يشعر المشاهد العربي بغصة عند مشاهدة أعمال عن نكبة 48 وحرب 67 وثغرة 73. لكننا قد نختلف في أسباب الشعور بالغصة وفي الزاوية التي نشاهد بها هذه الأعمال.
في تعليقات عديدة على فيلم (جولدا - Golda 2023)، لاحظت كيف أنه شوهد من زاوية المنتصر والمهزوم، والضحية والجلاد، وكأنهم يشاهدون مناظرة بين خصمين وكل جمهور ينتصر للطرف الذي يمثله أو ينتمي إليه. في حين يُفترض أن يكون هذا الفيلم وغيره مناسبة لمشاهدة نقدية يتعلم منها الجمهور العادي والمختص بكتابة النصوص التاريخية، بل ويمكن أن يتعلم منه حتى الساسة.
هذا العمل تاريخي في الأساس، إذ يحتوي على معلومات عسكرية بحاجة إلى تدقيق من قبل المختصين المطلعين على تاريخ وتفاصيل حرب أكتوبر 73. كما يتسم بقدر من الموضوعية في سياق الحديث عن مكاسب وخسائر الطرفين، لكن المغالطات والتلاعب في المعلومات وارد، والأهم هو الرسالة التي يريد الفيلم إبلاغها.
أول المغالطات تأتي في الافتتاحية الوثائقية المكونة من أربع محطات: 48 و 67 و69 و 73. تتمثل المغالطة الأولى بعرض صورة من صحيفة قديمة لإعلان "ميلاد دولة إسرائيل" 1948 وتعليق صوتي عن فرح اليهود بهذا الإعلان. الخريطة المعروضة على الشاشة تحمل كلمتين فقط: إسرائيل و جيروساليم، وهذه خريطة غير صحيحة حتى لو أخذنا بهيئتها اليوم. الموضوعية كانت تقتضي إظهار خريطة لحدود دولة إسرائيل المعترف بها دوليا وقتها، أي ضمن حدود 1947م.
المغالطة التالية تأتي عبر التعليق الصوتي وعناوين الصحف: "تم قصف دولة إسرائيل الوليدة ومصر تأمر بغزوها" "تم غزو إسرائيل من جبهتين". إن عرض حرب 1948 على هذا النحو، بدون سياق تاريخي يوضح سبب الحرب، يرادُ به إظهار إسرائيل كضحية مُعتدَى عليها! الأدهى من ذلك، لم تظهر إسرائيل في حرب 67 كمعتدية، مثلما تشهد وقائع التاريخ، تظهر حرب 67 وكأنها امتداد لحرب 48!
في محطة 69 تتوقف المقدمة الوثائقية عند زيارة جولدا لواشنطن لتبين الصلات بين البلدين. وستُخصص محطة 73 لتكون موضوعًا لقصة الفيلم. وبالتالي فإن هذا الفيلم ليس سيرة ذاتية عن حياة جولدا مائير، بل هو تسجيل وقائع ما جرى خلال العشرين يومًا الأولى من حرب عام 1973م. ستوصف إسرائيل في المقدمة المكتوبة عن هذه المحطة بالمتغطرسة: "دخلت إسرائيل خريف 73 وهي غير مستعدة لمواجهة عواقب غطرستها" ثم سيعرض تبريرات أخرى للإخفاق كما سيأتي.
جميع أحداث القصة منذ هذه اللحظة تبدأ من وجهة نظر مائير نفسها. تسلط الكاميرا على وجه جولدا ليملأ الشاشة. وسنرى هذه الزاوية في لقطات لاحقة لنرى من خلالها ثباتها وقوتها على الرغم من الخسائر التي لحقت بقواتها. لا غبار على أداء هيلين ميرين، في دور جولدا مائير، ولا على الإخراج المحترف. لكن لهذه النوعية من الأفلام قيمة أكبر تتعلق بالموضوع.
تقف مائير أمام لجنة التحقيق أجرانات، في عام 1974، لتجيب على أسئلة اللجنة التي ستقرر في الأخير إخلاء مسؤولية مائير. مع ذلك تعترف مائير بأن دماء من سقطوا في الحرب تقع على عاتقها وستحمل ذنبهم حتى قبرها.
أول ملاحظة للفارق بين طرفي الحرب هي وجود لجنة تحقيق في الجانب الإسرائيلي. بينما ظلت ثغرة الدفرسوار لغزا، على حد علمي، يتم التحقيق فيها ضمن دوائر المذكرات واللقاءات الصحفية ويتم من خلالها توجيه الانتقادات لهذا الطرف أو ذاك. هذا التعتيم في المعلومات وغياب الشفافية يعد احد أسباب ندرة الأعمال السينمائية عن حرب 73.
ثاني ملاحظة هي أن جولدا طُولبت بالتدخل في القرارات العسكرية لكنها رفضت قائلة إنها سياسية وليست عسكرية. تابعتْ كل صغيرة وكبيرة في جبهات القتال لكنها لم تتدخل في القرارات العسكرية وتركت ذلك للخبراء العسكريين. هل حدث هذا في الطرف العربي؟
وثالث ملاحظة هي اكتشاف المُشاهد أن القوة العسكرية ليست كل شيء، بل التخطيط والخديعة واستثمار أخطاء الخصم هو الأهم.
بعد نجاح العبور وإلحاق خسائر فادحة في الجانب الإسرائيلي اكتشف قادة الجيش الإسرائيلي ثغرة تمكنوا عبرها من العبور إلى الضفة الغربية للقناة وتطويق الجيش الثالث وتهديد مدن مصرية مثل الإسماعيلية والقاهرة.
يُنسب تاريخ الهجوم لجاسوس أطلقوا عليه "الكيميائي"! وتنسب جولدا الفضل في الثغرة لمروان. تقصد أشرف مروان! وهذا مستبعد تمامًا؛ لأن اكتشاف ثغرة كهذه يحتاج إلى استطلاع جوي، ولو كان مروان على علم بالثغرة فهذا يعني أن القادة المصرين على علم بها ولتمكنوا من تجنبها.
هناك رغبة لدى الجانب الإسرائيلي في الزج باسم أشرف مروان لتأكيد أنه عميل مزدوج. وقد فعلوا هذا من قبل في فيلم "الملاك" 2018. ربما يكون أشرف مروان قد زودهم بموعد الحرب بطلب من السادات نفسه، وقد فعل ذلك مرات عدة من قبل، كما يحكي فيلم "الملاك"، وكان يتم إلغاء موعد الحرب وذلك من أجل استنزاف العدو في حشد القوات حتى إذا أتى الموعد الحقيقي لن يصدقوه. وقد أثبت هذا التكتيك نجاعته، كما يشير فيلم جولدا. مع ذلك فإن مسألة مراون لازالت لغزًا؛ خاصة أن الجانب المصري لم يكشف عما لديه من معلومات حوله.
لكي يتم تنفيذ العبور لجأ الجيش الإسرائيلي للخداع عن طريق الضغط على سوريا وإيهام الأسد باقتحام دمشق. تأسست خطتهم على أن هذا الضغط سيؤدي لتطوير مصر للهجوم والضغط على الجيش الإسرائيلي من أجل التخفيف عن سوريا، وهذا ما حدث وكانت النتيجة أن تكبد الجيش المصري خسائر فادحة وتم تنفيذ خطة العبور إلى الضفة الغربية، كما يروي الفيلم.
تتضمن أحداث الفيلم اعترافا بالخسائر الإسرائيلية وبتقدم الجيش المصري والسوري. كما يتحدث عن وجود فرصة لإحراز تقدم إضافي للجيش السوري، الذي لم يفعل ذلك لأسباب غير معروفة! ومن مبالغات الفيلم تصوير خوف المسؤولين الإسرائيليين من الهجوم إلى درجة قادت موشي ديان بإصدار الأمر بتجهيز السلاح النووي. ومبالغة أخرى أتت على لسان جولدا عندما عبرت عن خوفها من غزو تل أبيب، مع أنها تعلم أن هدف السادات من الحرب هو تحرير سيناء.. تهدف هذه المبالغة إلى تضخيم قوة الخصم من أجل إيصال رسالة للرأي العالمي عن حجم الخطر الذي يتهدد إسرائيل أمام جارين قادرين على رميها للبحر!
يعمل الفيلم وفق ثيمة منح الخصم قوة لا يستهان بها، والحال في حرب 73 ونجاح العبور واختراق خط بارليف يشهد بذلك. شاهدنا نموذجًا لهذه الثيمة -إبراز قوة الخصم وتوخي قدر من الموضوعية- في مسلسل "وادي الدموع" (Valley of Tears- 2020) الذي يركز موسمه الأول على الجبهة الشمالية للحرب في الجولان السوري، وهناك أخبار عن موسم ثان يركز على الجبهة الجنوبية للقتال مع مصر.
الهدف من اعتماد هذه الثيمة هو إبراز قيمة التحدي والانتصار؛ إذ ليس انتصارا ذلك الذي يتم على خصم ضعيف. في الوقت نفسه يعزو الفيلم إخفاق القوات الإسرائيلية إلى تبريرين: الأول هو عدم أخذ المعلومات الاستخباراتية على محمل الجد، والسبب الثاني هو أن جهاز التنصت الحديث كان متوقفًا عن العمل. يراد من هذا، القول إن تحطيم أسطورة خط بارليف لم يكن ممكنا لو أن القوات الإسرائيلية كانت على أهبة الاستعداد. وقد يكون هذا صحيحًا، لكنها معلومة بلا قيمة؛ فالحرب خداع ومباغتة واستثمار لنقاط الضعف.. إلخ.
المغالطة الأكبر هي ظهور أمريكا في مظهر المحايد، وهذا غير صحيح تاريخًا. وقد صرح السادات بأنه يقاتل أمريكا منذ عشرة أيام وبأنه كان قد رفض كل دعوات وقف إطلاق النار من الاتحاد السوفيتي وبريطانيا وأمريكا وعندما أدرك أنه يقاتل أمريكا لا إسرائيل اضطر لوقف إطلاق النار لتجنب المزيد من الخسائر.
نسي صناع الفيلم الجسر الجوي الأمريكي. في الفيلم، أثناء لقاء هنري كسنجر مع جولدا مائير يقول لها بأنه وزير خارجية أمريكا أولًا ويهودي ثانيًا. ما يعني أن ولاءه قبل كل شيء لأمريكا؛ وكأن الولاء لأمريكا هنا يعني الوقوف على الحياد! يخبرها بضرورة قبولها لوقف إطلاق النار فترفض لأن الوقائع على الأرض ليست في صالحها، ومن أجل تغيير ميزان القوة، يمنحها 18 ساعة؛ لتغيير ذلك الواقع وتحسين شروط التفاوض لاحقًا. وهذا ما يحدث بعبور قوات شارون إلى الضفة الغربية للقناة وتطويق الجيش الثالث وإملاء الشروط على مصر ومنها الاعتراف الإعلامي بتغيير صيغة الخطاب من "الكيان" إلى "دولة إسرائيل".
في الأخير يمكن تصنيف فيلم جولدا في خانة الدعاية الصهيونية التي تردد أسطوانة المظلومية والضحية في كل ما تنتجه هوليوود والسينما العالمية من أعمال. لكنها تصنع ذلك بمهارة حرفية عالية. وهذا ما يغيب عن صناع الأفلام وعن سياسات القوى الناعمة في المنطقة العربية.
الغائب عن المنطقة العربية أيضًا هي العقلية التي استعادت الأرض. وأعني بها عقلية السادات. لا يتحدث الفيلم عن السادات، ولم يُظهره سوى في مشهد وثائقي قصير بعد الحرب وهو يتبادل الحديث والضحكات مع جولدا في الكنيست الإسرائيلي.
ستستنكر العقلية العاطفية السائدة أن يضحك السادات مع العدو وتبادل الهدايا مع جولدا بعد كل هذه التضحيات! لكن السادات كان يعلم جيدا ما تقتضيه السياسة والمصلحة العامة والهدف الذي من أجله شن الحرب. كان بحاجة إلى حرب ليثبت لإسرائيل جديته في الحرب وجديته في السلام. وقد فعلها وحقق الهدف باستعادة أرضه. ومع ذلك لازال العرب حتى اليوم يعبدون من ضيع الأرض لا من استعادها!
تكمن الغصة، بالنسبة لي، في اجترار العرب للعقلية الشعاراتية العاطفية نفسها التي ضيعت الأرض. في الأخير يمكن أن نسأل: ماذا لو لم يوجد السادات أو أنه استمر في اجترار الفحولة الشعاراتية العربية؟ وماذا لو أن بقية العرب استجابوا له وقتها وذهبوا جميعا إلى طاولة السلام من منطلق القوة لا من منطلق الضعف الذي تم لاحقا بعد عقود؟!