئًا ما يخاطبها من ماضيها. وتبدأ رحلتها نحو فك اللغز، فيما نبدأ نحن بالتعرف عليها والبحث في تاريخها وتأمل تطورها وتغيرها خلال رحلة البحث. سلمى سيدةٌ شابةٌ ذات ميولٍ انعزاليةٍ، وحيدةٌ في حاضرها، لكن كان لها أنس في الماضي. إن بناء لغز ما والتفاف الحبكة حول حلّه في سياق غير بوليسي هو شكل مثير جدًا للاهتمام.

وقد كان غريبًا أن أصادفَ سلمى وهي تبحث وتنقِّب في طفولتها بالموازاة مع بحثي في طفولتي، حيث تتبعُ ماضيها بحذرٍ خفيٍّ ما لبث أن تحول مع تسلسل الأحداث إلى حنينٍ جارف ظلَّ يدفعها بشغفٍ لا يهدأ إلى التعمق أكثر في هذا الماضي الحافل، متحليةً بجرأةٍ وإقدام كبيرين. وعلى امتداد هذه الرحلة، تكتشف الكثير حول نفسها، فتظهرُ إلى السطح طبقاتٌ خفيةٌ من ذاتها ومن ماضيها، مما يبعث على التساؤل: كيف لم تنهَر صداقاتها رغم مرور كل ذلك الوقت؟ وكيف تكون أكثر براءةً وامتلاءً بالحياة وهي برفقة صديقات طفولتها؟

الحنينُ شعورٌ قاتل. في الفيلم، تحاول سلمى وصديقتاها إعادة إنتاج ذكرياتهن، رغم ابتعادها تمام البُعد عن ملاءمة ما يعشنه الآن. لم تكن سلمى وحدها من وجدت في ماضيها وطفولتها ملجأ للهروب، فـ"يسرية" أيضًا كانت في احتياج شديد للذهاب إلى الإسكندرية، بين ليلة وضحاها، لتلِد مولودها الجديد عند البحر، و«ضحى» كانت بحاجة لتلك الرحلة لإعادة ترتيب أولوياتها، ولتلقي نظرةً أقرب إلى ما آلت إليه علاقتها.
ومع النهاية، تدرك الصديقات الثلاث أن التوقف لن يكون مجديًا بعد الآن! ورغم أن الفكرة تبدو حزينة، فإن الحياة تسير إلى الأمام، بينما أردْنَ هن العودةَ بها إلى الوراء، لكنّهن، على الأقل، استطعن إيقافها للحظات، ليخُضن مغامرةً هامشيةً، توقّفن خلالها عند البحر، والذكريات والطفولة.

أحببت ارتباطَ سلمى بأغاني محمد منير، فقد شكَّل جزءًا كبيرًا من طفولتي. كان منير الفنانَ المفضَّل لوالدي، ولذلك أصبح أهم المفردات الصوتية لطفولتي، لا تغيب مع أغنياته حتى الآن صورة والدي الذي يجلس في السيارة يدق بأصابعه على عجلة القيادة مع إيقاع الموسيقى، يغني بشغف وتعود به الموسيقى إلى شبابه.
يبدو أن الفن يرتبط دائما ارتباطًا وثيقًا بذكرى أنتجت مشاعرَ محددة، نسعى إلى استعادتها عبر إعادة خوض التجربة. وإن كان الزمن يمضي إلى الأمام، فإننا نستطيع على الأقل أن نحظى بفرصةٍ نخوضُ فيها مغامرةً هامشيةً في خطٍ زمنيٍّ موازٍ، كلٌ في ملكوته الخاص. ولكن ما هي احتمالية أن نمتلك القدرة حقًا على إعادة إنتاج الذكرى؟

خلال مشاهدتي لفيلم «أحلى الأوقات»، كنت أتعلم ببطء أن تجربتي الطفوليّة مع الفيلم محبوسةٌ في لحظتها، بينما أعيش الآن تجربة جديدة بمفردات مختلفة، حتى ليخيل إلي أنني لا أشاهد الفيلم نفسه. وأستحضرُ هنا قول مارتن سكورسيزي عن السينما: «أنها فن يبقى معك، تشاهده في لحظة وتزوره بعد فترة، لتلاحظ انعكاسات تطوراتك وتغيراتك على ما تشاهد، في الغالب لا تشاهد نفس الفيلم مرتين». لعل هذا هو السبب الذي يجعلني أحب العودة من حين لآخر لألقي نظرة على فيلم «أحلى الأوقات»، فيلمي المفضل في الطفولة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى