حاجة السينما السعودية إلى فيلم "الهامور ح.ع" في هذا الوقت تحديدًا

أعتقد أن أكثر المتفائلين بالسينما السعودية الصاعدة، لم يكونوا ليتوقعوا حجم المكاسب التي حققها فيلم واحد فقط، هو فيلم "الهامور ح.ع". كان الأمل والتوقع – دائمًا – يدوران حول التراكم الفيلمي؛ بمعنى آخر كنّا نسمع من المراقبين لهجة الانتظار، رغبةً في حصول كثافة من الأعمال السينمائية، تمكنهم من قراءة الصورة العامة، ومن ثم تكوين رؤية وموقف تجاه السينما السعودية، التي كانت ترزح – وما زالت – تحت وطأة الرؤى الثقافية تجاه السينما كفن، من محاولات تجريبية فاقدة بشكل متعمد للمتعة، وبالتالي تأجيل فكرة جذب عموم المتلقين، حتى جاء فيلم عبدالإله القرشي "الهامور ح.ع" وخلخل الوضع القائم؛ عبدالإله القادم من نفس بيئة صنّاع الأفلام السعودية، والذي تورط هو أيضًا قبل هذا الفيلم، بفيلمه الأول "رولم"، لكنه تنبه سريعًا لعدم جدوى التباكي على مفقودات السينما المحلية خلال الحقبة السابقة، وبدأ العمل على السينما نفسها، وأسئلتها الكبيرة، ابتداء من سؤال الإنسان وقصته، والمكان وجماليته، وانتهاء إلى سؤال القدرة الإخراجية وآليتها. عن هذه المكونات الأساسية سوف أتحدث في السطور القادمة.

الحكاية المحلية

يمكن أن نلاحظ من خلال أفلام سعودية كثيرة وجود حكاية محلية؛ هذا صحيح، وربما استثمر بعضها الخصوصية المحلية. يبرز ذلك بشكل أكبر في السينما النسائية، التي تميل إلى التصور النسوي، لذلك هي حكايات جاهزة للتلقي الفكري، خاصة تلقي الآخر، وهي مع ذلك مسبوقة ومعالجة بشكل ثقافي يتميز بالعمق في كثير من الروايات السعودية. لهذا، أجد أن ما يميز حكاية فيلم "الهامور ح.ع" هو خروجها من دائرة الحكاية المتوقعة، وذهابها إلى حكاية أخرى تمامًا، لها بعد اقتصادي في الصورة العامة، لكن التميّز والوعي الفني ذهب بها إلى مستوى الرحابة الفنية، من رسم عظيم للشخصيات، إلى التكثيف القصصي، من خلال التقاطعات الممكنة والمنطقية لدعم الحكاية الرئيسة، بالإضافة إلى التعمق في الذاتية، التي مكنت – في تصوري – من إمكانية رؤية حقيقية للمجتمع السعودي ومشكلاته، وطريقة تفكيره، ودوافعه تجاه الحياة. 

وقد يتوقع بعض الناس أن منشأ وجود حكاية جاذبة هو  القصة الحقيقية التي بُنيت أحداث الفيلم عليها، وهذا – وإن صح – ليس كل شيء، فالقصص المبنية على واقعة حقيقية تزداد صعوبتها بحسب شيوع الواقعة ومساسها بالذات بشكل مباشر، خاصة عندما يذهب صانع العمل الفني باتجاه الكوميديا السوداء، التي تفترض فكرة سخرية الذات من نفسها. في هذه الحالة يكون الصانع كمن يمشي على الحبل: أي زلة بسبب عدم الجاهزية أو التساهل قد تسقطه وتسقط خطابه الفني، وهذا ما لم يحدث قط في فيلم "الهامور ح.ع"؛ لأن القرشي كان متحكمًا بطريقة سرده للحكاية، عارفًا بقدرات ومستويات فريقه. يمكننا ملاحظة ذلك من خلال الصعود الهائل في إمكانات وأداء الممثلين، ولا شك أنهم سيكونون أمام ورطة كبيرة، فكيف سيكونون مقنعين بعد ظهورهم المميز في هذا العمل، فقد ارتفع سقف التوقعات منهم للغاية. خذ على سبيل المثال دور الفنان الجميل والعفوي إسماعيل الحسن، الذي مكنه المخرج من أداء شخصية محلية بامتياز، وصالحة تمامًا لتكوينه الشكلي، وهي شخصية الفتى المغرم بكل ما هو «جاوي»، في الشكل واللباس والتصرفات والأهواء، وهذه شخصية – لمن يعرف الحجاز بشكل جيد – موجودة وواقعية وغير مُفسرة؛ تفسيرها الوحيد وجودها وتوظيفها في حكاية مثل هذه الحكاية، وهذا دور من أدوار السينما قلما نجد وسيلة فنية أخرى قادرة على حمله والتعبير عنه بهذا القدر، كما أن هذا التعاطي مع الشخصيات ملاحظ بدرجات متفاوتة في بقية الشخصيات، ولا يدل هذا إلا على العناية الفائقة بتكثيف الحكاية المحلية، ودعمها بأدوات الإقناع، التي من أبرزها رسم الشخصيات بدقة ومعرفة. 

