فيلم «الإنتقام لي»: التحفُ تُصنع لتبقى

July 20, 2025

عام 2022 عرض منتدى الأفلام بمركز لينكولن في مدينة نيويورك الأمريكية فيلم «الإنتقام لي» (Vengeance is Mine - 1984) من كتابة وإخراج الألماني-الأمريكي مايكل رومير للمرة الأولى منذ إنتاجه عام 1984، وذلك بحضور المخرج نفسه وسط احتفاء المجتمع السينمائي هناك. لم يُعرَض الفيلم قبل هذه المرَّة سوى في مهرجان برلين السينمائي الدولي ومهرجان لندن السينمائي، لينتهي به المطاف معروضًا تلفزيونيًّا باسمٍ مختلفٍ على قناة  PBS دون أن يحظى بأيِّ انتباهٍ من الصحافة الفنيَّة.

يبدأ الفيلم بصورة مقرَّبةٍ لوجه جو (بروك آدمز) في مشهدٍ يستمرُّ دون انقطاع وهي جالسةٌ في مقعد الطائرة وتعبيراتها المتقلِّبة بين الفرح والحيرة والحزن. نكتشف سريعًا ماضي جو المضطرب، فهي امرأةٌ مطلَّقةٌ حديثًا وعائدةٌ من زيارةٍ قصيرةٍ لمسقط رأسها قبل انتقالها للعمل في ولايةٍ أخرى. تهدف الزيارة إلى محاولة طيِّ صفحةٍ من الماضي والتصالح مع جروحِ طفولتها القاسية التي سبَّبتها والدتها بالتبنِّي المريضة حاليًّا. لا تسير الأمور كما هو مخطَّطٌ لها حين تجد جو نفسها عالقةً في مشاكل عائلةٍ أخرى.

تتشكَّلُ حبكة الفيلم من مزيجٍ من العلاقات الأسريَّة المتشابكة والتوتُّرات النفسيَّة. تفصح جو لعائلتها عن عثورها على والدتها البيولوجيَّة الذي يقابَلُ بلا مبالاة. ما إن يبدأ المُشاهد ببناء توقُّعاته حول مسار الأحداث حتَّى تأخذُ منحى مختلف بعد لقاء جو العنيف بزوجها السابق، لتلجأ لمنزل دونا (تريش فان ديفير) جارة أختها هربًا من إثقالِ كاهل عائلتها بمشاكلها.

في منزل دونا تجد جو الملاذ المؤقَّت وتعيش أجواء عائليَّة دافئة مع دونا وابنتها الصغيرة جاكي (أري مايرز). إلَّا أنَّ هذه الراحة سرعان ما تتلاشى، حيث تبدأ تصرُّفات دونا بالانكشاف عن شخصيَّتها غير المتزنة. وحين يظهر زوج دونا لإنهاء إجراءات الطلاق تدرك جو أنَّ دونا تعاني من اضطراباتٍ نفسيَّةٍ حادَّةٍ ترفض العلاج منها، وأن الانفصال لم يكن رغبةً مشتركة، بل ضرورةً لحماية الابنة. هنا تتحوَّل جو إلى ما يشبه الأم البديلة، وتجدُ نفسها في مواجهةٍ مباشرةٍ مع عواطفها ومع دونا، ومع صدمةٍ سابقةٍ وهي اختطاف طفلها الذي أنجبته في سنِّ المراهقة.

قد يوحي العنوان بفيلم إثارةٍ ورحلة انتقامٍ عنيفة، إلَّا أنَّ الأحداث تسيرُ بإيقاعٍ هادئٍ و تأمُّلي، فالعنوان إشارةٌ لعبارةٍ في الانجيل «الإنتقام لي..أنا أجازي» كدعوةٍ للبشر للصفح والتسامي. وهذا ما تحاول جو تطبيقه عند تجاهل إساءات والدتها وصدامِها مع دونا، حيث تلجئ للصمت والتكتُّم في أغلب المواجهات حتى تنفجر في النهاية.

يعيدُ الفيلم صياغة الميلودراما متخليًّا عن التصوُّرات التقليديَّة للشخصيَّات والعلاقات النسائيَّة ليقدِّم نموذجًا إنسانيًّا أكثر تعقيدًا للصراع الدائر بين جو ودونا والذي يمثِّل جوهر الفيلم. يبتعد رومير عن إصدار الأحكام الأخلاقيَّة المسبقة على شخصيَّاته، فجو ليست بطلةً تقليدية ودوافعها غيرُ نبيلةٍ على الدوام، بل هي مزيجٌ معقَّدٌ من رغباتٍ دفينةٍ في التعويض والإنتقام. وبالمثل فإنَّ دونا ليست المرأة الشريرة النمطيَّة، بل إنسانةٌ ضائعةٌ تكافح في صراعها مع مرضها النفسي ومشاعر حبِّ التملُّك التي تستحوذ عليها.

يعتمد رومير على التصوير شبه الوثائقيِّ والإضاءة الطبيعيَّة الذي قد يبدو أسلوبًا متقشِّفًا، إلا أنَّه يجعل من الفيلم نافذةً تطلُّ على واقعٍ يومي. لا يخلو الفيلم من المشاهد الرمزيَّة على غرار مشهدِ جو مع والدتها القاسية في الكنيسة، والتي تبدو مظلمةً وباردةً كعلاقةِ جو بوالدتها، ومشاهد دونا المضطربة وهي تراقب عائلتها من خارج النافذة في الليل وكأنَّها شبحٌ يطاردُ استقرار هذه العائلة الهشَّة. يعتبرُ الأداء نقطةَ تفوُّقٍ صريحٍ للفيلم، حيث تقدِّمُ بروك آدمز أداءً متَّزنًا يتنقلُ بسلاسةٍ بين القوَّة والهشاشة ويعتبرُ امتدادًا لأسلوبها التمثيلي الهادئ في أفلام من السبعينيات مثل «غزاة الأجساد» (Invasion of the Body Snatchers - 1978) و«أيَّام الجنة» (Days of Heaven - 1978). بينما تجسد تريش فَانْ ديفير شخصيَّةَ دونا بانفعالاتٍ صادقةٍ تربك المشاهد وتستدرُّ عطفه في آنٍ واحد. كما يُلاحظُ أنَّ الموسيقى التصويريَّة نادرةٌ جدًّا في الفيلم، وتستخدم لإضفاء معنى خاص للَّحظات العاطفيَّة.

يعدُّ مايكل رومير، الذي رحل عن عالمنا هذا العام، من مخرجي السينما المستقلَّة المميَّزين في الولايات المتَّحدة الأمريكية. ولد في برلين عام 1928 وهاجر خلال الحرب العالمية الثانية، وهناك درس الفلسفة في جامعة هارفارد. لاقت أفلامه مثل «ليس سوى رجل» (Nothing But a Man - 1964) و«المؤامرة ضد هاري» (The Plot against Harry - 1971) نجاحًا محدودًا عند صدورها، ولكن أعيد اكتشافها فنالت تقديرًا فنيًّا أكبر. وقد أمضى بقية حياته يدرس السينما في جامعة ييل، ناقلًا خبرته ورؤيته الفنيَّة لجيلٍ جديدٍ من الطلاب.

صحيحٌ أنَّه مرَّ أكثر من 40 عام على انتاج «الإنتقام لي»، لكنَّه ما زال يحتفظُ بقيمته الفنيَّة والإنسانيَّة، فالموضوعات التي يطرحها (كالاغتراب العاطفي والأمومة والمرض النفسي) ما زالت جزءًا كبيرًا من حياتنا المعاصرة. توكِّدُ إعادة اكتشاف الفيلم أنَّ بعض الأفلام تحتاج وقتًا لتنضج في الوعي السينمائي، وهو في ذلك يشبه أفلامًا كثيرة قوبلت بالتجاهل في زمنها على غرار «ليلة الصياد» (The Night of The Hunter - 1955) الذي أصبح الآن من كلاسيكيات السينما، و «واندا» (Wanda - 1970) الذي يعتبر اليوم من أهمِّ الأعمال النسائيَّة السينمائيَّة. هذه النماذج تثبتُ أنَّ القيمة الفنيَّة لا تقاس بردَّة الفعل الفوريَّة، إنَّما بقدرة العمل على البقاء وعلى ملامسة الإنسان بعد أن يخبو وهج اللحظة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى