للوهلة الأولى قد يشعر المُشاهد عند مُشاهدة الفيلم الروائي الطويل «أغنية الغراب - 2022» -الفائز بالنخلة الذهبية في مهرجان الأفلام السعودية- أنه واحد من تلك الأفلام التي تناقش الصحوة وتنتقدها كباقي الموجة التي بدأت 2015 ومازالت مستمرة حتى الآن. إذ نجد بطل الفيلم ناصر في أول مشاهده وهو ينظر في وجه أبيه الذي يناديه بالتيس، وهو يحطّم أشرطة الكاسيت، نرى من ضمنها شريط يوضّح الفيلم أن اغانيه من كلمات الشاعر ناصر الغراب.
يردد الأب: «حي على الصلاة، حي على الفلاح.. وأنت لا صلاة ولا فلاح»، وهو يحطّم الأشرطة بمطرقة ثقيلة، وزوجته تصرخ: «بس!» في رعبٍ واضح تهتز بسببه استكانات الشاي ودلة القهوة.
غير أن الصورة والانطباع يتغيّران فجأةً بمجرّد خروج ناصر من المنزل، ليجد فصوص أدمغة عديدة تتساقط من السماء كالمطر في ظل لمعان البرق على بنيان الحارة القديمة التي يسكنها. تتساقط الأدمغة تديجيًا، حتى تصبح كثيفة، ومن ثم يسقط أحدها على رأس ناصر، فيُطرح أرضًا. من هنا يتغيّر الانطباع الأول تمامًا؛ إذ نجد أننا لسنا أمام فيلم عادي يناقش قضية الصحوة أو غيرها من القضايا الاجتماعية بأسلوب مباشر أو حتى غير مباشر، بل أمام فيلم غرائبي، يَعِدُ منذ بدايته بصورة وأفكار مفاجئة وغريبة، تتداخل فيه الأحلام والهلاوس والخيالات؛ لتشكّل الصورة والمعنى معًا.
تحاول هذه المقالة تفكيك الخطاب الغرائبي للفيلم؛ لفهم ما تحيل إليه الصورة، وتقدّم ادعاءً يصل بين أسلوب الفيلم وبين أسلوب المخرج اليوناني الشهير يورغوس لانثيموس بنهايتها، ما يفتح أسئلة عديدة تخص المخرج محمد السلمان تحديدًا، والسينما السعودية عمومًا.
شظايا تجمعها النهاية، ولكن ليس كلها
بوتيرة بطيئة للغاية، يتحرك «أغنية الغراب» في عدة خطوط زمنية. لا يبدأ الفيلم من اللحظة التي يكتشف فيها ناصر ورمًا في دماغه، ولا حتى من خوفه من أن يصبح مثل التيس كما يقول أبوه في حلم تساقط الأدمغة إياه، بل يبدأ من قصة الشاعر ياسر، والذي لا نراه أبدًا في الفيلم.
يضع الفيلم هذه الشظايا وهذه الخطوط الزمنية كلها: ناصر الواقع في حب عشوائي لفتاة يسميها شيخة، زارت فندق اليمامة الذي يعمل به لرؤية الغرفة رقم 227، تاركةً رسالة وديوان شِعر لقاطن الغرفة لسببٍ غريب لا نعرفه في بداية الفيلم. هو الشيخ أبو ياسر، الذي نعرف لاحقًا أنه أبو الشاعر المُنتحر ياسر، أتى أبو ياسر لطلب نفس الغرفة من ناصر، والتي يعيش فيها منتحلًا عدة شخصيات، ويقوم بتأدية مسرحيات متنوعة لنفسه في معظم الأوقات، ولبطل الفيلم ناصر بصفته المتلقي الوحيد، الذي يزوره في أوقات كثيرة.
كما أننا نرى قصة الحرب الثقافية بين المثقفين الكلاسيكيين، والذي يُصبح ناصر واحد منهم بكل غرابة عبر ابتزاز صحفي تعطلت سيارته في الطريق، وبين الحداثيين الذين لا يجدون مقرًّا يمكّنهم الحديث عن أفكارهم فيه سوى سيارة ڤان تتحرك في طرقات الرياض في عام 2002، ونكتشف لاحقًا أن الشاعر ياسر كان واحد منهم أيضًا.
كل ذلك يلتف في أسطورة "سفاح الغراب"، الذي يرتدي عباءة سوداء متجولًا في شوارع الرياض متقمصًا هيئة امرأة؛ ليختار ضحاياه من ربات البيوت تحديدًا، بوصفهن ضحايا قتل فقط. يمكننا رؤية هذه الأحداث الغريبة العشوائية للغاية طوال الفيلم، في لحظات فكاهية حينًا، وفي لحظات غريبة مزعجة في أحيان أخرى، غير أن المخرج محمد السلمان يجعل منها جميعها منهلًا للمشاهد المؤثرة؛ لنفهم من خلالها الحكاية الأساسية. إذ ليست الغرابة في الصمت الذي يسكن ناصر، أو الهدوء الغريب الذي نشعر به من صمت الممثلين، ولا هي ضعف في حوارات الفيلم، بل هي محاولة لوضع المُشاهد في لحظات تفكير فعلية في كل حدث، يتأثر بوضوح بالأحلام والخيالات التي تجوب عقل ناصر. ذلك ما يؤكده خلو الفيلم -تقريبًا- من الموسيقى التصويرية، إلا في أوقات الخيالات والأحلام.
يؤكد الفيلم -في نهايته- على ترابط هذه الأحداث والمسارات الزمنية المتعددة فيه. فالفتاة التي تزور الغرفة رقم 227 باستمرار في فندق اليمامة، تزورها من أجل أبي ياسر نفسه. ونكتشف -في أحد المشاهد الغرائبية المسرحية التي يتقنها الممثل البارع عبد الله الجفال في دور أبي ياسر- أنها الغرفة التي انتحر فيها ياسر. إذ تزور شيخة -كما كان يسميها ناصر ورفيقه أبو صقر- هذه الغرفة باستمرار؛ لشعورها بالذنب تجاه انتحار ياسر الذي عشقها، حيث تكشف قصائدُه، في يوم تأبينه، عذابَه على يد معشوقته، التي كان يدلل عليها بأوصاف عديدة تشبهها بالحمام، وهو صاحب الديوان المنسوب للحداثة بدوره.
ويوضح الفيلم في نهايته أن قصة ناصر هامشية للغاية، وتكمن -في السطح- في اكتشاف قصة عشق ياسر، كما تؤكد قصة انتقام أبي ياسر لإبنه. ونكتشف في النهاية أيضًا أن "سفاح الغراب" هو في الحقيقة الأبُ أبو ياسر، الذي ينتقم من النساء لمعرفته بعذاب ابنه الفنان بسبب الفتاة الغريبة التي لا يُعرف لها أصلٌ ولا نسبٌ، ما أدى إلى انتحاره في نهاية المطاف. غير أن هذا هو سطح الفيلم فقط.
تجتمع الحبكة في سطحها الواضح والمباشر فيما سردت للتو. غير أن الفيلم أعمق من ذلك، وهو في حقيقة الأمر يكتمل بالتفاصيل البصرية والرمزية أكثر من التفاصيل المرتبطة بالحبكة وحدها. حيث يمكننا أن نعكس الفهم السابق للفيلم كله، ونؤكد على محورية قصة ناصر نفسه بمجرد التركيز على التفاصيل البصرية والرمزية.
يحاول ناصر الهروب من أن يكون تيسًا بتبنيه لقب غراب. ويتزامن لقب غراب بشكلٍ مباشرٍ مع حالة الحب والهيام التي يعيشها، ما أدى في نهاية الأمر لطموحٍ -كاذب بالتأكيد- بأن يكون شاعرًا، فيصبح اسمه الفني [ناصر الغراب]. يشرح الفيلم هنا شخصية مأزومة للغاية، يراكم من أزمتها تعامل الأب؛ إذ نجد قسوته التي في الحلم، موجودة في الواقع بعد نجاة ناصر من الحادث في ڤان الحداثيين.
يحاول ناصر أن يكون ياسر دون أن يعلم؛ إذ إنه نسخة مشوّهة منه. ياسر هو شاعر الحب والغرام الذي تمكّن من أن يُوقع هديل -أو شيخة- في حبه. غير أن ناصر يفشل طبعًا في أن يكون الغراب الذي يحب الحمامة.. هديل.
ياسر هو الحداثي الذي ينطلق فعلًا من تجربته وذاته، بينما يتبنى ناصر الأصولية دون أن يعرف شيئًا عنها. بل ويمكن القول أيضًا بأنه يفشل في أن يكون الغراب الآخر، وهو سفاح الغراب.
يؤكد الفيلم أن ناصر ليس غرابًا حتى في انتقامه ونزعاته الإجرامية، إذ أنه بلا قصة، كما يؤكد أبو ياسر: «كل القصص مكررة إلا أنت. أنت ما عندك قصة!» قبل أن يؤكد على انتهاء مسرحيته الأخيرة، وقبل اعتقاله وسط صوت قداس موزارت الجنائزي الأخير العالي والدرامي للغاية.
يقيم الفيلم هذه المتوازيات بشكلٍ رمزي بارع وبصري أنيق. إذ يكتشف ناصر في كل فشلٍ يصيبه أنه يرى تيوسًا. في حادثة الفان كانت مع سيارة بيك آب تحمل تيوسًا، وهذا مرتبط بدرجة كبيرة بزيف شخصيته التي خرجت في الجريدة، وزيف شِعره الذي قاطعه الحادث. يقف أحد التيوس أمام باب الڤان تمامًا فور خروج ناصر منها ممتلئًا بدمائه، كأنه يؤكد على أنه تيس مهما ادَّعى العكس. كما أننا نرى أن لحظة طرد ناصر من وظيفته في الفندق كانت حينما أتى مالك الفندق وبيده تيس يأمر بذبحه في نهاية المشهد. يؤكد لنا الفيلم -ببراعةٍ- على أن ناصر تيسًا وليس غرابًا، كما يقتنع هو بذلك بنهاية الأمر، إذ يوافق على القيام بعملية استئصال ورم الدماغ. ونجد دكتور العملية -ذات نسبة فشل عالية التي قد تؤدي للموت- يردد في بدايتها لناصر، كما لو كان تيسًا على وشك الذبح فعلًا: «نام يا حبيبي.. نااام».
من خلال هذه الشظايا المجتمعة، بالشكل الواضح البديهي في الفيلم بالإضافة للشكل الرمزي البصري، لا تكتمل المعاني تمامًا ولا تنتهي الإحالات. إذ يضع الفيلم أفقًا أبعد -ولو قليلًا- في محاولة فهم الشخصيات وفهم دوافعها. ويؤكد الفيلم هنا على هامشية ناصر من خلال وضعه في المركز. إذ يطرح أسئلةً حيال آفاق الإنسان البسيط مثل ناصر؛ هل بإمكانه أن يكون شيئًا غير أن يكون مثل التيس؟ كما أنه يطرح أسئلة كثيرة حول الحمام والغربان، أو ما يوازيها بيننا.
إذ هل يمكن للفتاة المسالمة فائقة الملائكية والجمال أن تتسبب في الأذى؟ وهل من ذنب على للغراب حينما يأكل قلب الحمام؟ فقلب الحمام -كما تقول إحدى الشخصيات عن حمامة أبي صقر التي قتلها غرابٌ-: «قلب الحمام لذيذ، وأنت تلومه؟». كثيرة هي الإحالات، ما يجعل من الفيلم حالة استثنائية في الساحة السينمائية السعودية بالتأكيد.
هل ينعتق السلمان من أصفاد لانثيموس؟
يُعد المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس أحد أهم المخرجين غير الأميركيين الذي شاركوا في إنتاج الأفلام الأميركية؛ فقد شاركت أفلامه في أهم المهرجانات السينمائية، من ضمنها مهرجان كان مثلًا، كما ترشحت بعض أفلامه لعدة جوائز أوسكار، وفازت بطلة آخر أفلامه بجائزة أفضل ممثلة في دور رئيس.
يصعب إغفال دور لانثيموس في السينما العالمية المعاصرة، كما يصعب الحديث اليوم عن السينما الغرائبية ذات النمط البطيء والساخر والرمزي دون الحديث عن أفلامه. ذلك ما يحيلنا للربط بين غرائبية «أغنية الغراب» ورمزياته وغرائبية أفلام لانثيموس ورمزياتها. وسنختار من بينها فيلمين للحديث عن جانبين رئيسين في فيلم محمد السلمان، وهما «قتل غزال مقدس» (The Killing of a Sacred Deer- 2017) و«جراد البحر»
(The Lobster - 2015).
عديدة هي النبوءات في «أغنية الغراب». بداية من المشهد الأول منه، والذي نرى فيه شريط كاسيت لأغنية بكلمات الشاعر ناصر الغراب. نكتشف بعدها مباشرةً أنه حلم، ومن ثم نكتشف بعد نهاية الفيلم أن ناصر لم يقرر اسمه الفني إلا بعد حلمه ذلك بمدة طويلة. هنا يؤكد الفيلم على النبوءة الأولى التي يأتي بها الفيلم: سيصبح ناصر شاعرًا غنائيًّا، وسيصبح اسمه الفني ناصر الغراب، على الرغم من رفض ناصر مسمى غراب الذي يناديه به رفيقه أبو صقر.
لا تعني هذه النبوءة وحدها كثيرًا، بل وإن لم نراقب أحداث الفيلم بدقة لظننّا أنها خطأ تقني وإخراجي؛ إذ كيف لناصر أن يحلم بناصر الغراب وهو لم يفكر بعد أصلًا في أن يكون شاعرًا غنائيًّا إلا بعد الحلم، وكانت الفكرة صادرة من المغني الطامح بأغنية مكتوبة لأجله، وهو أبو صقر؟ إلا أنها نبوءة ضمن نبوءات متعددة في الفيلم، ما يؤكد أنها ليست خطأً تقنيًّا ولا خطأً في الحبكة. يقصد السلمان هذه النبوءة، تمامًا كما قصد النبوءة الأساسية الأخرى في الفيلم.
قتل الحمامة. نرى نبوءة قتل الحمامة في الفيلم للمرة الأولى حينما نرى اللوحة المعلقة في الغرفة 227 من فندق اليمامة. نجد حمامة واقفة وعلى عنقها خطٌّ أسود، ما لا يمكن تفسيره وقراءته في سياق الفيلم وفي سياق اللوحة إلا تبشيرًا بقطع الرأس، أو القتل على أقل تقدير. ما يؤكد على أن الخط الأسود مقصود وغير عبثي هو اللحظة الفارقة الأساسية التي أشرنا إليها في الفقرات السابقة: الحمامة التي يؤكد أبو صقر أنها تعود إليه دائمًا، يجدها أبو صقر وناصر ورفيق ثالث لهما مذبوحة ومأكول منها قليل على أرض الاستراحة. يتناقش الثلاثة فيما بينهم إذا ما كان القاتل كلبًا أو حيوانًا كهذا، ليجيب ثالثهم أن: «هذا غراب». يسأل أحدهم: «ليش طير ياكل طير؟»، فيجيب الثالث: «قلب الحمام لذيذ، وأنت تلومه؟»، ما يسبق معرفة أبي ياسر -أي سفاح الغراب- بمحتوى الرسالة التي تركتها هديل، حبيبة ابنه ياسر، وما يسبق قتله إياها في غرفة الفندق، معلِّقًا إياها على الجدار، واضعًا عنقها على عنق الحمامة التي في اللوحة ذاتها في الغرفة 227.
يؤكد الفيلم في النبوءتين -كما يؤكد في رمزية التيس- أنه يستشرف الأحداث من خلال رمزيات لا يجب أن يخطئها المشاهد. يذكّرنا ذلك بفيلم لانثيموس «مقتل غزال مقدس» وهو القائم بأكمله على نبوءة وأسطورة إغريقية قديمة.
نرى في فيلم السلمان نفس الغرابة في الحوارات والصمت، وايضًا في الاستشراف كما نراها في فيلم لانثيموس. غير أن النبوءة التي يقوم عليها «مقتل غزال مقدس» هي المؤثر الأساسي؛ حينما يفشل الطبيب في إنقاذ رجل في عملية جراحية مهمة، ما يعتبره ابن الرجل قتلًا للأب، ويطالب الطبيب بقتل أحد أبنائه لتتساوى العائلتان.
النبوءة الأساسية التي يسردها الابن كالتالي: إذا لم يقم الطبيب بقتل أحد أفراد أسرته، فستموت الأسرة كلها عقابًا على فعلته. يسرد ابن الرجل المتوفى الطريقة التي سيموت بها كل فرد من العائلة، بدايةً من المرض وانتهاءًا بالموت.
وطبعًا -بكل رعب ممكن- تتحقق نبوءته كما لو كان إلهًا.
غير أن نبوءات السلمان بسيطة وعابرة جدًّا، لذا هل من العدل أن نقول إنه متأثر بلانثيموس لهذه النبوءات البسيطة بالمقارنة مع نبوءة «مقتل غزال مقدس»؟ طبعًا لا. غير أن التأثر الرئيسي في الفيلم بلانثيموس نجده في فيلم «جراد البحر»، ما يبرر ربط نبوءاته بنبوءة «مقتل غزال مقدس» أيضًا.
يقوم فيلم «جراد البحر» على عالم غريب هو الآخر. إذ نجد أن الإنسان فيه يُودع في مؤسسة غريبة، تفرض عليه إيجاد شريك أو شريكة عاطفية ليستكمل حياته، وإلا سيحُول إلى حيوان. تعطي المؤسسة في «جراد البحر» الحرية لكل فرد في أن يختار الحيوان الذي يريد أن يتحوّل إليه إذا لم يتمكن من الارتباط عاطفيًّا في تلك المؤسسة الشمولية بدرجة كبيرة. يختار الأفراد هنا حيواناتهم، كلٌّ لسببه الخاص، ما يعكس شخصياتهم مثل أن يختار أحدهم أن يكون كلبًا، وآخر أن يكون سمكة صغيرة، ويختار البطل أن يكون جراد البحر.
تتطور حبكة الفيلم برمزية فائقة مرتبطة بالشمولية والايدلوجيات السياسية وما إلى ذلك من رمزيات عديدة مرتبطة بقدرة الحب على تجاوز شمولية الآيدلوجيات، طبعًا، غير أنه في الوقت ذاته يحمل نفس الغرابة الموجودة في «مقتل غزال مقدس». ونجد ارتباطًا وثيقًا بين الفيلمين: يحاول بطل «أغنية الغراب» أن لا يكون تيسًا، ويحاول بطل «جراد البحر» أن لا يتحول إلى حيوان حتى وإن كان من اختياره.
غير أن رمزيات الحيوانات في «أغنية الغراب» تتجاوز التيس. بمعنى نجد تيسًا يريد أن يكون غرابًا وهو ناصر، كما نجد حمامة وهي هديل، ونجد أبا صقر القادر على تذكّر جميع أحرف وأرقام السيارات بنظرة ثاقبة، كما أننا نجد غرابًا يقتل الحمامة وهو أبو ياسر، ونجد طبعًا نعامةً وهو الصحفي خالد. تتعدد الحيوانات في الفيلم تمامًا كما تتعدد الحيوانات في «جراد البحر»، ومعها تتعدد الرمزيات والإحالات المتعددة التي يمكننا أن نفهمها من خلال الحيوانات وما ترمز إليه.
وللإنصاف، يمكننا أن نرى لمسة السلمان الإبداعية في محاولة تكسير أصفاد لانثيموس. لإن الأخير فاقعٌ للغاية في جميع أفكاره سوى فيلمه الأخير«المفضلة» ( 2018- The Favourite). ففي «ناب الكلب» (2009 -Dogtooth) نجد رمزية الشمولية فجة وفاقعة، كما أننا نرى الأجندة المختبئة في «جراد البحر» فجة وفاقعة هي الأخرى، ولا يمكن لفيلمه قبل الأخير «مقتل غزال مقدس» أن يُفهم دون النبوءة التي يقوم عليها من شدة وضوحها. غير أن السلمان يستخدم هذه التقنيات جميعها بخفّة شديدة، وإحالات ذكية لا يحاول أن يصفع بها المشاهد، وهو ما يُحسب له بوصفه مخرجًا وكاتبًا مُبدعًا في أولى تجاربه الطويلة، والتي قد تكون أفضل التجارب السينمائية السعودية حتى الآن، وهو مرشح السعودية في الأوسكار. غير أن التحدي -طبعًا هو هل سيتخلص السلمان من هذا التأثّر، بلانثيموس أو غيره، لنجد لمسته الخاصة والفريدة التي تجعل منه رائدًا لا متأثرًا، كما تجعل من السينما السعودية ذات استقلالية فنية قيّمة؟ فعلى الرغم من جودة الفيلم العالية على كل المستويات، يصعب عدم ربطه بمخرج آخر. يعد الفيلم بمسيرة سينمائية كبيرة لمحمد السلمان، غير أنه هو بذاته يضع شرط تطورها، وهو الشرط الذي تحتاجه السينما السعودية كلها أصلًا ألا وهو: فرادة الأسلوب.