وهذه العناية في التعاطي مع الشخصيات وعلاقاتها موجودةٌ بنفس القدر مع بقية مفاصل ومكونات الفيلم، سواء فيما يتعلق بيومياتها وطريقة تعاملها مع الفرح أو الحزن أو الغضب، وحتى طموحاتها وطريقة تفكيرها وتعاطيها مع الحقائق والهواجس، فالقرشي باختصار شديد مكّننا من رؤية ذواتنا الجمعية في حقبة معينة – بداية الألفية – وهذا بطبيعة الحال موضوع في غاية الأهمية لصُنّاع المادة الفيلمية، لكنه في غاية الصعوبة، بسبب حاجته إلى المعرفة الدقيقة بتفاصيل المجتمع، وإلى التناغم الذي ينظم عقد الحكاية، وبالتالي يوصل العمل بأجمل وأرقى طريقة إلى لحظة التصديق المستحيلة، والتي يفشل كثير من المخرجين في الوصول إليها، هذه الطريقة التي تجعل من المتلقي يسأل سؤاله الأثير عن صانع هذه الدهشة، التي مكنته من الوصول إلى الوعي بأهمية هذا النوع وهذا الشكل من الكوميديا، التي يضحك فيها الإنسان من نفسه، دون أن يصحب ذلك احتقان أو غضب.                       

مكان أصيل وجميل

 

النجاح في إظهار جمال المكان في السينما قد يكون يسيرًا من عدة زوايا، منها الاختيار الجيد لأماكن التصوير، أو جودة التلوين الفيلمي، أو غير ذلك من الأمور الفنية البحتة، لكن من الصعوبة بمكان جمع هذه الإمكانات ووضعها بالشكل المتوازن مع فكرة تقديم مكان أصيل، وأقصد بالأصالة هنا الإخلاص للمكان الذي وقعت فيه أحداث الحكاية، أو الإيهام به على الأقل، فهذه الأصالة تحتاج إلى دراسة القصة بشكل جيد، ومن ثم مقاربة المكان من خلالها، أي من القصة إلى المكان وليس العكس. وإذا ما نظرنا إلى طبيعة الفيلم الروائي الطويل والمشقة المتوقعة في اختيار مواقع التصوير، فإننا سنلاحظ الجدية الطاغية في صياغة مكان محتمل لقصة بكل هذا التعقيد، من أحياء مكة المكرمة، إلى أبراج جدة، إلى عالم القصور والشاليهات في نهاية الفيلم. كل هذه العناية بالمكان كونت للقصة مسارًا طبيعيًا وسلسًا أضاف إليها سمة الأصالة، والمتابع للسينما السعودية سيتنبه إلى الفراغ الهائل في جزئية أصالة المكان، ويمكنه أن يلاحظ أن كثيرًا من المخرجين يلجؤون إلى سد هذا الفراغ بمحاولة استثمار الأماكن الشهيرة، أو المعالم البارزة لتكوين مكان خاص للقصص، أو تسمية المكان وكتابة اسمه على شاشة العرض، وفي العادة تفشل هذه الطريقة في إعطاء إحساس طبيعي للقصص، فالاعتماد على جمالية المعالم أو شهرتها لا يفي بالغرض البعيد والعميق للقصة، الفشل الذي تجنبه القرشي في فيلمه، لأسباب منها وضوح الرؤية، والمعرفة الحقيقية بالمكان الذي تُخلص القصة له أيما إخلاص، وبالتالي يعطيها جمالية فريدة، لا تعتمد على الجمالية الفنية فقط، بل تضيف إليها الجمال الخفي والدقيق، وهو جمال أصالته.         

القدرة الإخراجية واستثمار الثقافة البصرية         

قرأت كثيرًا من الملاحظات والمراجعات لفيلم "الهامور ح.ع" تؤكد على اعتماد القرشي على رؤية المخرج مارتن سكورسيزي، خاصة في فيلمه "ذئب وول ستريت"، لكنني بعد التدقيق في تفاصيل الفيلم وإعادة مشاهدة فيلم سكورسيزي، أجد أن هذا التوهم طبيعي ومنطقي، بسبب تقارب القصتين، فكلا الفيلمين يتحدثان عن بيع وهم الثراء للناس، وهو وهم مشترك وموجود في كل بلد يتمتع بالانفتاح الاقتصادي، لذلك أجد أن التقاطع وارد بشكل عفوي. أضف إلى ذلك أن هذا الوهم موجود بشكل حقيقي وغير تعسفي، والدليل على ذلك سهولة وجود قصة واقعية كونت المرجع الرئيس للفيلم، لكن السؤال الحقيقي الآن: هل عالج القرشي القصة من خلال عين سكورسيزي؟ 

على أن القول بذلك يعد ميزة مضافة للفيلم، إلا أنني أجد أن القدرة الإخراجية واستثمار الثقافة البصرية لدى القرشي في هذا الفيلم كانت أكثر شمولية وواقعية كذلك من فكرة الاعتماد على فيلم واحد، ثم دعونا نسأل السؤال بشكل صادق: ما هي المرجعية البصرية الممكنة لأي مخرج في العالم العربي؟ هل سيكون سكورسيزي غائبًا عن أي مرجعية بصرية لمخرج جاد وطموح ويود أن يكون هذا مجاله الأوحد الذي يُعرف به؟ أعتقد أن الإجابة شديدة الوضوح، كما أرى نسبة هائلة من الإجحاف في حال انحصر المخرج في هذه الزاوية الضيقة رغم أهمية قيمتها الفلسفية والفنية، وأعتقد أن سبب ضيق هذه الرؤية مرده إلى فكرة رائجة في ثقافتنا، هي استحالة تبرير الجمال من داخله، فهناك دائمًا وأبدًا جمال مستورد يُسهل علينا استيعاب جمال قصصنا الذاتية، وهذه مشكلة يشعر بها المبدعون دائمًا، وغالبًا سينجح في تجاوزها الكبار منهم بسبب تفهمهم للفن ذاته وتعمقهم فيه، أكثر من تعاطيهم مع المجتمع الفني، الذي يغلب عليه الطابع التنافسي.

كل ما سبق وخلافه من الأمور الفنية البصرية، أو الصوتية، أو الإنتاجية في فيلم "الهامور ح.ع" مكنتني من الاطمئنان – بشكل واقعي لا توهمي – على مستقبل الفيلم السعودي، وعلى إمكانية منافسته وحضوره المحلي والدولي، وجعلتني قبل ذلك أفكر في السينما نفسها كفن يمكنه أن ينافس الأجناس الفنية الأخرى مثل الرواية، بل ويتفوق عليها في التعبير عن قصصنا وواقعنا وجمالية مكاننا، فبعد أن كان أكبر همي أثناء مشاهدة السينما السعودية مراقبة تطور الصناعة والتواصل معها بشكل ثقافي، بدأت أفكر في إمكانية الاستمتاع بها والدهشة منها، وهذا الموضوع بحد ذاته في غاية الأهمية، لأنه يجعل السينما كفن تنمو وتتغلغل داخل الوعي الجمعي، وينتقل حضورها من الهامش إلى المتن، ومن التسلية إلى المشاركة الفاعلة في تشكيل القيم الثقافية العليا، ولهذه الأسباب أرى أن السينما السعودية في أمسّ الحاجة إلى وجود أعمال مثل فيلم "الهامور ح.ع"، وفي هذه اللحظة المبكرة تحديدًا.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى